الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( فصل في التعزير ) .

                                                                                        هو تأديب دون الحد وأصله من العزر بمعنى الرد والردع كذا في المغرب وفي ضياء الحلوم هو ضرب دون الحد للتأديب . والتعزير التعظيم والنصر قال تعالى { وتعزروه } ا هـ .

                                                                                        فالظاهر أن ما في ضياء الحلوم معناه اللغوي وما في المغرب معناه الشرعي فإنه شرعا لا يختص بالضرب بل قد يكون به وقد يكون بالصفع وبفرك الأذن وقد يكون بالكلام العنيف وقد يكون بنظر القاضي إليه بوجه عبوس وذكر أبو اليسر والسرخسي أنه لا يباح التعزير بالصفع لأنه من أعلى ما يكون من الاستخفاف فيصان عنه أهل الغفلة كذا في المجتبى وفي ضياء الحلوم الصفع الضرب على القفا ولم يذكر محمد التعزير بأخذ المال وقد قيل روي عن أبي يوسف أن التعزير من السلطان بأخذ المال جائز كذا في الظهيرية وفي الخلاصة سمعت عن ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك أو الوالي جاز ومن جملة ذلك رجل لا يحضر الجماعة يجوز تعزيره بأخذ المال ا هـ .

                                                                                        وأفاد في البزازية أن معنى التعزير بأخذ المال على القول به إمساك شيء من ماله عنه مدة لينزجر ثم يعيده الحاكم إليه لا أن يأخذه الحاكم لنفسه أو لبيت المال كما يتوهمه الظلمة إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعي وفي المجتبى لم يذكر كيفية الأخذ وأرى أن يأخذها فيمسكها فإن أيس من توبته يصرفها إلى ما يرى وفي شرح الآثار التعزير بالمال كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ . ا هـ .

                                                                                        والحاصل أن المذهب عدم التعزير بأخذ المال ، وأما التعزير بالشتم فلم أره إلا في المجتبى قال وفي شرح أبي اليسر التعزير بالشتم مشروع ولكن بعد أن لا يكون قاذفا ا هـ .

                                                                                        وصرح السرخسي بأنه ليس في التعزير شيء مقدر بل هو مفوض إلى رأي القاضي لأن المقصود منه الزجر وأحوال الناس مختلفة فيه وفي الشافي التعزير على مراتب أشراف الأشراف وهم العلماء والعلوية بالإعلام وهو أن يقول له القاضي : إنك تفعل كذا وكذا فينزجر به وتعزير الأشراف وهم الأمراء والدهاقين بالإعلام والجر إلى باب القاضي والخصومة وتعزير الأوساط وهم السوقة بالجر والحبس وتعزير الأخسة بهذا كله وبالضرب . ا هـ .

                                                                                        وظاهره أنه ليس مفوضا إلى رأي القاضي [ ص: 45 ] وأنه ليس للقاضي التعزير بغير المناسب لمستحقه وظاهر الأول أن له ذلك ، وقد ذكروا التعزير بالقتل قال في التبيين وسئل الهندواني عن رجل وجد رجلا مع امرأة أيحل له قتله قال : إن كان يعلم أنه ينزجر بالصياح والضرب بما دون السلاح لا وإن كان يعلم أنه لا ينزجر إلا بالقتل حل له القتل وإن طاوعته المرأة حل له قتلها أيضا وفي المنية رأى رجلا مع امرأته وهو يزني بها أو مع محرمه وهما مطاوعتان قتل الرجل والمرأة جميعا . ا هـ .

                                                                                        فقد أفاد الفرق بين الأجنبية والزوجة والمحرم ففي الأجنبية لا يحل القتل إلا بالشرط المذكور من عدم الانزجار بالصياح والضرب وفي غيرها يحل مطلقا وفي المجتبى الأصل في كل شخص إذا رأى مسلما يزني أن يحل له قتله وإنما يمتنع خوفا أن يقتله ولا يصدق في أنه زنى وعلى هذا القياس المكابرة بالظلم وقطاع الطريق وصاحب المكس وجميع الظلمة بأدنى شيء له قيمة وجميع الكبائر والأعونة والظلمة والسعاة فيباح قتل الكل ويثاب قاتلهم . ا هـ .

                                                                                        ولم يذكر المصنف من يقيمه قالوا لكل مسلم إقامته حال مباشرة المعصية ، وأما بعد الفراغ منها فليس ذلك لغير الحاكم قال في القنية رأى غيره على فاحشة موجبة للتعزير فعزره بغير إذن المحتسب فللمحتسب أن يعزر المعزر إن عزره بعد الفراغ منها قال رضي الله عنه قوله : إن عزره بعد الفراغ منها فيه إشارة إلى أنه لو عزره حال كونه مشغولا بالفاحشة فله ذلك وأنه حسن ; لأن ذلك نهي عن المنكر وكل واحد مأمور به وبعد الفراغ ليس بنهي عن المنكر ; لأن النهي عما مضى لا يتصور فيتمخض تعزيرا وذلك إلى الإمام . ا هـ .

                                                                                        وذكر قبله من عليه التعزير إذا قال لرجل : أقم علي التعزير ففعل ثم رفع إلى القاضي فإن القاضي يحتسب بذلك التعزير الذي أقامه بنفسه . ا هـ .

                                                                                        وفي المجتبى فأما إقامة التعزير فقيل لصاحب الحق كالقصاص وقيل للإمام ; لأن صاحب الحق قد يسرف فيه غلظا بخلاف القصاص ; لأنه مقدر بخلاف التعزير الواجب حقا لله تعالى حيث يتولى إقامته كل أحد بحكم النيابة عن الله تعالى . ا هـ .

                                                                                        وفي القنية ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا أنهما يعزران [ ص: 46 ] بإقامة التعزير بالبادي منهما ; لأنه أظلم والوجوب عليه أسبق ا هـ

                                                                                        [ ص: 44 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 44 ] فصل في التعزير ) .

                                                                                        ( قوله فالظاهر أن ما في ضياء الحلوم إلخ ) قال في النهر وفي القاموس إنه من أسماء الأضداد يطلق على التفخيم والتعظيم وعلى التأديب وعلى أشد الضرب وعلى ضربه دون الحد ا هـ .

                                                                                        قال ابن حجر المكي الظاهر أن هذا الأخير غلط لأن هذا وضع شرعي لا لغوي إذ لم يعلم إلا من جهة الشرع فكيف نسب إلى أهل اللغة الجاهلين بذلك من أصله والذي في الصحاح بعد تفسيره بالضرب ومنه سمي ضرب ما دون الحد تعزيرا فأشار إلى أن هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية بزيادة قيد هو كون ذلك الضرب دون الحد الشرعي فهو كلفظ الصلاة والزكاة ونحوهما المنقولة لوجود المعنى اللغوي فيها وزيادة وهذه دقيقة مهمة تفطن لها صاحب الصحاح وغفل عنها صاحب القاموس وقد وقع له نظير ذلك كثيرا وهو غلط يتعين التفطن له ا هـ .

                                                                                        ( قوله : فيصان عنه أهل الغفلة ) كذا في بعض النسخ وفي بعضها القبلة وهو المناسب لأن الصفع شرع لأهل الذمة عند أداء الجزية تأمل ( قوله : وصرح السرخسي بأنه ليس في التعزير شيء مقدر إلخ ) أي في أنواعه فإنه يكون بالضرب وغيره أما إن اقتضى رأيه الضرب فلا يزيد على تسعة وثلاثين كما يأتي عن الفتح عند قوله : وأكثر التعزير إلخ ( قوله : وأحوال الناس فيه مختلفة ) فمنهم من ينزجر بالنصيحة ومنهم باللطمة ومنهم من يحتاج إلى الضرب ومنهم من يحتاج إلى الحبس كذا في الفتح

                                                                                        ( قوله : وظاهره أنه ليس مفوضا إلخ ) قال في النهر وينبغي أن لا يكون ما في الشافي على إطلاقه فإن من كان من أشرف الأشراف لو ضرب غيره فأدماه لا يكتفى بتعزيره بقول القاضي ما مر إذ لا ينزجر بذلك وقد رأيت بعض القضاة من الإخوان من أدبه بالضرب بذلك وأرى أنه صواب ا هـ .

                                                                                        أقول : يمكن أن يكون ما في الشافي بيانا لما تضمنه القول الأول قال الزيلعي ثم هو قد يكون بالحبس وقد يكون بالصفع وبتعريك الأذن وقد يكون بالكلام العنيف أو بالضرب وقد يكون بنظر القاضي إليه بوجه عبوس وليس فيه شيء مقدر وإنما هو مفوض إلى رأي الإمام على ما يقتضي جنايتهم فإن العقوبة فيه تختلف باختلاف الجناية فينبغي أن يبلغ غاية التعزير في الكبيرة كما إذا أصاب من الأجنبية كل محرم سوى الجماع أو جمع السارق المتاع في الدار ولم يخرجه وكذا ينظر في أحوالهم فإن من الناس من ينزجر باليسير ومنهم من لا ينزجر إلا بالكثير وذكر في النهاية التعزير على مراتب إلخ فقوله وذكر في النهاية إلخ [ ص: 45 ] يصلح بيانا لقوله وكذا ينظر في أحوالهم فصار حاصل القول بالتفويض إلى رأي الإمام أن ينظر إلى الجناية وإلى حال الجاني ، فإذا كانت الجناية صغيرة والجاني ذا مروءة ممن ينزجر بمجرد الإعلام لا يزاد عليه بخلاف ما إذا كانت جنايته كبيرة كاللواطة أو شرب الخمر ، فإن هذا لا يصدر من ذي مروءة ، وإن كان هو من الأشراف فلا ينبغي أن يقال : إنه يكفي فيه مجرد الإعلام وما في الشافي والنهاية لا ينافي ذلك ; لأن نحو العلماء والعلوية يراد بهم من جنايته صغيرة صدرت منه على وجه الزلة والندور ولذا قال في الخانية وغيرها : لو كان ذا مروءة أول ما فعل يوعظ استحسانا ولا يعزر وقال الناطفي إذا تكرر منه يضرب التعزير ، فإن هذا ظاهر في أن تكرار ذلك منه يخرجه عن كونه ذا مروءة فكذا ما كان معصية شنيعة لا تصدر عادة من ذي مروءة والمراد كما في الفتح بالمروءة الدين والصلاح وما مر عن النهر يؤيد ما قلناه .

                                                                                        ( قوله : فقد أفاد الفرق إلخ ) قال في النهر لا نسلم أن ما عن الهندواني نص في الأجنبية لم لا يجوز أن يكون المعنى بامرأة له وخصها لتعم الأجنبية بالأولى ويدل على ذلك ما في حدود البزازية من وجد مع امرأته رجلا إن كان ينزجر بالصياح وبما دون السلاح لا يحل قتله ، وإن كان لا ينزجر إلا بالقتل حل قتله ، وإن طاوعته حل قتلها أيضا وهذا نص على أن التعزير والقتل يليه غير المحتسب ا هـ .

                                                                                        وبهذا يندفع التدافع بين كلامي الهندواني ويجوز أن يقال نكر المرأة دلالة على أنه لا فرق بين الزوجة والأجنبية ، وقد أفصح عن ذلك في الخانية حيث قال رأى رجلا يزني بامرأته أو بامرأة رجل آخر وهو محصن فصاح به ولم يهرب ولم يمتنع عن الزنا حل لهذا الرجل قتله ، وإن قتله فلا قصاص عليه وذكر مثله في السرقة حيث قال رأى رجلا يسرق ماله فصاح به أو ينقب حائطه أو حائط غيره وهو معروف بالسرقة فصاح به ولم يهرب حل قتله ولا قصاص عليه . ا هـ .

                                                                                        وغاية الأمر أن ما في منية المفتي وعليه جرى الخبازي في مختصر المحيط مطلقا لكن يجب حمله على التقييد توفيقا بين كلامهم ومن هنا جزم ابن وهبان في نظمه بالشرط المذكور مطلقا وهو الحق واعلم أنه في الخانية شرط في جواز قتل الزاني أن يكون محصنا وفي السارق أن يكون معروفا بالسرقة وبالأول جزم الطرسوسي ورده ابن وهبان بأنه ليس من الحد بل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو حسن ، فإن هذا المنكر حيث تعين القتل طريقا في إزالته فلا معنى لاشتراط الإحصان فيه ولذا أطلقه البزازي

                                                                                        ( قوله : وذكر قبله إلخ ) قال في النهر هذا محمول في حق العبد على أنهما حكماه ففي فتح القدير الذي يجب حقا للعبد لتوقفه على الدعوى لا يقيمه إلا الحاكم إلا أن يحكما فيه ( قوله : وفي القنية ضرب غيره بغير حق إلخ ) قال الرملي قدم أنهما إذا تشاتما تكافأ إذا لم يكن بين يدي القاضي فراجعه في شرح قوله ولو قال يا زاني وعكس حدا فاعلمه . ا هـ .

                                                                                        قلت محمل ما مر على ما إذا قال له [ ص: 46 ] يا خبيث مثلا فرد عليه به فيحصل التكافؤ كما أشار إليه المؤلف هناك أما الضرب فلا تكافؤ فيه لتفاوته وهو ظاهر .




                                                                                        الخدمات العلمية