الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وصاروا كالمرتدين ) أي صار أهل الذمة بالالتحاق أو بالغلبة كالمرتدين في قتلهم ودفع ما لهم لورثتهم لأنه التحق بالأموات لتباين الدار قيدنا التشبيه في الشين لأن بينهما فرقا من جهة أخرى وهو أن الذمي بعد الالتحاق يسترق ولا يجبر على قبول الذمة ذكرا كان أو أنثى كما في المحيط بخلاف المرتد حيث لا يسترق ويجبر على الإسلام لأن كفر المرتد أغلظ وسيأتي أن المرتدة تسترق بعد اللحاق رواية واحدة وقبله في رواية وأفاد بالتشبيه أن المال الذي ألحق به بدار الحرب فيء كالمرتد ليس لورثتهما أخذه بخلاف ما إذا رجع إلى دار [ ص: 126 ] الإسلام بعد اللحاق وأخذ شيئا من ماله ولحق بدار الحرب فإنه يكون لورثته لأنه ما لهم باللحاق الأول والأحسن أن لا يقيد التشبيه بالشين فقط كما فعل الشارحون وإنما يبقى على إطلاقه ويستثنى منه مسألة الاسترقاق وعدم الجبر لما علمت من مسألة المال الذي لحق به دار الحرب ولما في المحيط أن أهل الذمة إذا انتقض عهدهم ثم عادوا إلى الذمة أخذوا بحقوق كانت قبل النقض من القصاص والمال لأنه حق التزمه بعقد الذمة فلا يسقط بصيرورته حربا علينا ولم يؤخذوا بما أصابوا في المحاربة وكذلك المرتدون لأنهم بنقض العهد والردة التحقوا بسائر أهل الحرب وما أصاب أهل الحرب من دمائنا وأموالنا لا يؤاخذون بذلك متى أسلموا كذا هذا ا هـ .

                                                                                        ولما في فتح القدير أنه كالمرتد في الحكم بموته باللحاق وإذا تاب تقبل توبته وتعود ذمته ولا يبطل أمان ذريته بنقض عهده وتبين منه زوجته الذمية التي خلفها في دار الإسلام إجماعا ويقسم ماله بين ورثته ا هـ .

                                                                                        والحاصل أنه إذا أخذ أسيرا بعد الظهور فقد استرق ولا يتصور منه جزية كما صرح به في فتح القدير آخرا وإذا جاء من نفسه نائبا عادت ذمته كما أفاده أولا وفي فتح القدير أيضا فإن عاد بعد الحكم باللحاق ففي رواية يكون فيئا وفي رواية لا ا هـ .

                                                                                        ويحمل على ما إذا لم يعد تائبا فقد علمت أن التشبيه في سبعة أشياء كما لا يخفى ( قوله ويؤخذ من تغلبي وتغلبية ضعف زكاتنا ) أي المسلمين وتغلب بن وائل من العرب ومن ربيعة تنصروا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ثم زمن عمر رضي الله عنه دعاهم عمر إلى الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض الصدقة فقال لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس شديد وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوا بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر رضي الله عنه في طلبهم وضعف عليهم فأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على ذلك ثم الفقهاء ففي كل أربعين شاة شاتان ولا زيادة حتى تبلغ مائة وعشرين ففيها أربع شياه وعلى هذا في البقر والإبل كذا في فتح القدير أفاد بتسويته بين الذكر والأنثى إلى أن المأخوذ وإن كان جزية في المعنى فهو واجب بشرائط الزكاة وأسبابها إذ الصلح وقع على ذلك فلا يراعى فيه شرائط الجزية من وصف اللقطات فتقبل من النائب ويعطي جالسا إن شاء ولا يؤخذ بتلبيبه ولا يهز والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يخص الجزية وخرج الصبي والمجنون لا يؤخذ من مواشيهم وأموالهم لعدم وجوب الزكاة عليهم عندنا بخلاف أرضهم فيؤخذ خراجها لأنها وظيفة الأرض وليست عبادة .

                                                                                        وفي التتارخانية معزيا إلى الحجة لو حدث ولد ذكر بين نجراني وبين تغلبي من جارية بينهما وادعياه جميعا معا فمات الأبوان وكبر الولد لم تؤخذ منه الجزية وذكر في السير إن مات التغلبي أولا تؤخذ منه جزية أهل نجران وإن مات النجراني أولا تؤخذ منه جزية بني تغلب وإن ماتا معا يؤخذ النصف من هذا والنصف من ذاك ا هـ .

                                                                                        واقتصر في الخانية على ما في السير والتغلبي بالتاء المثناة الفوقية والغين المعجمة وفي كتاب الخراج لأبي يوسف أن عمر رضي الله عنه حين صالحهم شرط عليهم أن لا يغمسوا أحدا من أولادهم في النصرانية ( قوله ومولاه كمولى القرشي ) أي ومعتق التغلبي ومعتق القرشي واحد في عدم التبعية للأصل فيوضع الخراج والجزية على معتقهما لأن الصدقة لمضاعفة تخفيف والمعتق لا يلحق بالأصل فيه ألا ترى أن الإسلام أعلى أسباب التخفيف ولا تبعية فيه .

                                                                                        قيد بهما لأن مولى الهاشمي كالهاشمي في حرمة الصدقة عليه لأنه ليس تخفيفا بل تحريم والحرمات تثبت بالشبهات فالحق مولى الهاشمي به وبه بطل قياس زفر مولى التغلبي على مولى الهاشمي لكن نقض بمولى الغني تحرم الصدقة عليه ولم تنفذ إلى مولاه [ ص: 127 ] الفقير ودفع بأن الغني أهل للصدقة في الجملة وإنما الغني مانع عن الإسقاط عن المعطي ولم يتحقق المانع في حق مولاه فخص السيد أما الهاشمي فليس أهلا لهذه الصدقة أصلا لشرفه ولذا لا يعطى لو كان عاملا بخلاف الغني فالحق مولاه به لأن التكريم أن لا تنسب إليه الأوساخ بنسبة وأما قوله عليه السلام مولى القوم منهم فإنما هو في حكم خاص وهو عدم الزكاة إليه بدليل الإجماع على أن مولى الهاشمي لا ينزل منزله في الكفاءة للهاشمية والإمامة ( قوله والجزية والخراج ومال التغلبي وهدية أهل الحرب وما أخذنا منهم بلا قتال يصرف في مصالحنا كسد الثغور وبناء القناطر والجسور وكفاية القضاة والعلماء والعمال والمقاتلة وذراريهم ) لأنه مال بيت المال فإنه وصل للمسلمين بغير قتال وهو معد لمصالح المسلمين وهؤلاء عملتهم ونفقة الذراري على الآباء فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب وفائدة ذلك أنه لا يخمس ولا يقسم بين الغانمين كذا في الجوهرة وفيها معزيا إلى الذخيرة إنما يقبل الإمام هدية أهل الحرب إذا غلب على ظنه أن المشرك وقع عنده أن المسلمين يقاتلون لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين لا لطلب الدنيا أما من كان من المشركين يغلب على الظن أنه يظن أن المسلمين يقاتلون طمعا لا يقبل هديته وإنما يقبل من شخص لا يطمع في إيمانه لو ردت هديته أما من طمع في إيمانه إذا ردت هديته لا يقبل منه ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن ظاهر المتون أن الذراري يعطون بعد موت آبائهم كما يعطون في حياتهم وتعليل المشايخ يدل على أنه مخصوص بحياة آبائهم ولم أر نقلا صريحا في الإعطاء بعد موت آبائهم حالة الصغر . والثغور جمع ثغر وهو موضع بحافة البلدان والقنطرة ما لا يرفع والجسر ما يرفع كذا في العناية والضمير في قوله منهم يعود إلى الكفار فيشمل ما يأخذه العاشر من أهل الحرب وأهل الذمة إذا مروا عليه ومال نجران وما صولح عليه أهل الحرب على ترك القتال قبل نزول العسكر بساحتهم وأفاد بالتمثيل إلى أنه يصرف أيضا هذا النوع لنحو الكراع والسلاح والعدة للعدو وحفر أنهار العامة وبناء المساجد والنفقة عليها ذكره قاضي خان في فتاويه من كتاب الزكاة فقد أفاد من أن المصالح بناء المساجد والنفقة عليها فيدخل فيه الصرف على إقامة شعائرها من وظائف الإمامة والأذان ونحوهما وفي المحيط أن هذا النوع يصرف إلى أرزاق الولاة وأعوانهم وأرزاق القضاة والمفتين والمحتسبين والمسلمين وكل من تقلد شيئا من أمور المسلمين وإلى ما فيه صلاح المسلمين ا هـ .

                                                                                        وفي التجنيس ذكر من المصارف المعلمين والمتعلمين فقال في فتح القدير وبهذا يدخل طلبة العلم بخلاف المذكورين هنا لأنه قبل أن يتأهل عامل لنفسه لكن ليعمل بعده للمسلمين ا هـ .

                                                                                        وفي فتاوى قاضي خان من الخطر والإباحة سئل علي الرازي عن بيت المال هل للأغنياء فيه نصيب قال لا إلا أن يكون عاملا أو قاضيا وليس للفقهاء فيه نصيب إلا فقيه فرغ نفسه لتعليم الناس الفقه أو القرآن ا هـ .

                                                                                        فيحمل ما في التجنيس على ما إذا فرغ نفسه لذلك بأن صرف غالب أوقاته في العلم وليس مراد الرازي الاقتصار على العامل أو القاضي بل أشار بهما إلى كل من فرغ نفسه لعمل المسلمين فيدخل الجندي والمفتي فيستحقان الكفاية مع الغني وفي الظهيرية من كتاب الزكاة ويبدأ من الخراج بأرزاق المقاتلة وأرزاق عيالهم فإذا فضل شيء يجوز أن يصرف إلى الفقراء ويجوز صرف الخراج إلى نفقة الكعبة وفي المنتقى أن تركة أهل الذمة كالخراج ا هـ .

                                                                                        والضمير في قوله وذراريهم يعود إلى الكل من القضاة والعلماء والمقاتلة لأن العلة تشمل الكل كما ذكره مسكين وفي عبارة الهداية ما يوهم اختصاصه بالمقاتلة وليس كذلك وفي المحيط من الزكاة والرأي إلى الإمام من تفضيل وتسوية من غير أن يميل في ذلك إلى هوى ولا يحل لهم إلا ما يكفيهم [ ص: 128 ] ويكفي أعوانهم بالمعروف وإن فضل من المال شيء بعد إيصال الحقوق إلى أربابها قسموه بين المسلمين فإن قصروا في ذلك وقعدوا عنه كان الله حسيبا عليهم ا هـ .

                                                                                        وفي مآل الفتاوى لكل قارئ في كل سنة مائتا دينار أو ألفا درهم إن أخذها في الدنيا وإلا يأخذها في الآخرة ا هـ .

                                                                                        والمراد بالقارئ المفتي لما في الحاوي القدسي ولم يقدر في ظاهر الرواية قدر الأرزاق والأعطية سوى قوله ما يكفيهم وذراريهم وسلاحهم وأهاليهم وما ذكر في الحديث لحافظ القرآن وهو المفتي اليوم مائتا دينار وعن عمر رضي الله عنه أنه زاد فيه دليل على قدر الكفاية ا هـ .

                                                                                        وفي القنية ومن كتاب الوقف كان أبو بكر رضي الله عنه يسوي في العطاء من بيت المال وكان عمر رضي الله عنه يعطيهم على قدر الحاجة والفقه والفضل والأخذ بما فعله عمر رضي الله عنه في زماننا أحسن فتعتبر الأمور الثلاثة ا هـ .

                                                                                        وفي موضع آخر منها له حظ في بيت المال ظفر بما هو وجه لبيت المال فله أن يأخذه ديانة وللإمام الخيار في المنع والإعطاء في الحكم ا هـ .

                                                                                        وفي الظهيرية السلطان إذا جعل خراج الأرض لصاحب الأرض وتركه له جاز في قول أبي يوسف خلافا لمحمد والفتوى على قول أبي يوسف إذا كان صاحب الأرض من أهل الخراج وعلى هذا التسويغ للقضاة والفقهاء ولو جعل العشر لصاحب الأرض لم يجز في قولهم وفي الحاوي القدسي ما يخالفه وأنه قال وإذا ترك الإمام خراج أرض رجل أو كرمه أو بستانه ولم يكن أهلا لصرف الخراج إليه عند أبي يوسف يحل له وعليه الفتوى وعند محمد لا يحل له وعليه رده وهذا يدل على أن الجاهل إذا أخذ من الجوالي شيئا يجب عليه رده لقول محمد رحمه الله لا يحل وعليه أن يرده إلى بيت المال أو إلى من هو لذلك كالمفتي والقاضي والجندي وإن لم يفعل إثم ا هـ .

                                                                                        ومن هنا يعلم حكم الإقطاعات من أراضي بيت المال فإن حاصلها أن الرقبة لبيت المال والخراج لمن أقطع له فلا ملك للمقطع فلا يصح بيعه ووقفه وإخراجه عن الملك وقد صرح به العلامة قاسم في فتاويه وأن له الإجارة تخريجا على إجارة المستأجر وإجارة العبد الذي صولح على خدمته مدة معلومة وإجارة الموقوف عليه الغلة وإجارة العبد المأذون وإن لم يملكوا الرقبة لملك المنفعة وصرح بأنه إذا مات الجندي أو أخرج السلطان الإقطاع عنه تنفسخ الإجارة ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن أموال بيت المال أربعة أحدها ما ذكرناه الثاني والعشر ومصرفهما ما بين في باب المصرف من الزكاة الثالث خمس الغنائم وقد تقدم مصرفه في كتاب السير والرابع اللقطات والتركات التي لا وارث لها وديات مقتول لا ولي له ولم يذكره المصنف قالوا مصرفه اللقيط الفقير والفقراء الذين لا أولياء لهم يعطون منه نفقتهم وأدويتهم ويكفن به موتاهم ويعقل به جنايتهم وعلى الإمام أن يجعل لكل نوع من هذه الأنواع بيتا يخصه فلا يخلط بعضه ببعض لأن لكل نوع حكما يختص به فإن لم يكن في بعضها شيء فللإمام أن يستقرض عليه من النوع الآخر ويصرفه إلى أهل ذلك ثم إذا حصل من ذلك النوع شيء رده إلى المستقرض منه إلا أن يكون المصروف من الصدقات أو من خمس الغنيمة على أهل الخراج وهم فقراء فإنه لا يرد فيه شيئا لأنهم مستحقون للصدقات بالفقر وكذا في غيره إذا صرفه للمستحق ويجب على الإمام أن يتقي الله تعالى ويصرف إلى كل مستحق قدر حاجته من غير زيادة فإن قصر في ذلك كان الله عليه حسيبا كذا في التبيين وفي الحاوي القدسي والمحيط ولا شيء لأهل الذمة في بيت مال المسلمين إلا أن يكون ذميا يهلك لضعفه فيعطيه الإمام منه قدر ما يسد جوعته ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله حتى تبلغ مائة وعشرين ) هكذا في النسخ وأريته كذلك في الفتح والعناية والظاهر أن فيه سقطا والأصل مائة وإحدى وعشرين كما يعلم مما قرر في كتاب الزكاة وعبارة غاية البيان إلى عشرين ومائة فإذا زادت شاة ففيها أربع من الغنم [ ص: 127 ] ( قوله ولم أر نقلا صريحا في الإعطاء إلخ ) قال بعض محشي الدر المختار نقل الشيخ عيسى الصفني في رسالته ما نصه قال أبو يوسف في كتاب الخراج أن من كان مستحقا من بيت المال وفرض له استحقاقه فيه فإنه يفرض لذريته أيضا تبعا له ولا يسقط بموته وقال صاحب الحاوي الفتوى على أنه يفرض لذراري العلماء والفقهاء والمقاتلة ومن كان مستحقا في بيت المال ولا يسقط ما فرض لذراريهم بموتهم ا هـ .

                                                                                        قلت ولم أر ذلك في الحاوي القدسي فلعله الحاوي الزاهدي وجعل المقدسي إعطاءهم بالأولى قال لشدة احتياجهم سيما إذا كانوا يجتهدون في سلوك طريق آبائهم .

                                                                                        ( قوله كما ذكره مسكين ) صوابه العيني فإن عبارة مسكين نصها أي ذراري [ ص: 128 ] المقاتلة ونص عبارة العيني الظاهر أن ضمير ذراريهم يرجع إلى الكل لأن التعليل في المقاتلة موجود في الكل ونحوه في شرح القراحصاري كما في حاشية أبي السعود ( قوله أنه زاد فيه دليل على قدر الكفاية ) كذا في النسخ والذي رأيته في الحاوي أنه زاد فيه بدون ما بعده من قوله دليل إلخ ( قوله وفي الحاوي القدسي ما يخالفه ) قال في النهر ما نقله في الحاوي القدسي مخالف لما نقله العامة عن أبي يوسف ا هـ .

                                                                                        وقال الرملي الظاهر أن في عبارة الحاوي سقطا وأصلها لا يحل وإن كان أهلا لصرف الخراج إليه عند أبي يوسف يحل له إلخ وذلك لأن النقول متظاهرة على تقييده بالأهل




                                                                                        الخدمات العلمية