الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وما دون ربع الثوب من مخفف كبول ما يؤكل والفرس وخرء طير لا يؤكل ) أي عفي ما كان من النجاسات أقل من ربع الثوب المصاب إذا كانت النجاسة مخففة ; لأن التقدير فيها بالكثير الفاحش للمنع على ما روي عن أبي حنيفة على ما هو دأبه في مثله من عدم التقدير وهو ما يستكثره الناظر ويستفحشه حتى روى عنه أنه كره تقديره ، وقال الفاحش يختلف باختلاف طباع الناس لكن لما كان الربع ملحقا بالكل في بعض الأحكام كمسح الرأس وانكشاف العورة ألحق به هنا وبالكل يحصل الاستفحاش فكذا بما قام مقامه وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا وصححه الشارح وغيره وفي الهداية وعليه الاعتماد واختاره في فتح القدير وقال إنه أحسن لاعتبار الربع كثيرا كالكل ، ثم اختلفوا في كيفية اعتبار الربع على ثلاثة أقوال فقيل ربع طرف أصابته النجاسة كالذيل والكم [ ص: 246 ] والدخريص إن كان المصاب ثوبا وربع العضو المصاب كاليد والرجل إن كان بدنا وصححه صاحب التحفة والمحيط والبدائع والمجتبى والسراج الوهاج وفي الحقائق وعليه الفتوى

                                                                                        وقيل ربع جميع الثوب والبدن وصححه صاحب المبسوط وقيل ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر وهو رواية عن أبي حنيفة قال شارح القدوري الإمام البغدادي الأقطع وهذا أصح ما روى فيه من غيره . ا هـ .

                                                                                        لكنه قاصر على الثوب ولم يفد حكم البدن فقد اختلف التصحيح كما ترى لكن ترجح الأول بأن الفتوى عليه وفي فتح القدير ما يقتضي التوفيق بين القولين الأخيرين بأن يكون المراد من اعتبار ربع جميع الثوب الساتر لجميع بدن الذي هو عليه ، وإن كان الذي هو عليه أدنى ما تجوز فيه الصلاة اعتبر ربعه ; لأنه الكثير بالنسبة إلى المصاب . ا هـ .

                                                                                        وهو حسن جدا ولم ينقل القول الأول أصلا ومثل المصنف للمخففة بثلاثة الأول ببول ما يؤكل لحمه وهو مخفف عندهما طاهر عند محمد لحديث العرنيين وأبو يوسف قال بالتخفيف لاختلاف العلماء على أصله وأبو حنيفة قال به أيضا لتعارض النصين وهما حديث العرنيين وحديث { استنزهوا البول } وفي الكافي

                                                                                        فإن قيل تعارض النصين كيف يتحقق وحديث العرنيين منسوخ عنده قلنا : إنه قال ذلك رأيا ولم يقطع به فتكون صورة التعارض قائمة . ا هـ .

                                                                                        وهو أحسن مما أجاب به في النهاية فإن صاحب العناية قد رده فليراجعا . الثاني بول الفرس وهو داخل فيما قبله لكن لما كان في أكل لحمه اختلاف صرح به لئلا يتوهم أنه داخل في بول ما لا يؤكل لحمه عند الإمام فيكون مغلظا وليس كذلك فإنه مخفف عندهما طاهر عند محمد كبول ما يؤكل لحمه ، وإنما كره لحمه إما تنزيها أو تحريما مع اختلاف التصحيح ; لأنه آلة الجهاد لا لأن لحمه نجس بدليل أن سؤره طاهر اتفاقا . والثالث خرء طير لا يؤكل ، وقد اختلف الإمامان الهندواني والكرخي فيما نقلاه عن أئمتنا فيه فروى الهندواني أنه مخفف عند الإمام مغلظ عندهما وروى الكرخي أنه طاهر عندهما مغلظ عند محمد وقيل إن أبا يوسف مع أبي حنيفة في التخفيف أيضا فاتفقوا على أنه مغلظ عند محمد ، وأما أبو يوسف فله ثلاث روايات الطهارة والتغليظ والتخفيف ، وأما أبو حنيفة فروايتان التخفيف والطهارة ، وأما التغليظ فلم ينقل عنه وصحح قاضي خان في شرح الجامع الصغير [ ص: 247 ] إنه نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف حتى لو وقع في الماء القليل أفسده وقيل لا يفسد لتعذر صون الأواني عنه وصحح الشارح وجماعة رواية الهندواني فالتخفيف عنده لعموم البلوى وهي موجبة للتخفيف ، وأما التغليظ عندهما فاستشكله الشارح الزيلعي بأن اختلاف العلماء يورث التخفيف عندهما ، وقد وجد فإنه طاهر في رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف فكان للاجتهاد فيه مساغ . ا هـ .

                                                                                        وقد يجاب عنه بضعف رواية الطهارة كما قدمناه ، وإن صححها بعضهم كما سيأتي فلم يعد اختلافا وصحح صاحب المبسوط رواية الكرخي وهي الطهارة عندهما وكذا صححه في الدقائق والأولى اعتماد التصحيح الأول لموافقته لما في المتون ولهذا قال شارح المنية تلميذ المحقق ابن الهمام تصحيح النجاسة أوجه ووجهه المحقق في فتح القدير بأن الضرورة فيه لا تؤثر أكثر من ذلك فإنه قل أن يصل إلى أن يفحش فيكفي تخفيفه . ا هـ .

                                                                                        والخرء واحد الخروء ، مثل قرء وقروء وعن الجوهري بالضم كجند وجنود والواو بعد الراء غلط والهندواني بضم الهاء في نسخة معتبرة وفي المنظومة للنسفي بكسرها وهذه النسبة إلى الهندوان بكسر الهاء حصار ببلخ يقال له باب الهندواني ينزل فيه الغلمان والجواري التي تجلب من الهندوان فلعله ولد هناك كذا في الحقائق وفي الفتاوى الظهيرية ، وإن أصابه بول الشاة وبول الآدمي تجعل الخفيفة تبعا للغليظة . ا هـ . .

                                                                                        [ ص: 246 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 246 ] ( قوله : والدخريص ) قال الشيخ إسماعيل النابلسي رحمه الله هو بكسر الدال المهملة وسكون الخاء المعجمة بالصاد المهملة قيل هو معرب وقيل عربي وهو عند العرب البنيقة والدخرص والدخروصة لغة والجمع دخارص كما في المصباح . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : لكن ترجح الأول إلخ ) قال في النهر وكلام المصنف يعطي اعتبار ربع جميع الثوب قال في المبسوط وهو الأصح ، ثم قال وما في الكتاب أولى لما مر ولا شك أن ربع المصاب ليس كثيرا فضلا عن أن يكون فاحشا ولضعف وجه هذا القول لم يعرج عليه في فتح القدير ( قوله وفي فتح القدير ما يقتضي التوفيق إلخ ) قال في النهر أقول : فيه نظر بل إنما فيه تقييد حسن لمحل الخلاف وذلك أن اعتبار ربع الجميع محله ما إذا كان لابسا له ، أما إذا لم يكن عليه إلا ثوب تجوز به الصلاة اعتبر ربعه اتفاقا ومقتضى القول الثاني أنه لو كان عليه ثوب كامل فتنجس منه أقل من الربع إلا أنه لو اعتبر بأدنى ثوب تجوز فيه الصلاة بلغ سنه ربعا منع . ا هـ .

                                                                                        أقول : وهو المتبادر في بادي النظر من عبارة الفتح حيث ذكر ذلك على صورة التقييد والاستدراك على الإطلاق وعبارته هكذا ويظهر أن الأول يعني اعتبار الربع أحسن لاعتبار الربع كثيرا كالكل في مسألة الثوب تنجس إلا ربعه وانكشاف ربع العضو من العورة بخلاف ما دونه فيهما غير أن ذلك الثوب الذي هو عليه إن كان شاملا اعتبر ربعه وإن كان أدنى ما تجوز فيه الصلاة اعتبر ربعه ; لأنه الكثير بالنسبة إلى الثوب المصاب . ا هـ .

                                                                                        وحاصل كلام النهر أن مراد المحقق التنبيه على أن محل الخلاف هو ما إذا كان لابسا للشامل لا للأدنى بل هو محل وفاق ولا يخفى بعده بعد التأمل في كلام المحقق والظاهر ما قاله في البحر ، وقد سبقه إليه العلامة الحلبي فقال ووفق الشيخ كمال الدين بن الهمام بين هذا وبين القول الأول بأن الثواب إن كان شاملا للبدن اعتبر ربعه وإن كان أدنى ما تجوز فيه الصلاة اعتبر ربعه ; لأنه الكثير بالنسبة إلى الثوب المصاب أي لأن ربع الثوب الشامل كثير بالنسبة إليه وربع أدنى ما تجوز فيه الصلاة كثير بالنسبة إليه وإن كان قليلا بالنسبة إلى الشامل وهذا هو المختار ا هـ ( قوله وهو أحسن مما أجاب به في النهاية ) إلا أنه قال في النهر وفيه نظر لا يخفى . ا هـ .

                                                                                        وعبارة النهاية سؤالا وجوابا هكذا ، فإن قيل التعارض إنما يتحقق إذا جهل التاريخ ، وقد قيل : إن في حديث العرنيين دلالة التقدم ; لأن فيه المثلة وهي منسوخة فيدل على نسخ الباقي ، قلت : الدلالة دون العبارة وفي عبارته تعارض فرجح جانب العبارة فيتحقق التعارض أو نقول انتساخ المثلة لا يدل على انتساخ طهارة بول ما يؤكل لحمه ; لأنهما حكمان مختلفان فلا يلزم من انتساخ أحدهما انتساخ الآخر كما في صوم عاشوراء وتكرار صلاة الجنازة على حمزة رضي الله تعالى عنه [ ص: 247 ] على قول الشافعي رحمه الله يعرف بالتأمل . ا هـ .

                                                                                        ورد في العناية كلا من الوجهين فرد الأول بقوله هو فاسد ; لأن اشتمال القصة على المثلة يدل على أن العبارة منسوخة فلا تعارض والثاني بقوله هو أيضا فاسد ; لأن حديث العرنيين الدال على طهارة بول ما يؤكل لحمه إما أن يكون منسوخا أو لا ، فإن كان الأول انتفى التعارض وإن كان الثاني لم يثبت نجاسة بول ما يؤكل لحمه بقوله صلى الله عليه وسلم { استنزهوا } عنده والأمر بخلافه . ا هـ . أي لم تثبت النجاسة يقينا بل يثبت الشك بالتعارض

                                                                                        ( قوله والأولى اعتماد التصحيح الأول ) قال في النهر ولا يخفى أنها بقولهما أنسب إذ لا وجه للتغليظ مع ثبوت الاختلاف وما في البحر من أن رواية الكرخي ضعيفة وإن رجحت فمنعه ظاهر إذ لو اعتبر هذا المعنى لما ثبت تخفيف باختلاف أصلا وقول التخالف بعد إثبات ضعف دليله ورده مؤثر في التخفيف . ا هـ .

                                                                                        ولا يخفى أنه وجيه كيف ، وقد اعتبر الاختلاف في مذهب الغير وإن لم يقل به أحد من أئمتنا أصلا . ( قوله : وفي الفتاوى الظهيرية إلخ ) أقول : في القنية نصف النجاسة الخفيفة ونصف الغليظة يجمعان . ا هـ .

                                                                                        وفي القهستاني تجمع النجاسة المتفرقة فتجعل الخفيفة غليظة إذا كانت نصفا أو أقل من الغليظة كما في المنية . ا هـ .

                                                                                        أقول : والظاهر أن ما في الظهيرية فيما إذا اختلطا فترجح الغليظة ولو كانت أقل كما لو اختلطت بماء أو ما في القنية والقهستاني فيما إذا كان في موضعين ولم يبلغ كل منهما بانفراده القدر المانع فإذا بلغ نصف القدر المانع من الغليظة ونصفه من الخفيفة منع ترجيحا للغليظة وكذا إذا زادت الغليظة بخلاف ما إذا كانت الخفيفة أكثر هذا ما ظهر لي .




                                                                                        الخدمات العلمية