الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( فصل ) لما فرغ من ذكر حكم الجناية الواحدة شرع في ذكر الجنايات المتعددة ; لأن الاثنين بعد الواحد قال رحمه الله ( ، ومن قطع يد رجل ثم قتله أخذ بالأمرين ، ولو عمدين أو مختلفين أو خطأين تخلل بينهما برء أو لا إلا في خطأين لم يتخلل بينهما برء فتجب دية واحدة كمن ضرب رجلا مائة سوط فبرئ من تسعين ومات من عشرة ) يعني إذا قطع يده ثم قتله يجب عليه موجب القطع وموجب القتل إن كانا عمدين أو أحدهما عمد ، والآخر خطأ أو كانا خطأين وتخلل بينهما برء وفي خطأين لم يتخلل بينهما برء فتجب عليه دية واحدة فحاصله أن الكل لا يتداخل إلا في خطأين ، فإنهما يتداخلان فيجب فيهما دية واحدة إذا لم يتخلل بينهما برء ، وإن تخلل بينهما برء لا يتداخلان أما الأول ، وهو ما إذا كانا عمدين فالمذكور قول أبي حنيفة ، وعندهما يتداخلان فيقتل حدا ولا يقطع يده ; لأن الجمع بينهما ممكن لتجانس الفعلين وعدم تخلل البرء بينهما فصار كالخطأين ، وهذا ; لأن الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن ; لأن القتل يقع بضربات غالبا ، واعتبار كل ضربة على حدتها يؤدي إلى الجرح فيجمع تيسيرا إلا أن لا يمكن بأن يختلف حكم الفعلين كالعمد والخطأ أو يتخلل البرء بينهما ; لأن البرء قاطع للسراية فلا يمكن أن يجعل الثاني تتميما للأول فيعتبر على حاله وأمكن ذلك قبل البرء فصار كسراية الأول وله أن الجمع متعذر ; لأن حز الرقبة يمنع سراية القطع كالبرء حتى لو صدر من شخصين وجب على كل واحد منهما القصاص .

                                                                                        فكذا إذا كان من شخص واحد فتقطع أولا يده ثم يقتلوه إن شاءوا ، وإن شاءوا قتلوه من غير قطع ; لأن القصاص يعتمد المساواة في الفعل وذلك بأن يكون القتل بالقتل والقطع بالقطع واستيفاء القطع بالقتل متعذر لاختلافهما حقيقة وحكما ; ولأن المماثلة صورة ومعنى يكون باستيفائهما وبالاكتفاء بالقتل [ ص: 359 ] لم توجد المماثلة إلا معنى فلا يصار إليه مع القدرة على المماثلة صورة ومعنى فيخير الولي بخلاف ما إذا مات من السراية ; لأن الفعل واحد وبخلاف ما إذا كانا خطأين ; لأن الموجب فيه الدية ، وهو بدل المحل والمقتول واحد ألا ترى أن عشرة لو قتلوا واحدا خطأ يجب عليهم دية واحدة لاتحاد المحل ، وإن تعدد الفعل ، ولو قتلوه عمدا قتلوا به جميعا ; لأن القصاص جزاء الفعل ، وهو متعدد ، وإن اتحد ; ولأن أرش اليد لو وجب كان يجب عليه عند الجزاء ; لأنه وقت استحكام أثر الفعل ولا سبيل إليه ; لأنه حينئذ تجب دية النفس بالجزاء فيجتمع وجوب بدل الجزاء ، والكل في حالة واحدة ، وهو محال ، ولو وجب ذلك لوجب بقتل النفس الواحد ديات كثيرة للأطراف ; لأنها تتلف بتلف النفس أما القتل والقطع فقصاصان فأمكن اجتماعهما وبخلاف ما إذا قطع وسرى حيث يكتفي بالقطع لاتحاد الفعل ، وأما الثاني ، وهو ما إذا كانا مختلفين بأن كان أحدهما خطأ والآخر عمدا والثالث .

                                                                                        وهو ما إذا كانا خطأين وتخلل بينهما برء فلأن الجمع غير ممكن فيهما لاختلاف حكم الفعلين في الأول ولتخلل البرء في الثاني ، وهو قاطع للسراية فيعطى لكل فعل حكم نفسه وقوله لا في خطأين لم يتخلل بينهما برء فتجب دية واحدة هذا إخراج من قوله وأخذ بالأمرين أي موجبي فعله إلا في هذه الصورة ، فإنهما يتداخلان لا يؤخذ إلا بالقتل فيجب فيه دية النفس لا غير ، وقد بينا وجهه في أثناء البحث وقوله كمن ضرب رجلا مائة سوط فبرئ ومن تسعين ومات من عشرة يعني تجب فيه دية واحدة كما إذا كان القطع والقتل خطأين ولم يتخلل بينهما برء ، وإنما كان كذلك ; لأن الضربات التي برئ منها ، ولم يبق لها أثر سقط أرشها لزوال الشين ، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعن أبي يوسف فيها حكومة عدل ، وعن محمد أنه يجب فيها أجرة الطبيب وثمن الأدوية وستأتي المسألة بأدلتها في فصل الشجاج إن شاء الله تعالى ، ولو بقي لها أثر بعد البرء يجب موجبه مع دية النفس بالإجماع ; لأن الأرش يجب باعتبار الشين في النفس ، وهو ببقاء الأثر ، ولو قطع أصبعه أو يده ثم قطع الآخر ما بقي من اليد فمات كان القصاص على الثاني في النفس دون الأول ويقطع أصابع الأول أو يده وقال زفر والشافعي : يقتلان لهما أن زوال الحياة مضاف إلى القطعين ; لأنه اتصل الموت بهما قبل البرء وزال أثرهما وليس أحدهما بإضافة الإزهاق إليه أولى من الآخر ، فأضيف إليهما كما لو قطع كل واحد منهما يدا على حدة قبل البرء ولنا أن زوال الحياة ألم الثاني غير قطع الأول فصار زوال الحياة مضافا إلى القطع الثاني فصار الثاني قتلا دون الأول بخلاف ما لو قطع كل واحد يدا على حدة أو أصبعا على حدة ; لأن محل قطع الأول قائم وقت الموت .

                                                                                        فيتصور منه حدوث زيادة الألم فحصل بألم حدث القطعين فصار الموت مضافا إليهما وإذا قطع المفصل الأعلى من أصبع رجل فبرئ ولم يقتص حتى قطع مفصلا آخر من تلك الأصبع يقطع له المفصل الأعلى دون الأسفل وعليه أرش الأسفل ; لأن القصاص مبناه على المساواة وحال قطع الثاني لا يمكن المساواة لسلامة أصبع القاطع وفوات مفصل المقطوع ; ولأن أصبع القاطع ، وإن كانت مستحقة بالقصاص ولكن ملك القصاص ملك ضرورة لا يثبت إلا عند الاستيفاء فقتله يكون مقصودا به مملوكية صاحبه ; ولهذا لو قلنا لو قطعت يد من عليه القصاص إن كان عمدا يجب القصاص ، وإن كان خطأ يجب الأرش له لا لمن له القصاص ; لأنه لم توجد المساواة حال قطع الثاني ، وكذلك لو أبرأ الثاني ثم قطع المفصل الثالث ، ولو لم يكن القطعين برئ ووجب له القصاص في كل الأصابع بقطعها من أصلها مرة واحدة ; لأنه لم يتخلل بين القطعين برء وجعلنا كلا الفعلين جناية كأنه قطع ابتداء من المفصل الثاني بفعل واحد ، وفي المبسوط أصله إن تعذر استيفاء القصاص لتعذر القتل أنه متى جاء من قبل القاتل فصار إلى المال اعتبارا بالخطأ ، فإن هناك امتنع استيفاء القصاص بمعنى من جهة القاتل ، وهو الخطأ فإذا تعذر صيانة الاستيفاء ، القصاص من قبل من له الحق لا يصار إلى المال ; لأن الشرع غير حقه في القصاص لكن هو الذي فوته وفرط بإتيان ما أعجزه ، فأهدره فلم يبق مستحقا للنظر .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية