الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( وبثلثه لزيد وترك عبدا فادعى زيد عتقه في صحته ، والوارث في مرضه فالقول للوارث ولا شيء لزيد إلا أن يفضل من ثلثه شيء أو يبرهن على دعواه ) أي إذا أوصى بثلث ماله لزيد ، وله عبد ، وأقر الموصى له ، والوارث أن الميت أعتق هذا العبد فقال الموصى له أعتقه في الصحة ، وقال الوارث أعتقه في المرض فالقول قول الوارث ولا شيء للموصى له إلا أن يفضل من الثلث شيء أو تقوم البينة أن العتق كان في الصحة لأن [ ص: 499 ] الموصى له يدعي استحقاق ثلث ماله سوى العبد لأن العتق في الصحة ليس بوصية فينفذ من جميع المال ، والوارث ينكر استحقاقه ثلث ماله غير العبد لأن العتق في المرض وصية .

                                                                                        وهو مقدم على غيره من الوصايا فذهب الثلث بالعتق فبطل حق الموصى له بالثلث فكان منكرا لاستحقاقه ، والقول للمنكر مع اليمين ، ولكن العتق حادث ، والحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات للتيقن بها فكان الظاهر شاهدا للورثة فيكون القول قولهم مع اليمين فلا شيء للموصى له إلا أن يفضل من الثلث شيء من قيمة العبد فإنه لا مزاحم له فيه فيسلم له ذلك أو تقوم له البينة أن العتق وقع في الصحة فيكون له جميع العبد لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة ، والموصى له خصم بالإجماع إلا أنه ثبت حقه فكذا العبد أما عند أبي حنيفة فظاهر لأن العتق حق العبد على ما عرف من مذهبه فيكون خصما فيه لإثبات حقه ، وأما عندهما فلأن العتق فيه حق العبد ، وإن كان حقا بعد فيكون بذلك خصما ، وهو نظير حد القذف فإنه حق الله تعالى ، وفيه حق العبد فيكون خصما بذلك ، وكذا السرقة الحد فيها حق الله تعالى فاسترداد المال حق العبد فلا بد من خصومته حتى يقطع السارق كذا في الشارح هذا إذا كان الموصى له غير العبد فلو كان هو العبد قال في الأصل رجل مات ، وترك عبدا وورثة صغارا ، وترك دينا على رجل فأقام العبد بينة أن مولاه أعتقه ، وأوصى إليه ، ومن عليه الدين حاضر فالشهادة جائزة ، ويقضى بالعتق ، وبالوصايا للعبد ، وينبغي في قياس قول أبي حنيفة أن لا تقبل شهادتهما في العتق .

                                                                                        وإن كانت الورثة كبارا ، وأقام العبد بينة على ذلك فالشهادة جائزة ، ويقضى بالعتق وبالوصايا ، هذا على خلاف رواية الأصل . وفي نوادر إبراهيم عن محمد رجل مات ، ولرجل عليه دين ، وأوصى بثلث ماله أو بدرهم سماه لرجل فأخذها الموصى له ثم جاء الغريم ، والورثة شهود أو غيب ، وقدم الموصى له إلى القاضي ، والموصى له لا يكون خصما للغريم هذا إذا حصلت الوصية له بقدر الثلث ، وإذا حصلت الوصية بما زاد على الثلث إلى جميع المال وصحة الوصية بأن لم يكن للميت وارث فالموصى له خصم الغريم في هذه الحالة ، ويعتبر الموصى له في هذه الحالة بالوارث قال محمد رحمه الله في الجامع رجل هلك وترك ثلاثة آلاف درهم ، وأقام وارثا واحدا فأقام رجل البينة أن الميت أوصى له بثلث ماله ، وجحد الوارث ذلك قضى القاضي له بالثلث ، وأعطاه بذلك ، وهو ألف درهم ثم جاء رجل ، وأقام البينة أن الميت أوصى له بثلث ماله ، وأحضر الموصى له إلى القاضي فالقاضي يجعله خصما ، ويأمره أن يدفع نصف ما في يده إلى الثاني فإن قضى القاضي على الأول بنصف الثلث ، ولم يكن عنده شيء بأن هلك الثلث في يده أو استهلكه ، وهو فقير ، والوارث لم يكلف الثاني إعادة البينة ، وكان للموصى له الثاني أن يشارك الوارث فيما في يده ، ويأخذ خمس ما في يد الوارث ، ولو كان الموصى له هو الغائب فأحضر الثاني الوارث إلى القاضي قضى على الأول ، وإن كان القاضي قضى بوصية الأول .

                                                                                        ولم يدفع إليه شيئا حتى خاصمه الثاني ، والوارث غائب فإن خاصمه إلى ذلك القاضي بعينه جعل خصما ، وإن خاصمه إلى قاض آخر لم يجعله خصما ، ولو كان الموصى له الأول هو الغائب ، والوارث حاضر لم يدفع المال إلى الأول فالوارث خصم للموصى له الثاني ، وهذا كله إذا أقر الموصى له الأول بأن كان المال الذي في يده بحكم الوصية أو كان ذلك معلوم للقاضي فإذا لم يكن شيء من ذلك فقال الأول هو مالي ورثته عن أبي الميت وما أوصى لي بشيء وما أخذت من ماله شيئا فإنه يكون خصما للموصى له الثاني بمنزلة ما لو ادعى رجل عبدا في يد رجل أنه اشتراه من فلان بكذا ، وقال ذو اليد هو عبدي ورثته عن أبي يكون خصما ، ويقضى عليه للمدعي كذا هنا ، وإن قال هذا المال عندي وديعة لفلان الميت الذي يدعي الوصية من جهته أو قال غصبته منه فهو خصم إلا أن يقيم بينة على ما قال

                                                                                        قال رجل أقام بينة على وارث ميت إن الميت أوصى بهذه الجارية بعينها ، وهي ثلث ماله ، وقضى القاضي بذلك ، ودفعها إليه ، وغاب الوارث ثم أقام الآخر البينة على الموصى له أن الميت أوصى له بها ذكروا رجوعا قضى القاضي بكل الجارية للثاني ، وإن لم يذكروا رجوعا قضى بنصفها للثاني للمزاحمة والمساواة ، ويكون هذا قضاء على الوارث غاب أو حضر حتى أن الموصى له الأول لو أبطل حقه كان كل الجارية للثاني فإن غاب الموصى له ، وحضر الوارث لم ينتصب الوارث خصما للموصى له الآخر خاصمه إلى القاضي الأول أو إلى غيره فإن كان القاضي قضى للأول بالجارية فلم يدفعها إليه حتى خاصم الثاني الوارث فإن خاصمه [ ص: 500 ] فيها إلى القاضي الأول لم يجعله خصما ، وإن خاصمه إلى قاض آخر يجعله خصما ثم القاضي إذا سمع بينة الثاني على الوارث في هذا الفصل .

                                                                                        وهو ما إذا خاصمه الثاني عند قاض آخر قضى للثاني بنصف الجارية سواء شهد شهوده على الرجوع عن الأول أو لم يشهدوا على الرجوع إنما يشكل فيما إذا شهدوا على الرجوع ، ولو أقام الأول بينة أن الميت أوصى له بثلث ماله ، ودفعه القاضي إليه ثم أقام الثاني البينة على الأول أن الميت رجع عن الوصية الأولى ، وأوصى بثلث ماله للثاني فالقاضي يأخذ الثلث من الأول ، ويدفعه إلى الثاني قال محمد في الجامع الصغير رجل له على آخر ألف درهم قرض أو كان غصب منه ألف درهم ، وكانت في يد الغاصب قائمة بعينها أقام رجل البينة أن فلانا استودعه ألف درهم ، وهي قائمة بعينها في يد المودع فأقام رجل البينة أن صاحب المال توفي ، وأوصى له بهذا الألف التي هي قبل هذا الرجل ، والرجل مقر بالمال لكنه يقول لا أدري مات فلان أو لم يمت لم يجعل القاضي بينهما خصومة حتى يحضر وارث أو وصي كذلك ، ونظيرها إذا ادعى عينا في يد رجل أنه اشتراها من فلان الغائب وصاحب اليد يقول أنا مودع الغائب أو غصبته منه لا ينتصب خصما للمودع كذا هنا ، وهذا الذي ذكرنا إن كان الذي قبله المال مقرا بذلك فإن كان الذي في يده المال قال هذا ملكي ، وليس عندي من مال الميت شيء صار خصما للمدعي وصار كرجل ادعى عينا في يد رجل أنه اشتراه من فلان الغائب ، وصاحب اليد يقول هو لي ينتصب خصما للمدعي كذا هذا ، وإن جعله القاضي خصما في هذا الوجه قضى له بثلث ما في يد المدعى عليه إلا أن يقيم البينة أن الميت ترك ألف درهم غير هذا الألف .

                                                                                        وأن الوارث قبض ذلك فحينئذ يقضي القاضي للموصى له بكل هذا الألف ، ولو حضر الوارث بعد ذلك ، وقال لم أقبض من مال الميت شيئا ما لم يلتفت إلى قوله فإن أقام البينة أن فلانا مات ، ولم يدع وارثا ولا وصيا يقبل القاضي بينته ثم عاد محمد إلى صدر المسألة فقال لو أن الموصى له أقام البينة أن فلانا مات ، ولم يدع وارثا ، وأوصى إليه بالألف التي قبل فلان ، وقال الشهود لا نعلم له وارثا ، والذي قبله المال مقر بالمال الذي قبله فالقاضي يقضي بالمال للموصى له قال محمد في الجامع رجل بيده ألف درهم دين أو كان الألف في يده غصبا أو وديعة أو كانت الألف لهذا فغاب صاحب المال فقام رجل وادعى أن صاحب المال أوصى له بهذا الألف الذي قبل هذا الرجل ولا بينة له فصدقه الذي قبله المال فهذا على وجهين أما إن أقر المدعي أن لصاحب المال وارثا غائبا أو قال لا أدري أله وارث أم لا أو قال المدعي ليس لصاحب المال وارث ، وإن كان صاحب المال رجلا نصرانيا أسلم ، ولم يترك أحدا ، وصدقه الذي قبله في ذلك ففي الوجه الأول القاضي لا يقضي على الذي في يديه المال في الوجوه الأربعة الغصب الوديعة والدين والإيصاء إلا أن القاضي يتلوم في ذلك ويتأنى ولا يعجل فإن جاء مدع أو وارث ، وإلا قضى القاضي بالمال للمدعي ، وإن كان المال وديعة عند رجل كان له أن يضمن القابض بإجماع ، وهل له أن يضمن المودع فعلى قول محمد رحمه الله كان له ذلك .

                                                                                        وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ليس له ذلك ، وإن كان المال دينا فلصاحب المال أن يضمن الغريم ، وليس له أن يضمن القابض ، وإن ضمن الغريم كان للغريم أن يرجع على القابض ، وأما إذا كان المال وصل إليه من قبل أبيه أوصى إليه أبوه ، وصورة هذا ، وتفسيره إذا كان الرجل ألف درهم دفعها إلى رجل ، وجعله وصيا فيه ثم مات الموصى له فوصل المال إلى ابن الموصي من جهة أبيه الذي كان أوصى بها إلى ابنه ، وكان في يديه فدفع إلى هذا المدعي بأمر القاضي ثم جاء صاحب المال حيا ، ولكن حضر وارثه فأقام البينة أنه أخوه من أبيه وأمه لا وارث له غيره فلا ضمان على الذي قبله المال في الوجوه كلها ، وإن الذي في يده المال أقر أن هذا أخ صاحب المال ، وأنه قد مات إلا أني لا أدري أهذا وارثه أم لا لم يقض القاضي في ذلك زمانا فلم يظهر له وارث آخر ، ودفع المقر المال إلى المقر له بأمر القاضي ثم جاء صاحب المال حيا قال محمد في الكتاب فهو بمنزلة الموصى له في جميع ما وصفت لك في حق التضمين ، ولو بقي صاحب المال حيا لكن جاء رجل ، وأقام البينة أنه ابنه قال في الكتاب هذا بمنزلة الموصى له في جميع ما وصفت لك في أنه لا ضمان على الذي قبله المال في الفصول كلها ، وأن الضمان على القابض ، ولو أن الذي في يديه المال أقر لرجل أنه ابن الميت ، وأن للميت ابنا آخر ، وقال الابن المقر له ليس [ ص: 501 ] له ابن آخر تلوم القاضي زمانا .

                                                                                        وإذا تلوم زمانا ، ولم يحضر وارث آخر دفع المال كله إليه ثم قال في الكتاب إذا تلوم القاضي زمانا ، ولم يظهر للميت ابن آخر أمر القاضي الذي قبله المال أن يدفع المال كله إلى المدعي ، ويأخذ منه كفيلا ثقة وما لم يعطه كفيلا ثقة لا يدفع المال نظرا للغائب لجواز أن يكون للميت ابن آخر فمن مشايخنا من قال هذا قولهما أما على قول أبي حنيفة لا يأخذ كفيلا ، وقال بعض المشايخ لا بل هذا على الاتفاق فإن جاء وارث آخر فلا ضمان على الذي قبله المال في الوجوه كلها ، ولكن الضمان على القابض ، وكفيله ، ولو كان الذي حضر ادعى أن له على صاحب المال ألف درهم دين ، وأنه مات فصدقه الذي قبله المال في ذلك لم يلتفت القاضي إلى ذلك ، ولم يجعل بينهما خصومة حتى يحضر الوارث في الوجوه الأربعة ، وهذا إذا أنكر المدعي أن للميت وارثا ، وقال لا أدري له وارث أم لا فإن أقر الذي قبله المال ، والمدعي أنه ليس له وارث فالقاضي يتلوم ، ويتأنى زمانا ثم إذا تلوم زمانا ، ولم يظهر له وارث فالقاضي لا يدفع المال إلى المقر ، ولكن ينصب لنصيب الميت وصيا ليستوفي مال الميت على الناس ، ويوفي ما على الميت للناس ، وإذا نصب بأمر المدعي بإقامة البينة على الوصي فإن أقام البينة على هذا الوصي يأمر القاضي الوصي بأن يدفع حقه إليه ، وإذا دفع ثم جاء صاحب المال حيا .

                                                                                        والمال مستهلك عند المقر له كان الجواب في الوجوه كلها الأربعة الوديعة ، والدين ، والغصب ، والإيصاء كما قلنا في الفصل الأول ، ولو لم يجئ صاحب المال حيا لكن حضر وارثه ، وجحد الدين لم يلتفت إلى جحوده ، وكان قضاء القاضي ماضيا ولا يكلف المدعي المدين إقامة البينة على الوارث ، وقال في الجامع الصغير رجل له وديعة أو غصب أو دين عليه فجاء رجل ، وأقام البينة أن صاحب المال قد توفي ، وهذا المدعي أخوه لأبيه وأمه ووارثه لا وارث له غيره ، والذي قبله المال جاحد للمال أو مقر بالمال منكر لما سواه فالمدعى عليه خصم له فإذا قضى القاضي له بالمال كله فقبضه ثم جاء صاحب المال حيا ، وقد هلك في يد القابض فإن كان الذي عنده غاصبا فصاحب المال بالخيار إن شاء ضمن الشهود ، وإن شاء ضمن الغاصب ، وإن شاء ضمن الأخ فإن اختار تضمين الغاصب كان الغاصب بالخيار ، وإن شاء ضمن الشهود ، ورجعوا على الأخ ، وإن شاء ضمن الأخ لا يرجع على أحد ولا يرجع على الشهود ، وإن كان الذي عليه المال مودوعا فلا ضمان لصاحب المال على الشهود فإذا أخذ صاحب المال الدين من الغريم كان الغريم بالخيار إن شاء ضمن الشاهدين أو ضمن الأخ فإن ضمن الشهود رجعوا على الأخ ، وإن ضمن الأخ لا يرجع على الشهود ، ولو لم يأت صاحب المال حيا فلا يتحقق موته كما شهدت الشهود فجاء رجل ، وأقام بينة أني ابن الميت قضى القاضي بذلك فلا ضمان على الدافع في الوجوه كلها ، ولكن الابن مخير إن شاء ضمن الشهود ، وإن شاء ضمن الأخ فإن ضمن الأخ لم يرجع على الشهود ، وإن ضمن الشهود رجعوا على الأخ .

                                                                                        ولو لم يقم الثاني بينة أنه ابن الميت لكنه أقام بينة أنه أخو الميت لأبيه وأمه ووارثه قضى القاضي ببينته ، ويقضي القاضي له بنصف ما قبض الأول من الميراث ولا ضمان على الذي قبله المال في الصور كلها ولا ضمان على الشهود هنا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية