الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ويبطل الوطن الأصلي بمثله لا السفر ووطن الإقامة بمثله والسفر والأصلي ) ; لأن الشيء يبطل بما هو مثله لا بما هو دونه فلا يصلح مبطلا له وروي أن عثمان رضي الله عنه كان حاجا يصلي بعرفات أربعا فاتبعوه فاعتذر ، وقال : إني تأهلت بمكة وقال النبي صلى الله عليه وسلم { من تأهل ببلدة فهو منها } والوطن الأصلي هو وطن الإنسان في بلدته أو بلدة أخرى اتخذها دارا وتوطن بها مع أهله وولده ، وليس من قصده الارتحال عنها بل التعيش بها وهذا الوطن يبطل بمثله لا غير ، وهو أن يتوطن في بلدة أخرى وينقل الأهل إليها فيخرج الأول من أن يكون وطنا أصليا حتى لو دخله مسافرا لا يتم قيدنا بكونه انتقل عن الأول بأهله ; لأنه لو لم ينتقل بهم ، ولكنه استحدث أهلا في بلدة أخرى فإن الأول لم يبطل ويتم فيهما وقيد بقوله بمثله ; لأنه لو باع داره ونقل عياله وخرج يريد أن يتوطن بلدة أخرى ثم بدا له أن لا يتوطن ما قصده أولا ويتوطن بلدة غيرها فمر ببلده الأول فإنه يصلي أربعا ; لأنه لم يتوطن غيره ، وفي المحيط ، ولو كان له أهل بالكوفة ، وأهل بالبصرة فمات أهله بالبصرة وبقي له دور وعقار بالبصرة قيل البصرة لا تبقى وطنا له ; لأنها إنما كانت وطنا بالأهل لا بالعقار ، ألا ترى أنه لو تأهل ببلدة لم يكن له فيها عقار صارت وطنا له ، وقيل تبقى وطنا له ; لأنها كانت وطنا له بالأهل والدار جميعا فبزوال أحدهما لا يرتفع الوطن كوطن الإقامة يبقى ببقاء الثقل وإن أقام بموضع آخر ا هـ .

                                                                                        وفي المجتبى نقل القولين فيما إذا نقل أهله ومتاعه وبقي له دور وعقار ثم قال وهذا جواب واقعة ابتلينا بها وكثير من المسلمين المتوطنين في البلاد ، ولهم دور وعقار في القرى البعيدة منها يصيفون بها بأهلهم ومتاعهم فلا بد من حفظها أنهما وطنان له لا يبطل أحدهما بالآخر وقوله لا السفر أي لا يبطل الأصلي بالسفر حتى يصير مقيما بالعود إليه من غير نية الإقامة ، وكذا لا يبطل بوطن الإقامة وأما وطن الإقامة فهو الوطن الذي يقصد المسافر الإقامة فيه ، وهو صالح لها نصف شهر ، وهو ينتقض بواحد من ثلاثة بالأصلي ; لأنه فوقه وبمثله وبالسفر ; لأنه ضده أطلقه فأفاده أن تقديم السفر ليس بشرط لثبوت الوطن الأصلي ووطن الإقامة فالأصلي بالإجماع ووطن الإقامة فيه روايتان ظاهر الرواية أنه ليس بشرط ، وفي أخرى عن محمد إنما يصير الوطن وطن إقامة بشرط أن يتقدمه سفر ، ويكون بينه وبين ما صار إليه منه مدة سفر حتى لو خرج من مصره لا لقصد السفر فوصل إلى قرية ونوى الإقامة بها خمسة عشر يوما لا تصير تلك القرية وطن الإقامة ، وإن كان بينهما مدة سفر لعدم تقدم السفر ، وكذا إذا قصد مسيرة سفر وخرج فلما وصل إلى قرية مسيرتها من وطنه دون مدة السفر نوى الإقامة بها خمسة عشر يوما لا يصير مقيما ، ولا تصير تلك القرية وطن الإقامة مثاله قاهري خرج إلى بلبيس فنوى الإقامة بها نصف شهر ثم خرج منها ، وإن قصد مسيرة ثلاثة أيام وسافر بطل وطنه ببلبيس حتى لو مر به في العود لا يتم ، وإن لم يقصد ذلك ، وخرج إلى الصالحية ، فإن نوى الإقامة بها نصف شهر أتم بها وبطل وطنه ببلبيس حتى لو عاد إليه مسافرا لا يتم ، وإن لم ينو الإقامة بها لم يبطل وطنه ببلبيس حتى يتم إذا دخله وإن عاد إلى مصر بطل [ ص: 148 ] الوطنان حتى لو عاد إليهما في سفرة أخرى لا يتم إذا لم ينو الإقامة ، ولم يذكر المصنف رحمه الله وطن السكنى ، وهو المكان الذي ينوي أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوما تبعا للمحققين قالوا : لأنه لا فائدة فيه ; لأنه يبقى فيه مسافرا على حاله فصار وجوده كعدمه

                                                                                        وذكر الشارح أن عامتهم على أنه يفيد في رجل خرج من مصره إلى قرية لحاجة ، ولم يقصد السفر ، ونوى أن يقيم فيها أقل من خمسة عشر يوما فإنه يتم فيها ; لأنه مقيم ثم خرج من القرية لا للسفر ثم بدا له أن يسافر قبل أن يدخل مصره وقبل أن يقيم ليلة في موضع آخر فسافر فإنه يقصر ، ولو مر بتلك القرية ودخلها أتم ; لأنه لم يوجد ما يبطله مما هو فوقه أو مثله ا هـ .

                                                                                        وصحح في السراج الوهاج المجمع عدم اعتباره وقول الشارح ، ولو مر بها أتم لا يصح ; لأن السفر باق لم يوجد ما يبطله ، وهو مبطل لوطن السكنى على تقدير اعتباره ; لأن السفر يبطل وطن الإقامة فكيف لا يبطل وطن السكنى فقوله ; لأنه لم يوجد ما يبطله ممنوع .

                                                                                        [ ص: 147 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 147 ] ( قوله : وكذا لا يبطل بوطن الإقامة ) قال في النهر ، ولو صرح المصنف به لعلم السفر بالأولى ( قوله بشرط أن يتقدمه سفر ) على تقدير مضاف أي نية سفر كما يدل عليه ما بعده ، وحاصله أنه يشترط له شيئان أحدهما تقدم نية السفر والثاني أن تكون مدة سفر بينه أي بين الموضع الذي أنشأ منه السفر وبين ما صار إليه منه أي وبين الموضع الذي صار إليه من الموضع الأول ونوى فيه الإقامة فقوله حتى لو خرج تفريع على الشرط الأول وقوله : وكذا إذا قصد إلخ تفريع على الثاني ( قوله لعدم تقدم السفر ) ، وعليه فلو خرج من تلك القرية لحاجة ، ثم قصد الرجوع إلى مصره ومر بتلك القرية يقصر ; لأنه قصد مسيرة السفر وليست القرية وطنا له ( قوله مثاله قاهري إلخ ) أي مثال بطلان وطن الإقامة بواحد من الثلاثة فقوله ، فإن قصد إلخ فيه بطلانه بالسفر وقوله : وإن لم يقصد ذلك إلخ فيه بطلانه بمثله ; لأن ما بين بلبيس والصالحية دون مسافة القصر كما بين بلبيس والقاهرة وقوله : وإن عاد إلى مصر فيه بطلانه بالأهلي

                                                                                        ( قوله حتى يتم إذا دخله ) يعني إذا خرج من الصالحية وأراد الرجوع إلى القاهرة ومر ببلبيس يتم ; لأن وطنه بها لم يبطل بالخروج إلى الصالحية ; لأنه ليس بوطن مثله ، ولا سفر معه فيبقى وطنه ببلبيس وهذا التمثيل كله مبني على ظاهر الرواية عن عدم اشتراط تقديم السفر لثبوت وطن الإقامة ، وفي فتح القدير ورواية الحسن يعني هذه الرواية . تبين أن السفر الناقض لوطن الإقامة ما ليس فيه مرور على وطن الإقامة أو ما يكون المرور فيه بعد سير مدة السفر ا هـ .

                                                                                        ولهذا أتم [ ص: 148 ] ببلبيس في مسألتنا مع أن ما بين الصالحية والقاهرة مدة سفر ; لأن فيه مرورا على وطن الإقامة ( قوله ممنوع ) قال الرملي لقائل أن يمنعه ; لأن السفر إنما يبطل وطن الإقامة أن لو خرج منه مسافرا فكذا وطن السكنى ; لأن السفر لم يتصل به تأمل كذا رأيته بخط بعضهم ا هـ .

                                                                                        قلت : وقد ذكر مثله الشيخ إبراهيم المداري الحلبي في حاشيته على الدر المختار عن شيخه المحقق السيد علي الضرير ، ثم قال : وهو وجيه فإن من نوى الإقامة بموضع نصف شهر ، ثم خرج منه لا يريد السفر ، ثم عاد مريدا سفرا و مر بذلك أتم مع أنه أنشأ سفرا بعد اتخاذ هذا الموضع دار إقامة فثبت أن إنشاء السفر لا يبطل وطن الإقامة إلا إذا أنشأ السفر منه فليكن وطن السكنى كذلك فما صوره الزيلعي صحيح ومن تصويره علمت أنه لا بد أن يكون بين الوطن الأصلي وبين وطن السكنى أقل من مدة السفر ، وكذا بين وطن الإقامة ووطن السكنى ا هـ .

                                                                                        قلت : قد يقال إن قوله فليكن وطن السكنى كذلك قياس مع الفارق لبقاء السفر في وطن السكنى وانتهائه في وطن الإقامة فإذا دخل المسافر بلدة ونوى الإقامة فيها دون نصف شهر بقي مسافرا فيقصر فكذا إذا مر عليها بعد أن خرج منها بخلاف ما إذا نوى الإقامة فيها نصف شهر فإنه خرج عن كونه مسافرا ; ولذا يتم مدة إقامته بها على أن تصحيح المحققين عدم اعتباره يقتضي تصحيح عدم الإتمام فيما صوره الزيلعي ; ولذا علل شراح الهداية وغيرهم عدم اعتباره بأنه لم يثبت فيه حكم الإقامة

                                                                                        وما ذكره في الظهيرية من أن الإمام السرخسي ذكر مسألة تدل على اعتباره وهي لو خرج كوفي إلى القادسية لحاجة ، ثم منها إلى الحيرة يريد الشام حتى إذا كان قريبا منها بدا له الرجوع إلى القادسية ليحمل ثقله منها ويرتحل إلى الشام ، ولا يمر بالكوفة أتم حتى يرتحل من القادسية استحسانا ; لأنها كانت له وطن السكنى ، ولم يظهر له بقصد الحيرة وطن سكنى آخر ما لم يدخلها فيبقى وطنه بالقادسية ولا ينتقض كما لو خرج منها لتشييع جنازة ونحوه ا هـ . ملخصا .

                                                                                        فقد قال في معراج الدراية فيه تأمل ولعل وجهه أن ابتداء سفره اعتبر من القادسية حتى أنه يشترط له مجاوزة عمرانها إذا أراد القصر فصارت بمنزلة وطنه الأصلي حكما فإذا رجع إليها قبل استحكام السفر يتم الصلاة بمنزلة ما إذا خرج مسافرا من بلدة ، ثم تذكر حاجة فرجع فإنه يتم كما يأتي فلم يدل على أن إتمامه لكونه وطن سكنى لكن قد يقال تسمية السرخسي له وطن سكنى دليل عليه وكذا قوله : ولم يظهر له بقصد الحيرة وطن سكنى آخر والذي يظهر لي في التوفيق أنه إذا كان مسافرا فأقام في بلد دون نصف شهر لم يعتبر هذا الوطن أصلا ; لأنه يقصر فيه فإذا خرج منه ، ثم رجع إليه يقصر أيضا ، وعليه يحمل كلام المحققين الذين لم يعتبروا وطن السكنى كما يفيده ما نقله المؤلف عنهم أما إذا كان مقيما ، ثم خرج من مصره إلى قرية قريبة ونوى أن يقيم فيها دون نصف شهر كما مر تصويره عن الشارح الزيلعي فإنه يعتبر ، وعليه يحمل كلام عامة المشايخ الذين اعتبروه ، وحاصله أنه يعتبر قبل تحقق السفر لا بعده ; لأن من قال باعتباره قبل تحقق السفر كما في صورة الزيلعي لا يمكنه أن يقول باعتباره بعد تحقق السفر ; لأنه لم يثبت فيه حكم الإقامة المبيحة للإتمام فإن أقلها نصف شهر إذ لا يقول عاقل إن المسافر إذا دخل بلدة ونوى الإقامة فيها يوما مثلا ، ثم خرج منها ، ثم رجع في اليوم الثاني أنه يتم ما لو ينو إقامة نصف شهر وبهذا التوفيق يرتفع الخلاف إلا أن [ ص: 149 ] يوجد نقل دال على وجود الخلاف فيما صوره الزيلعي والله تعالى أعلم .




                                                                                        الخدمات العلمية