الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 398 ] 93 - باب

                                الالتفات في الصلاة

                                فيه حديثان :

                                الأول :

                                718 751 - حدثنا مسدد ، ثنا أبو الأحوص ، ثنا أشعث بن سليم - هو : أبو الشعثاء - ، عن أبيه ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ، فقال : ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) .

                                الثاني :

                                719 752 - حدثنا قتيبة ، ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام ، فقال : ( شغلتني أعلام هذه ، اذهبوا بها إلى أبي جهم ، وأتوني بأنبجانية ) .

                                التالي السابق


                                حديث عائشة في الخميصة ، قد سبق في ( أبواب : الصلاة في الثياب ) في ( باب : إذا صلى في ثوب وله أعلام ونظر إلى علمها ) ، وسبق الكلام عليه مستوفى .

                                وبعده حديث أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : ( أميطي عنا قرامك ؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي ) .

                                وذكرنا أن في الحديثين دليلا على كراهة أن يصلي إلى ما يلهي النظر إليه ، أو لبسه في الصلاة .

                                [ ص: 399 ] وأما حديث عائشة الذي خرجه هاهنا في الالتفات ، فتفرد به دون مسلم ، وفي إسناده اختلاف على أشعث بن أبي الشعثاء .

                                فالأكثرون رووه عنه ، كما رواه عنه أبو الأحوص ، كما أسنده البخاري من طريقه .

                                قال الدارقطني : وهو الصحيح عنه ، عن أبيه ، عن عائشة ، لم يذكر : ( مسروقا ) في إسناده .

                                ورواه إسرائيل ، عن أشعث ، عن أبي عطية الهمداني ، عن مسروق ، عن عائشة .

                                ورواه مسعر ، عن أشعث ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، وكلهم رفعوه .

                                ورواه الأعمش موقوفا ، واختلف عليه :

                                فرواه الأكثرون ، عنه ، عن عمارة ، عن أبي عطية ، عن عائشة موقوفا .

                                وقال شعبة : عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن أبي عطية ، عن عائشة موقوفا .

                                ولهذا الاختلاف -والله أعلم- تركه مسلم فلم يخرجه .

                                وفي الالتفات أحاديث أخر متعددة ، لا تخلو أسانيدها من مقال .

                                ومن أجودها : ما روى الزهري ، عن أبي الأحوص ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه ) .

                                رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ( صحيحه ) .

                                [ ص: 400 ] وأبو الأحوص ، قد قيل : إنه غير معروف .

                                وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث الحارث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل ذكره - : ( إن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا ) .

                                وصححه الترمذي .

                                وروى عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، سمعت أبا هريرة يقول : إذا صلى أحدكم فلا يلتفت ؛ فإنه يناجي ربه ، إن ربه أمامه ، وإنه يناجيه ، فلا يلتفت .

                                قال عطاء : وبلغنا أن الرب عز وجل يقول : ( يا ابن آدم ، إلى أين تلتفت ، أنا خير ممن تلتفت إليه ) .

                                ورواه إبراهيم بن يزيد الخوزي وعمر بن قيس المكي سندل - وهما ضعيفان - ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، مرفوعا كله .

                                والموقوف أصح ، قاله العقيلي وغيره .

                                وكذا رواه طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : ما التفت عبد في صلاته قط إلا قال الله : ( أنا خير لك مما تلتفت إليه ) .

                                والأشبه أن هذا قول عطاء ، كما سبق .

                                وقوله : ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) يعني : أن الشيطان يسترق من العبد في صلاته التفاته فيها ويختطفه منه اختطافا حتى يدخل عليه [ ص: 401 ] بذلك نقص في صلاته وخلل .

                                ولم يأمره بالإعادة لذلك ، فدل على أنه نقص لا يوجب الإعادة .

                                والالتفات نوعان :

                                أحدهما : التفات القلب إلى غير الصلاة ومتعلقاتها ، وهذا يخل بالخشوع فيها ، وقد سبق ذكر الخشوع في الصلاة وحكمه .

                                والثاني : التفات الوجه بالنظر إلى غير ما فيه مصلحة الصلاة ، والكلام هاهنا في ذلك .

                                وروي عن ابن مسعود ، قال : لا يقطع الصلاة إلا الالتفات .

                                خرجه وكيع بإسناد فيه ضعف .

                                وروى بإسناد جيد ، عن ابن عمر ، قال : يدعى الناس يوم القيامة المنقوصين ، قيل : وما المنقوصون ؟ قال : الذي ينقص أحدهم صلاته في وضوئه والتفاته . قال ابن المنذر - فيما يجب على الملتفت في الصلاة - :

                                فقالت طائفة : تنقص صلاته ، ولا إعادة .

                                روي عن عائشة أنها قالت : الالتفات في الصلاة نقص .

                                وبه قال سعيد بن جبير .

                                وقال عطاء : لا يقطع الالتفات الصلاة .

                                وبه قال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي .

                                وقال الحكم : من تأمل من عن يمينه في الصلاة أو عن شماله حتى يعرفه فليس له صلاة .

                                [ ص: 402 ] وقال أبو ثور : إذا التفت ببدنه كله تفسد صلاته .

                                وروينا عن الحسن ، أنه قال : إذا استدبر القبلة استقبل ، وإن التفت عن يمينه وعن شماله مضى في صلاته .

                                والذي قاله الحسن حسن . انتهى .

                                قال ابن المنصور : قلت لأحمد : إذا التفت في الصلاة يعيد الصلاة ؟ قال : أساء ، ولا أعلم أني سمعت فيه حديثا أنه يعيد .

                                قال إسحاق : كما قال .

                                وقال أصحابنا : الالتفات الذي لا يبطل أن يلوي عنقه ، فأما إن استدار بصدره بطلت صلاته ؛ لأنه ترك استقبال القبلة بمعظم بدنه ، بخلاف ما إذا استدار بوجهه ، فإن معظم بدنه مستقبل للقبلة .

                                وحكوا عن المالكية ، أنه لا يبطل بالتفاته بصدره حتى يستدبر ، إلحاقا للصدر على الوجه .

                                فأما الالتفات لمصلحة الصلاة ، كالتفات أبي بكر لما صفق الناس خلفه وأكثروا التصفيق - وقد سبق حديثه - ، فلا ينقص الصلاة .

                                ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نابه شيء في صلاته فليسبح ؛ فإنه إذا سبح التفت إليه ) .

                                وكذلك التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من صلى خلفه ، لما صلى بهم جالسا وصلوا وراءه قياما ، وقد سبق أيضا .

                                وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يلتفت في صلاته لمصلحة غير مصلحة الصلاة :

                                فروى سهل بن الحنظلية ، قال : ثوب بالصلاة - يعني : صلاة الصبح - ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، وهو يلتفت إلى الشعب .

                                [ ص: 403 ] خرجه أبو داود .

                                وقال : كان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس .

                                وخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) والحاكم وصححه .

                                وهذا فيه جمع بين الصلاة والجهاد .

                                ومن هذا المعنى قول عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة .

                                وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يلحظ في صلاته .

                                فروى الفضل بن موسى ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلحظ يمينا وشمالا ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره .

                                خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وقال : غريب ، ثم خرجه من طريق وكيع ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن بعض أصحاب عكرمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة ... ، فذكر نحوه .

                                وخرجه أبو داود في بعض نسخ ( سننه ) .

                                ثم خرجه من طريق رجل ، عن عكرمة ، وقال : هو أصح .

                                وأنكر الدارقطني وصل الحديث إنكارا شديدا ، وقال : هو مرسل .

                                وقد رواه - أيضا - مندل ، عن الشيباني ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يلاحظ يمينا وشمالا .

                                [ ص: 404 ] خرجه ابن عدي .

                                ومندل ، ضعيف .

                                وروى الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمح في الصلاة ، ولا يلتفت .

                                خرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه جهالة ، وهو مرسل .

                                وقد وصله بعضهم ، وأنكر ذلك الإمام أحمد ، وضعف إسناده ، وقال : إنما هو عن رجل ، عن سعيد .

                                وقد يحمل هذا - إن صح - على الالتفات لمصلحة .

                                وقد روي عن علي بن شيبان الحنفي ، قال : قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وصلينا معه ، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ، فقال : ( لا صلاة لمن لا يقيم صلبه ) .

                                خرجه الإمام أحمد وابن حبان وابن ماجه .

                                وقد روي الالتفات في الصلاة يمينا وشمالا عن طائفة من السلف ، منهم : أنس والنخعي وعبد الله بن معقل بن مقرن .

                                وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يلتفت في صلاته حتى يقضيها .

                                [ ص: 405 ] وعن أبي جعفر القارئ ، قال : كنت أصلي وابن عمر ورائي ، ولا أعلم ، فالتفت ، فغمزني .

                                وروى حميد ، عن معاوية بن قرة ، قال : قيل لابن عمر : إن الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا ، قال : لكنا نقول كذا وكذا .

                                وفي رواية : ونكون مثل الناس .

                                وقد رويت الرخصة في الالتفات في النافلة .

                                فخرج الترمذي في حديث علي بن زيد ، عن ابن المسيب ، عن أنس ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا بني ، إياك والالتفات في الصلاة ؛ فإن الالتفات في الصلاة هلكة ، فإن كان لا بد ففي التطوع ، لا في الفريضة ) .

                                وقال : حديث حسن .

                                وذكر في ( كتاب العلل ) : أنه ذاكر به البخاري ، فلم يعرفه ، ولم يعرف لابن المسيب عن أنس شيئا .

                                وقد روي عن أنس من وجوه أخر ، وقد ضعفت كلها .

                                وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف ، عن أبي الدرداء مرفوعا .

                                ولا يصح إسناده أيضا .

                                قال الدارقطني : إسناده مضطرب ، لا يثبت .

                                والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                الخدمات العلمية