الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثاني:

                                807 843 - حدثنا محمد بن أبي بكر، ثنا المعتمر، عن عبيد الله، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ، قال: جاء الفقراء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، قال: " ألا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدركم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين ".

                                فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر [ ص: 241 ] أربعا وثلاثين. فرجعت إليه، فقال: تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن
                                ثلاث وثلاثون.

                                التالي السابق


                                ذكر الخطابي : أن لفظ هذه الرواية: " ذهب أهل الدور "، وقال: والصواب " الدثور ".

                                وذكر غيره: أن هذه رواية المروزي ، وأنها تصحيف، والرواية المشهورة: " أهل الدثور " على الصواب.

                                و: " الدثور ": جمع دثر، بفتح الدال، وهو: المال الكثير.

                                وفي الحديث: دليل على قوة رغبة الصحابة -رضي الله عنهم- في الأعمال الصالحة الموجبة للدرجات العلى والنعيم المقيم، فكانوا يحزنون على العجز عن شيء مما يقدر عليه غيرهم من ذلك.

                                وقد وصفهم الله في كتابه بذلك، بقوله: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون

                                ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا حسد إلا في اثنتين "، فذكر منهما: " رجل [ ص: 242 ] آتاه الله مالا، فهو ينفقه في وجهه، فيقول رجل: لو أن لي مالا، لفعلت فيه كما فعل ذلك ".

                                فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون وينفقون حزنوا على عجزهم عن ذلك، وتأسفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه، وشكوا ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فدلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمل، إن أخذوا به أدركوا من سبقهم، ولم يدركهم أحد بعدهم، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، وهو التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين.

                                وهذا يدل على أن الذكر أفضل الأعمال ، وأنه أفضل من الجهاد والصدقة والعتق وغير ذلك.

                                وقد روي هذا المعنى صريحا عن جماعة كثيرة من الصحابة، منهم: أبو الدرداء ومعاذ وغيرهما.

                                وروي مرفوعا من وجوه متعددة - أيضا.

                                ولا يعارض هذا حديث الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يعدل الجهاد، فقال: " هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم فلا تفتر " - الحديث [ ص: 243 ] المشهور، لأن هذا السائل سأل عن عمل يعمله في مدة جهاد المجاهد من حين خروجه من بيته إلى قدومه. فليس يعدل ذلك شيء غير ما ذكره، والفقراء دلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمل يستصحبونه في مدة عمرهم، وهو ذكر الله الكثير في أدبار الصلوات، وهذا أفضل من جهاد يقع في بعض الأحيان، ينفق صاحبه فيه ماله.

                                فالناس منقسمون ثلاثة أقسام، أهل ذكر يدومون عليه إلى انقضاء أجلهم، وأهل جهاد يجاهدون وليس لهم مثل ذلك الذكر. فالأولون أفضل من هؤلاء.

                                وقوم يجمعون بين الذكر والجهاد، فهؤلاء أفضل الناس.

                                ولهذا لما سمع الأغنياء الذين كانوا يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- الفقراء من ذلك عملوا به، فصاروا أفضل من الفقراء حينئذ؛ ولهذا لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، قال: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".

                                ومن زعم من الصوفية أنه أراد أن الفقر فضل الله، فقد أخطأ، وقال ما لا يعلم.

                                وقد دل الحديث على فضل التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين.

                                وخرجه مسلم من طريق ابن عجلان ، عن سمي ، وذكر فيه: أن المختلفين هم سمي وبعض أهله، وأن القائل له هو أبوه أبو صالح السمان ، وأن ابن عجلان قال: حدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة ، فحدثني بمثله، عن أبي صالح .

                                وخرجه البخاري في أواخر كتابه " الصحيح " - أيضا - من طريق ورقاء ، عن سمي بهذا الإسناد، بنحوه، ولكن قال فيه: " تسبحون في دبر كل صلاة [ ص: 244 ] عشرا، وتحمدون عشرا، وتكبرون عشرا ".

                                وقال: تابعه عبيد الله بن عمر ، عن سمي . قال: ورواه ابن عجلان ، عن سمي ورجاء بن حيوة . ورواه جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي صالح ، عن أبي الدرداء . ورواه سهيل ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. انتهى.

                                ومراده: المتابعة على إسناده.

                                ورواية عبيد الله بن عمر ، هي التي خرجها في هذا الباب.

                                ورواية ابن عجلان ، هي التي خرجها مسلم ، كما ذكرناه.

                                ورواية سهيل ، خرجها مسلم - أيضا - بمثل حديث ابن عجلان ، عن سمي ، وزاد في الحديث: يقول سهيل : إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون.

                                وأما رواية جرير التي أشار إليها البخاري ، وقوله: عن أبي صالح ، عن أبي الدرداء ، فقد تابعه عليها - أيضا - أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن عبد العزيز .

                                والظاهر: أنه وهم، فإن أبا صالح إنما يرويه عن أبي هريرة ، لا عن أبي الدرداء ، كما رواه عنه سمي وسهيل ورجاء بن حيوة .

                                وإنما رواه عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي عمر الصيني ، عن أبي الدرداء ، كذلك رواه الثوري ، عن عبد العزيز ، وهو أصح -: قاله أبو زرعة ، والدارقطني .

                                [ ص: 245 ] وأما ألفاظ الحديث، فهي مختلفة:

                                ففي رواية عبيد الله بن عمر التي خرجها البخاري هاهنا: " تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثا وثلاثين "، وفسره بأنه يقول: " سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر " حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين .

                                وقد تبين أن المفسر لذلك هو أبو صالح ، وهذا يحتمل أمرين:

                                أحدهما: أنه يجمع بين هذه الكلمات الثلاث، فيقولها ثلاثا وثلاثين مرة، فيكون مجموع ذلك تسعا وتسعين.

                                والثاني: أنه يقولها إحدى عشرة مرة، فيكون مجموع ذلك ثلاثا وثلاثين.

                                وهذا هو الذي فهمه سهيل ، وفسر الحديث به، وهو ظاهر رواية سمي ، عن أبي صالح - أيضا.

                                ولكن؛ قد روي حديث أبي هريرة من غير هذا الوجه صريحا بالمعنى الأول:

                                فخرج مسلم من حديث سهيل ، عن أبي عبيد المذحجي - وهو: مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه - عن عطاء بن يزيد ، عن أبي هريرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من سبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر ".

                                وقد روي عن سهيل بهذا الإسناد - موقوفا على أبي هريرة .

                                [ ص: 246 ] وكذا رواه مالك في " الموطأ "، عن أبي عبيد - موقوفا.

                                وخرجه ابن حبان في " صحيحه " من طريق مالك - مرفوعا.

                                والموقوف عن مالك أصح.

                                وخرجه النسائي في " اليوم والليلة " بنحو هذا اللفظ، من رواية ابن عجلان ، عن سهيل ، عن أبيه، عن أبي هريرة - مرفوعا.

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في " صحيحه " من طريق الأوزاعي : حدثني حسان بن عطية ، حدثني محمد بن أبي عائشة ، حدثني أبو هريرة ، قال: قال أبو ذر : يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور - فذكر الحديث، بمعناه، وقال فيه: " تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمده ثلاثا وثلاثين، وتسبحه ثلاثا وثلاثين، تختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر ".

                                فهذا ما في حديث أبي هريرة من الاختلاف.

                                وقد روي عنه نوع آخر، وهو: التسبيح مائة مرة، والتكبير مائة مرة، والتهليل مائة مرة، والتحميد مائة مرة .

                                وخرجه النسائي في " كتاب اليوم والليلة " بإسناد فيه ضعف.

                                وروي موقوفا على أبي هريرة .

                                [ ص: 247 ] وخرجه النسائي في " السنن " بإسناد آخر، عن أبي هريرة - مرفوعا -: " من سبح في دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة، وهلل مائة تهليلة، غفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر ".

                                وروي عن أبي هريرة - موقوفا عليه -: التسبيح عشر، والتحميد عشر، والتكبير عشر.

                                وقد تقدم أن البخاري خرجه في آخر " كتابه " عنه - مرفوعا.

                                وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير حديث أبي هريرة في هذا الباب أنواع أخر من الذكر:

                                فمنها: التسبيح والتحميد والتكبير مائة، فالتسبيح والتحميد كل منهما ثلاث وثلاثون، والتكبير وحده أربع وثلاثون.

                                خرجه مسلم من حديث كعب بن عجرة .

                                وخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث زيد بن ثابت .

                                وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي ذر ، لكن عنده: أن التحميد هو الأربع.

                                وخرجه ابن ماجه ، وعنده: أن ابن عيينة قال: لا أدري أيتهن أربع.

                                ومنها: التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مائة مرة، من كل واحد [ ص: 248 ] خمس وعشرون.

                                وخرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث زيد بن ثابت .

                                وخرجه النسائي من حديث ابن عمر .

                                ومنها: التسبيح ثلاثا وثلاثين، والتحميد مثله، والتكبير أربعا وثلاثين، فذلك مائة، ويزيد عليهن التهليل عشرا.

                                خرجه النسائي والترمذي من حديث ابن عباس .

                                ومنها: التسبيح عشر مرات، والتحميد مثله، والتكبير مثله، فذلك ثلاثون.

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

                                وخرجه النسائي في " اليوم والليلة " من حديث سعد.

                                ومنها: التكبير إحدى عشرة مرة، والتحميد مثله، والتهليل مثله، والتسبيح مثله، فذلك أربع وأربعون .

                                خرجه البزار من حديث ابن عمر .

                                وإسناده ضعيف، فيه موسى بن عبيدة .

                                ويجوز الأخذ بجميع ما ورد من أنواع الذكر عقب الصلوات ، والأفضل أن [ ص: 249 ] لا ينقص عن مائة، لأن أحاديثها أصح أحاديث الباب.

                                واختلف في تفضيل بعضها على بعض:

                                فقال أحمد - في رواية الفضل بن زياد - وسئل عن التسبيح بعد الصلاة ثلاثة وثلاثين أحب إليك، أم خمسة وعشرين؟ قال: كيف شئت.

                                قال القاضي أبو يعلى : وظاهر هذا: التخيير بينهما من غير ترجيح.

                                وقال - في رواية علي بن سعيد -: أذهب إلى حديث ثلاث وثلاثين.

                                وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على غيره.

                                وكذلك قال إسحاق : الأفضل أن تسبح ثلاثا وثلاثين، وتحمد ثلاثا وثلاثين، وتكبر ثلاثا وثلاثين، وتختم المائة بالتهليل. قال: وهو في دبر صلاة الفجر آكد من سائر الصلوات؛ لما ورد من فضيلة الذكر بعد الفجر إلى طلوع الشمس.

                                نقل ذلك عنه حرب الكرماني .

                                وهل الأفضل أن يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كل مرة، فيقولهن ثلاثا وثلاثين مرة، ثم يختم بالتهليل، أم الأفضل أن يفرد التسبيح والتحميد والتكبير على حدة؟

                                قال أحمد - في رواية محمد بن ماهان ، وسأله: هل يجمع بينهما، أو يفرد؟ قال: لا يضيق.

                                قال أبو يعلى : وظاهر هذا: أنه مخير بين الإفراد والجمع.

                                وقال أحمد - في رواية أبي داود -: يقول هكذا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا يقطعه.

                                [ ص: 250 ] وهذا ترجيح منه للجمع، كما قاله أبو صالح ، لكن ذكر التهليل فيه غرابة.

                                وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة - مرسلا - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يقولوا دبر كل صلاة: " لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله عشر مرات ".

                                وقال إسحاق : الأفضل أن يفرد كل واحد منها.

                                وهو اختيار القاضي أبي يعلى من أصحابنا، قال: وهو ظاهر الأحاديث؛ لوجهين:

                                أحدهما: أنه قال: " تسبحون وتحمدون وتكبرون "، والواو قد قيل: إنها للترتيب، فإن لم تقتض وجوبه أفادت استحبابه.

                                والثاني: أن هذا مثل نقل الصحابة -رضي الله عنهم- لوضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ولا خلاف في المراد: أنه غسل كل عضو من ذلك بانفراده ثلاثا ثلاثا، قبل شروعه في الذي بعده، ولم يغسل المجموع مرة، ثم أعاده مرة ثانية، وثالثة.

                                قلت: هذا على رواية من روى التسبيح ثلاثا وثلاثين، والتحميد ثلاثا وثلاثين، والتكبير ثلاثا وثلاثين ظاهر، وأما رواية من روى " تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثا وثلاثين " فمحتملة، ولذلك وقع الاختلاف في فهم المراد منها.



                                الخدمات العلمية