الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                وأما حديث أنس:

                                فقال:

                                818 856 - حدثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، قال: سأل رجل أنسا: ما سمعت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في الثوم؟ فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا، ولا يصلين معنا ".

                                التالي السابق


                                وخرجه في موضع آخر، وقال: " فلا يقربن مسجدنا ".

                                [ ص: 287 ] وفي النهي لمن أكلهما عن قربان الناس: دليل على أنه يكره له أن يغشى الناس حتى يذهب ريحها، ولكن حضوره مجامع الناس للصلاة والذكر ومجالسته لأهل العلم والدين أشد كراهة من حضوره الأسواق ومجالسته الفساق.

                                ولهذا في حديث جابر المتقدم: " وليقعد في بيته ".

                                وفي " صحيح مسلم " من حديث أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على زراعة بصل هو وأصحابه، فنزل ناس منهم، فأكلوا منه، ولم يأكل آخرون، فرحنا إليه، فدعا الذين لم يأكلوا البصل، وأخر الآخرين، حتى ذهب ريحها.

                                وقد روي عن عمر ، أنه قال: من أكل البصل والكراث فلا يأكله عند قراءة القرآن، ولا عند حضور المساجد.

                                خرجه عثمان الدارمي في " كتاب الأطعمة ".

                                ومن أغرب ما روي في هذا الباب: ما خرجه أبو داود وابن حبان في " صحيحه " من حديث حذيفة - بالشك في رفعه -: " من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثا ".

                                وهذا مشكوك في رفعه.

                                وقد رواه جماعة من الثقات، فوقفوه على حذيفة بغير شك، وهو الأظهر. والله أعلم.

                                ويحتمل أن في الكلام حذفا، تقديره: قالها ثلاثا. يعني: أنه أعاد هذه [ ص: 288 ] الكلمة ثلاث مرات.

                                وقد دلت أحاديث هذا الباب على أن أكل الثوم غير محرم في الجملة، وإنما ينهى من أكله عن دخول المسجد حتى يذهب ريحه، وعلى هذا جمهور العلماء.

                                وذهب إلى تحريم أكله طائفة قليلة من أهل الظاهر. وروي عن بعض المتقدمين - أيضا - والنصوص الصحيحة صريحة برد هذا الكلام.

                                وأما كراهة أكل ذلك، فمن العلماء من كره أكله نيئا حتى يطبخ، منهم: عمر وابن عمر والنخعي ، وهو قول أحمد ، وقال: الثوم أشد.

                                وروي عنه رواية، أنه قال: لا أحب أكل الثوم خاصة، وإن طبخ، لأنه لا يذهب ريحه إذا طبخ، قال: وإن أكله من علة فلا بأس، وقال: الذي يأكلها يتجنب المسجد، وكل ما له ريح، مثل البصل والثوم والكراث والفجل فإنما أكرهه لمكان الصلاة.

                                وسئل عن أكل ذلك بالليل؟ فقال: أليس يتأذى به الملك.

                                وظاهر هذا: يدل على كراهة أكل ما له ريح كريهة، وإن كان وحده.

                                وقد روي عن سعد بن أبي وقاص ، أنه كان إذا أراد أن يأكل الثوم بدا - يعني: خرج إلى البادية.

                                وعن عكرمة ، قال: كنا نأكله ونخرج من الكعبة.

                                خرجه ابن جرير الطبري .

                                ولو أكله، ثم دخل المسجد كره له ذلك.

                                وظاهر كلام أحمد : أنه يحرم، فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد : إن أكل وحضر المسجد أثم.

                                [ ص: 289 ] وهو قول ابن جرير - أيضا - وأهل الظاهر وغيرهم.

                                قال ابن جرير : وإذا وجد منه ريحة في المسجد، فإن السلطان يتقدم إليه بالنهي عن معاودة ذلك، فإن خالف وعاد، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة. واستدل بحديث عمر -رضي الله عنه- وقد سبق ذكره.

                                وقد استدل قوم من العلماء بأحاديث هذا الباب على أن حضور الجماعة في المساجد ليست فرضا؛ لأنها لو كانت فرضا لم يرخص في أكل الثوم وينهى من أكله عن حضور المسجد، وجعلوا أكل هذه البقول التي لها ريح خبيثة عذرا يبيح ترك الجماعة.

                                ورد عليهم آخرون:

                                قال الخطابي : قد توهم هذا بعض الناس؛ قال: وإنما هو - يعني: النهي عن دخول المسجد - توبيخ له وعقوبة على فعله إذ حرم فضيلة الجماعة.

                                ونقل ابن منصور ، عن إسحاق ، قال: إن أكل الثوم من علة حادثة به فإن ذلك مباح، وإن لم يكن علة لا يسعه أكله، لكي لا يترك الجماعة.

                                وهذا محمول على ما إذا أكله بقرب حضور الصلاة ويعلم [...] فريضة.

                                ودخول المسجد مع بقاء ريح الثوم محرم، وهو قول طائفة من أصحابنا وابن جرير وغيرهم من العلماء.

                                ويشهد لهذا: أن الخمر قبل أن تحرم بالكلية كانت محرمة عند حضور الصلاة، كيلا يمنع من الصلاة، حيث كان الله قد أنزل فيها: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فكان منادي النبي -صلى الله عليه وسلم- ينادي: " لا يقرب الصلاة سكران ". وفي ضمن ذلك النهي عن السكر بقرب وقت الصلاة، ثم حرمت بعد ذلك على الإطلاق بالآية التي في سورة المائدة.

                                [ ص: 290 ] وقد تقدم نص أحمد بأنه قال: أكرهه في وقت الصلاة، لمكان المسجد. وهذا يحتمل كراهة التنزيه، وكراهة التحريم.

                                وروى ابن وهب ، عن مالك ، أنه سئل عن أكل الثوم يوم الجمعة؟ فقال: بئسما صنع حين أكل الثوم، وهو ممن يجب عليه حضور الجمعة.

                                وقد ذكرنا: أن هذا الحكم يتعدى إلى كل مأكول له رائحة كريهة، كالفجل وغيره، وأن أحمد نص عليه.

                                وكذلك قال مالك : الكراث كالثوم، إذا وجدت ريحهما يؤذي.

                                وألحق أصحاب مالك به: كل من له رائحة كريهة يتأذى بها، كالحراث والحوات.

                                وفيه نظر، فإن هذا إثر عمل مباح، وصاحبه محتاج إليه، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه، كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة.

                                وذكر ابن عبد البر ، عن بعض شيوخه، أنه ألحق بأكل الثوم من كان أهل المسجد يتأذون بشهوده معهم من أذاه لهم بلسانه ويده، لسفهه عليهم وإضراره بهم، وأنه يمنع من دخول المسجد ما دام كذلك، وهذا حسن.

                                وكذلك يمنع المجذوم من مخالطة الناس في مساجدهم وغيره؛ لما روي من الأمر بالفرار منه. والله أعلم.

                                [ ص: 291 ] وفي " تهذيب المدونة ": ويقام الذي يقعد في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن.

                                ولعل مراده: إذا كان يقرأ جهرا، ويحصل بقراءته أذى لأهل المسجد، ويشوش عليهم. والله أعلم.



                                الخدمات العلمية