الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 20 ] فصل

                                خرج البخاري :

                                8 8 - من حديث عكرمة بن خالد عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " .

                                التالي السابق


                                وهذا الحديث دل على أن الإسلام مبني على خمسة أركان ، وهذا يدل على أن البخاري يرى أن الإيمان والإسلام مترادفان .

                                ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس " - أن الإسلام مثله كبنيان ، وهذه الخمس دعائم البنيان وأركانه التي يثبت عليها البنيان .

                                وقد روي في لفظ : " بني الإسلام على خمس دعائم " .

                                خرجه محمد بن نصر المروزي .

                                وإذا كانت هذه دعائم البنيان وأركانه فبقية خصال الإسلام كبقية البنيان ، فإذا فقد شيء من بقية الخصال الداخلة في مسمى الإسلام الواجب نقص البنيان ولم يسقط بفقده ، وأما هذه الخمس فإذا زالت كلها سقط البنيان ولم يثبت بعد زوالها .

                                وكذلك إن زال منها الركن الأعظم وهو الشهادتان ، وزوالهما يكون بالإتيان بما يضادهما ولا يجتمع معهما .

                                وأما زوال الأربع البواقي فاختلف العلماء هل يزول الاسم بزوالها أو بزوال واحد منها ؟ أم لا يزول بذلك ؟ أم يفرق بين الصلاة وغيرها ، فيزول بترك [ ص: 21 ] الصلاة دون غيرها ؟ أم يختص زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة ؟ وفي ذلك اختلاف مشهور .

                                وهذه الأقوال كلها محكية عن الإمام أحمد .

                                وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة ، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا منهم ، حتى إنه جعل قول من قال : لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها - من أقوال المرجئة .

                                وكذلك قال سفيان بن عيينة : المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم ، وليسا سواء ; لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر .

                                وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس ، وعلماء اليهود ، والذين أقروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم بلسانهم ولم يعملوا بشرائعه .

                                وروي عن عطاء ونافع مولى ابن عمر أنهما سئلا عمن قال : الصلاة فريضة ، ولا أصلي ، فقالا : هو كافر .

                                وكذا قال الإمام أحمد .

                                ونقل حرب عن إسحاق قال : غلت المرجئة حتى صار من قولهم : إن قوما يقولون : من ترك الصلوات المكتوبات ، وصوم رمضان ، والزكاة ، والحج ، وعامة الفرائض من غير جحود لها - إنا لا نكفره ، يرجأ أمره إلى الله بعد ، إذ هو مقر . فهؤلاء الذين لا شك فيهم ، يعني في أنهم مرجئة .

                                وظاهر هذا أنه يكفر بترك هذه الفرائض .

                                وروى يعقوب الأشعري ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير قال : من ترك [ ص: 22 ] الصلاة متعمدا فقد كفر ، ومن أفطر يوما من رمضان متعمدا فقد كفر ، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر ، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر .

                                ويروى عن الحكم بن عتيبة نحوه .

                                وحكي رواية عن أحمد ، اختارها أبو بكر من أصحابه .

                                وعن عبد الملك بن حبيب المالكي مثله .

                                وهو قول أبي بكر الحميدي .

                                وروي عن ابن عباس : التكفير ببعض هذه الأركان دون بعض ; فروى مؤمل ، عن حماد بن زيد ، عن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس - ولا أحسبه إلا رفعه - قال : " عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة ، عليهن أسس الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وصوم رمضان ; من ترك منها واحدة فهو بها كافر حلال الدم . وتجده كثير المال لم يحج ، فلا يزال بذلك كافرا ، ولا يحل دمه . وتجده كثير المال لا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ، ولا يحل دمه .

                                ورواه قتيبة عن حماد بن زيد ، فوقفه واختصره ، ولم يتمه .

                                ورواه سعيد بن زيد - أخو حماد - عن عمرو بن مالك ورفعه ، وقال : " من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل ، وقد حل دمه وماله " ولم يزد على ذلك .

                                والأظهر وقفه على ابن عباس ; فقد جعل ابن عباس ترك هذه الأركان كفرا ، لكن بعضها كفر يبيح الدم ، وبعضها لا يبيحه ، وهذا يدل على أن الكفر بعضه ينقل عن الملة ، وبعضه لا ينقل .

                                [ ص: 23 ] وأكثر أهل الحديث على أن ترك الصلاة كفر دون غيرها من الأركان ، كذلك حكاه محمد بن نصر المروزي وغيره عنهم .

                                وممن قال بذلك : ابن المبارك ، وأحمد في المشهور عنه ، وإسحاق ، وحكى عليه إجماع أهل العلم كما سبق .

                                وقال أيوب : ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه .

                                وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة .

                                خرجه الترمذي .

                                وقد روي عن علي وسعد وابن مسعود وغيرهم ، قالوا : من ترك الصلاة فقد كفر .

                                وقال عمر : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة .

                                وفي " صحيح مسلم " عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " .

                                وخرج النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " .

                                وصححه الترمذي وغيره .

                                [ ص: 24 ] ومن خالف في ذلك جعل الكفر هنا غير ناقل عن الملة كما في قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

                                فأما بقية خصال الإسلام والإيمان فلا يخرج العبد بتركها من الإسلام عند أهل السنة والجماعة . وإنما خالف في ذلك الخوارج ونحوهم من أهل البدع .

                                قال حذيفة : الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والحج سهم ، ورمضان سهم ، والجهاد سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، وقد خاب من لا سهم له .

                                وروي مرفوعا ، والموقوف أصح .

                                فسائر خصال الإسلام الزائدة على أركانه الخمسة ودعائمه إذا زال منها شيء نقص البنيان ، ولم ينهدم أصل البنيان بذلك النقص .

                                وقد ضرب الله ورسوله مثل الإيمان والإسلام بالنخلة .

                                قال الله تعالى : ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .

                                فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد وهي أساس الإسلام ، وهي جارية على لسان المؤمن ، وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها في قلب المؤمن ، وارتفاع فرعها في السماء هو علو هذه الكلمة وبسوقها ، وأنها تخرق الحجب ولا تتناهى دون العرش .

                                وإتيانها أكلها كل حين هو ما يرفع بسببها للمؤمن كل حين من القول [ ص: 25 ] الطيب والعمل الصالح ، فهو ثمرتها .

                                وجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن أو المسلم كمثل النخلة .

                                وقال طاوس : مثل [الإيمان] كشجرة أصلها الشهادة ، وساقها كذا وكذا ، وورقها كذا وكذا ، وثمرها الورع ، ولا خير في شجرة لا ثمر لها ، ولا خير في إنسان لا ورع فيه .

                                ومعلوم أن ما دخل في مسمى الشجرة والنخلة من فروعها وأغصانها وورقها وثمرها إذا ذهب شيء منه لم يذهب عن الشجرة اسمها ، ولكن يقال : هي شجرة ناقصة ، وغيرها أكمل منها . فإن قطع أصلها وسقطت لم تبق شجرة ، وإنما تصير حطبا .

                                فكذلك الإيمان والإسلام إذا زال منه بعض ما يدخل في مسماه مع بقاء أركان بنيانه لا يزول به اسم الإسلام والإيمان بالكلية ، وإن كان قد سلب الاسم عنه لنقصه ، بخلاف ما انهدمت أركانه وبنيانه ; فإنه يزول مسماه بالكلية ، والله أعلم .



                                الخدمات العلمية