الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 352 ] 40 - باب

                                عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، وذكر القبلة

                                408 418 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل ترون قبلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم ; إني لأراكم من وراء ظهري .

                                409 419 - حدثنا يحيى بن صالح: ثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، ثم رقي المنبر، فقال في الصلاة وفي الركوع -: " إني لأراكم من ورائي كما أراكم "

                                التالي السابق


                                وروى قتادة ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي " - وربما قال: " من بعد ظهري - إذا ركعتم وسجدتم ".

                                خرجه البخاري في " باب الخشوع في الصلاة " كما سيأتي من حديث شعبة .

                                وخرجه مسلم من رواية شعبة وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .

                                وأظن أن البخاري عدل عنه هاهنا إلى حديث فليح عن هلال ; لأن قتادة لم يصرح فيه بالسماع، وقد أكثر البخاري في " كتابه " هذا من تخريج حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي.

                                وهو هلال بن أبي ميمونة
                                . روى عنه مالك وغيره، وقد ذكر البخاري في " تاريخه " أنه سمع أنسا ، ولم يذكر ابن أبي حاتم في " كتابه " أنه يروي عن أنس ، [ ص: 353 ] وذكر أنه سأل أباه عنه، فقال: شيخ يكتب حديثه.

                                وأما فليح بن سليمان ، فقال فيه ابن معين وأبو حاتم والنسائي : ليس بالقوي، وضعفه ابن معين - أيضا - وقال: لا يحتج به. وحكي عن أبي كامل المظفر بن مدرك أنه كان يتقي حديثه، وضعفه أبو زرعة الرازي ، وقال: هو واهي الحديث -: نقله عنه البرذعي ، وضعفه علي ابن المديني - أيضا - نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في " سؤالاته له ".

                                وبكل حال ; فرواية شعبة عن قتادة عن أنس ، وإن لم يصرح بالسماع أقوى من رواية فليح عن هلال عن أنس . والله أعلم.

                                وخرج مسلم - أيضا - من حديث المختار بن فلفل ، عن أنس ، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى أقبل علينا بوجهه، فقال: " أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف ; فإني أراكم أمامي ومن خلفي ". ثم قال: " والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: " رأيت الجنة والنار ".

                                وخرج - أيضا - من طريق الوليد بن كثير : حدثني سعيد المقبري ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف، فقال: " يا فلان ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي ".

                                دلت هذه الأحاديث على أن من رأى من يسيء صلاته فإنه يأمره بإحسان صلاته ويعظه ويبالغ في الوعظ ; فإن القلوب تستجيب إلى الحق بالموعظة الحسنة ما لا تستجيب بالعنف، لا سيما إذا عم بالموعظة ولم يخص أحدا، وإن [ ص: 354 ] خصه فإنه يلين له القول.

                                وقد قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وقال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة

                                وفي بعض هذه الروايات أنه خطب الناس على المنبر، واتفقت الأحاديث كلها على أنه أمر بإقامة الركوع، وفي بعضها: والسجود، وفي بعضها: والخشوع، وفي بعضها: أنه نهاهم عن مسابقته بالركوع والسجود والانصراف من المسجد بعد إتمام صلاته، وهذا كما أمر المصلي الذي أساء في صلاته أن يعود إلى الصلاة، وقال له: " إنك لم تصل ".

                                قال ميمون بن مهران : مثل الذي يرى الرجل يسيء صلاته فلا ينهاه كمثل الذي يرى النائم تنهشه الحية ثم لا يوقظه.

                                وعن يحيى بن أبي كثير نحوه.

                                ورأى ابن عمر رجلا لا يتم ركوعه وسجوده، فقال له لما فرغ: يا ابن أخي، تحسب أنك صليت؟ إنك لم تصل، فعد لصلاتك.

                                وكان المسور بن مخرمة وغيره من الصحابة إذا رأوا من لا يتم صلاته أمروه بالإعادة، ويقولون: لا يعصى الله ونحن ننظر، ما استطعنا.

                                قال النخعي : كانوا إذا رأوا الرجل لا يحسن الصلاة علموه.

                                قال سفيان : أخشى أن لا يسعهم إلا ذلك.

                                قال أبو خلاد : ما من قوم فيهم من يتهاون بالصلاة ولا يأخذون على يديه إلا كان أول عقوبتهم أن ينقص من أرزاقهم.

                                ورأى الإمام أحمد رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال: يا هذا، أقم صلبك في الركوع والسجود، وأحسن صلاتك.

                                [ ص: 355 ] وقيل له: الرجل يرى أهل المسجد يسيئون الصلاة؟ قال: يأمرهم. قيل له: إنهم يكثرون، وربما كان عامة أهل المسجد؟ قال: يقول لهم. قيل له: يقول لهم مرتين أو ثلاثا فلا ينتهون، يتركهم بعد ذلك؟ قال: أرجو أن يسلم - أو كلمة نحوها.

                                وقال حنبل : قيل لأبي عبد الله : ترى الرجل إذا رأى الرجل لا يتم ركوعه ولا سجوده، ولا يقيم صلبه، ترى أن يأمره بالإعادة أو يمسك عنه؟ قال: إن كان يظن أنه يقبل منه أمره وقال له ووعظه حتى يحسن صلاته ; فإن الصلاة من تمام الدين.

                                وقوله: " إن كان يظن أنه يقبل منه " يخرج على قوله: إنه لا يجب الأمر بالمعروف إلا لمن ظن أنه يقبل.

                                والمشهور عنه خلافه، وأنه يجب مطلقا مع القدرة.

                                ويجب الأمر بإتمام الركوع والسجود وإقامة الصلب في الصلاة، وإن كان قد قال بعض الفقهاء: إن الصلاة صحيحة بدونه ; لأن الخلاف إذا كان مخالفا للسنن الصحيحة فلا يكون عذرا مسقطا للأمر بالمعروف.

                                وأيضا ; فالخلاف إنما هو في براءة الذمة منها، وقد أجمعوا على أنها صلاة ناقصة، ومصليها مسيء غير محسن، وجميع النصوص المذكورة في هذا الباب تدل على الأمر لمن لا يتم الركوع والسجود بإتمامها.

                                وفي " المسند " و" سنن ابن ماجه "، عن علي بن شيبان الحنفي - وكان أحد الوفد - قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: " يا معشر المسلمين، لا صلاة لامرئ لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ".

                                ومتى كان المسيء في صلاته جاهلا بما أساء فيه تعين الرفق في تعليمه، كما [ ص: 356 ] رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالذي قال له: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذه الصلاة، فعلمني، فعلمه.

                                وفي " صحيح مسلم " عن معاوية بن الحكم السلمي ، قال: بينا أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي - ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام - وذكر بقية الحديث.

                                فإن رأى من يفعل في صلاته مكروها لا يبطل الصلاة فأمره بتركه برفق كان حسنا.

                                قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : رجل رأى رجلا مشمرا كميه في الصلاة، أترى عليه أن يأمره؟ قال: يستحب له أن يصلي غير كاف شعرا ولا ثوبا، وليس هذا من المنكر الذي يغلظ ترك النهي عنه.

                                وصلى أحمد يوما خلف رجل، فكان إذا سجد جمع ثوبه بيديه، فلما فرغ قال أحمد لرجل إلى جانبه - وخفض صوته - قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يكف شعرا ولا ثوبا " ففطن الإمام بذلك، وعلم أنه أراده.

                                ورأى الفضيل بن عياض رجلا يفقع أصابعه في صلاته فزبره وانتهره [ ص: 357 ] فقال له الرجل: يا هذا، ينبغي لمن يقوم لله عز وجل أن يكون ذليلا، فبكى الفضيل ، وقال له: صدقت.

                                وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أن قد عقلنا عنه، ثم خرج علينا يوما، فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقال: " عباد الله، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ".

                                وقوله صلى الله عليه وسلم: " إني لأراكم من وراء ظهري "، وفي رواية: " من خلفي " وفي رواية: " من بعدي " - والمراد به: من خلفي -: فيه تحذير لهم من التقصير في الصلاة وراءه، فإنهم لو كانوا بين يديه لم يقصروا في الصلاة فكذا ينبغي أن يصلوا من خلفه ; فإنه يراهم.

                                وفيه تنبيه على أن من كان يحسن صلاته لعلمه بنظر مخلوق إليه فإنه ينبغي أن يحسنها لعلمه بنظر الله إليه ; فإن المصلي يناجي ربه، وهو قريب منه ومطلع على سره وعلانيته.

                                وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر، فيه: الإشارة إلى هذا المعنى من رواية ابن إسحاق : حدثني سعيد المقبري ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته رأى رجلا كان في آخر الصفوف، فقال: " أي فلان، ألا تتقي الله عز وجل في صلاتك، ألا تتم ركوعك وسجودك، ألا ينظر المصلي منكم كيف يصلي؟ وإنما يصلي لنفسه، وإنما يناجي ربه عز وجل، لا تظنون أني لا أراكم، والله إني لأرى من خلفي منكم كما أرى من بين يدي ".

                                [ ص: 358 ] فقوله: " ألا ينظر المصلي منكم كيف يصلي، وإنما يصلي لنفسه " يشير إلى أن نفع صلاته يعود إلى نفسه، كما قال تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها فمن علم أنه يعمل لنفسه وأنه ملاق عمله، ثم قصر في عمله وأساءه كان مسيئا في حق نفسه، غير ناظر لها ولا ناصح.

                                وقوله: " وإنما يناجي ربه " إشارة إلى أنه ينبغي له أن يستحي من نظر الله إليه، واطلاعه عليه وقربه منه، وهو قائم بين يديه يناجيه، فلو استشعر هذا لأحسن صلاته غاية الإحسان، وأتقنها غاية الإتقان، كما قال صلى الله عليه وسلم: " اعبد الله كأنك تراه ".

                                وفي القرآن الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه الآية.

                                وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تظنون أني لا أراكم، والله إني لأرى من خلفي منكم " توبيخ لمن قصر في صلاته حيث يظن أن مخلوقا لا يراه، ثم يحسنها إذا ظن أنه يراه.

                                ومن هنا قال بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.

                                وروى إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو فذلك استهانة استهان بها ربه عز وجل ".

                                وروي موقوفا.

                                وروى بقية ، عن ورقاء بن عمر ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - مرفوعا -: " إذا صلى العبد في العلانية فأحسن، وصلى في السر [ ص: 359 ] فأحسن قال الله: هذا عبدي حقا ".

                                لعل بقية دلسه عن ضعيف.

                                وقوله: " إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي " هو فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خصه الله بها، فكان ينظر ببصيرته كما ينظر ببصره، فيرى من خلفه كما يرى من بين يديه.

                                وقد فسره الإمام أحمد بذلك في رواية ابن هانئ ، وتأول عليه قوله تعالى: وتقلبك في الساجدين

                                كما روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أصحابه في صلاته من خلفه، كما يرى من بين يديه.

                                وتأويل الآية على هذا القول: أن الله تعالى يرى نبيه صلى الله عليه وسلم حين يقوم إلى صلاته، ويرى تقلب نظره إلى الساجدين معه في صلاته.

                                وقال الأثرم : قلت لأحمد : قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأراكم من وراء ظهري "؟ قال: كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. قلت: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام عن يمينه وشماله، فأنكر ذلك إنكارا شديدا.



                                الخدمات العلمية