الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 475 ] ثم خرج البخاري هاهنا حديثا، فقال:

                                435 446 ثنا علي بن عبد الله: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان: ثنا نافع، أن عبد الله أخبره، أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج

                                التالي السابق


                                القصة: الجص.

                                والساج: نوع من أرفع أنواع الخشب، يجلب من بلاد الهند والزنج.

                                ويستدل بما فعله عثمان من يرخص في تجصيص المساجد وتزويقها ونقشها.

                                وقد روي عن ابن عمر في هذا الباب روايات أخر:

                                فخرج أبو داود من طريق فراس ، عن عطية ، عن ابن عمر ، أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر ، فبناها بجذوع النخل وبجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عمر ، فبناها بجذوع النخل وجريد النخل، وتخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن.

                                وفي هذه الرواية زيادة تجديد أبي بكر له وإعادته على ما كان، لكنه لم يزد في بقعة المسجد شيئا، وإنما زاد فيه عمر .

                                وروى الإمام أحمد : ثنا حماد الخياط : ثنا عبد الله ، عن نافع ، أن عمر زاد في المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة، وزاد عثمان ، فقال عمر : لولا [ ص: 476 ] أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ينبغي أن نزيد في مسجدنا " ما زدت .

                                وليس في هذه الرواية ذكر ابن عمر ، وهو منقطع.

                                وفيما فعله عمر وعثمان من تخريب المسجد والزيادة فيه دليل على جواز الزيادة في المساجد وتخريبها لتوسعتها وإعادة بنائها على وجه أصلح من البناء الأول ; فإن هذا فعله عمر وعثمان بمشهد من المهاجرين والأنصار وأقروا عليه.

                                فأما توسعة المساجد إذا احتيج إلى ذلك لضيقها وكثرة أهلها فقد صرح بجوازه أكثر العلماء من المالكية والحنفية وغيرهم.

                                وأما هدم المسجد العامر وإعادة بنائه على وجه أصلح من الأول فقد نص على جوازه الإمام أحمد .

                                قال أبو داود في "مسائله": سئل أحمد عن رجل بنى مسجدا فعتق، فجاء رجل فأراد أن يهدمه فيبنيه بناء أجود من ذلك، فأبى عليه الباني الأول وأحب الجيران لو تركه يهدمه؟ فقال: لو صار إلى رضا جيرانه لم يكن به بأس.

                                قال: وسمعت أحمد سئل عن مسجد يريدون أن يرفعوه من الأرض، فمنعهم من ذلك مشايخ يقولون: لا نقدر نصعد؟ قال: أحمد : ما تصنع بأسفله؟ قال: أجعله سقاية. قال: لا أعلم به بأسا. قال أحمد : ينظر إلى قول أكثرهم - يعني: أهل المسجد.

                                وبوب عليه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي ": " باب: المسجد يبنى بناء أجود من بنائه ".

                                وهو - أيضا - قول أصحاب أبي حنيفة ، ومذهب سفيان الثوري ، حكى أصحابه عنه في تصانيفهم على مذهبه أنه قال في المسجد يكون فيه ضيق، فأراد أهله أن يوسعوه من ملك رجل منهم، فلهم ذلك، وإن أرادوا أن يوسعوه من الطريق والطريق واسع لا يضر بالمارة فيه فليس لهم ذلك، إلا أن يأذن الإمام.

                                [ ص: 477 ] قال: وللإمام أن يحول الجامع من موضع إلى غيره إذا كان فيه صلاح للرعية ونوى الرشد فيه ; ذكروا أن ابن مسعود حول مسجد الكوفة من موضع التمارين.

                                قال: وسئل سفيان عن بيع حصير المسجد الخلق فيجعل في ثمن الجديد؟ فلم ير به بأسا.

                                ومذهب الإمام أحمد أن ما خرب من الأوقاف كلها ولم يمكن عمارتها، فإنها تباع ويستبدل بها ما يقوم مقامها.

                                وعنه في المساجد روايتان: إحداهما كذلك. والثانية: لا تباع وتنقل آلاتها إلى موضع آخر يبنى بها مثلها.

                                ونقل عنه حرب في مسجد خرب، فنقلت آلاته وبني بها مسجد في مكان آخر: أن العتيق يرم ولا يعطل، ولا يبنى في مكانه بيت ولا خان للسبيل، ولكن يرم ويتعاهد.

                                ونقل حرب ، عن إسحاق بن راهويه أنه أجاز للسلطان خاصة أن يبني مكان المسجد الخراب خانا للسبيل أو غيره، مما يكون خيرا للمسلمين، فيفعل ما هو خير لهم.

                                وروى حرب بإسناده عن عبيد الله بن الحسن العنبري في مسجد خافض أراد أهله أن يستبدلوا به؟ قال: إذا كان الخليفة هو الذي يفعل ذلك أراه جائزا.

                                وروى وكيع بإسناده، عن جابر ، عن الشعبي ، قال: لا بأس أن يجعل المسجد حشا والحش مسجدا.

                                ومما يدل على جواز ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على هدم بناء الكعبة ، [ ص: 478 ] وإعادتها على قواعد إبراهيم ، فيدخل فيها غالب الحجر ، ويجعل لها بابين لاصقين بالأرض.

                                وقد فعل ذلك ابن الزبير ، وزاد مع ذلك في طولها، ثم أعادها الحجاج بأمر عبد الملك إلى حالها الأول، وأقر الزيادة في طولها.

                                فيالله العجب!! كيف تقر زيادة لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وتزال زيادة ذكرها وعزم عليها ; ولهذا ندم عبد الملك على ما فعل لما بلغه الحديث عن عائشة .

                                ومما يدل على جواز ذلك: أن العبادات يجوز إبطالها لإعادتها على وجه أكمل مما كانت، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ; ليعيدوا الحج على وجه أكمل مما كان، وهو وجه التمتع ; فإنه أفضل من الإفراد والقران بغير سوق هدي، كما دل عليه هذه النصوص بالأمر بالفسخ.

                                وكما أن من دخل في صلاة مكتوبة منفردا، ثم حضر جماعة، فإن له إبطال صلاته أو قلبها نفلا ; ليعيد فرضه في جماعة، فإنه أكمل من صلاته منفردا.

                                وهذا قول جمهور العلماء، منهم: أحمد ، والشافعي في أحد قوليه، وكذلك قال مالك وأبو حنيفة إذا لم يكن قد صلى أكثر صلاته.

                                وكذلك الهدي المعين والأضحية المعينة يجوز إبدالهما بخير منهما عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما.

                                وإذا هدم المسجد، ثم أعيد بناؤه أو وسع، فالبناء المعاد يقوم مقام الأول، ولا يحتاج إلى تجديد وقفه.

                                وهذا على قول من يرى أن الوقف ينعقد بالقول وبالفعل الدال عليه، وأن المسجد يصير مسجدا بالأذان وصلاة الناس فيه، كما هو قول مالك وأبي حنيفة والثوري وأحمد - ظاهر، وتصير الزيادة في المسجد مسجدا بمجرد وصلها في المسجد وصلاة الناس فيها.

                                [ ص: 479 ] وقد قال مجاهد والأوزاعي في الفرس الحبيس إذا عطب، فاشتري بثمنه فرس آخر، وزيد في ثمنه زيادة: إن الفرس كله يكون حبيسا كالأول.

                                وحكم الزيادة حكم المزيد فيه في الفضل - أيضا - فما زيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم كله مسجد، والصلاة فيه كله سواء في المضاعفة والفضل.

                                وقد قيل: إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف، إنما خالف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا، منهم: ابن عقيل وابن الجوزي ، وبعض الشافعية.

                                ولكن قد روي عن الإمام أحمد التوقف في ذلك:

                                قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : الصف الأول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم : أي صف هو، فإني رأيتهم يتوخون دون المنبر، ويدعون الصف الأول؟ قال: ما أدري. قلت لأبي عبد الله : فما زيد في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهو عندك منه؟ فقال: وما عندي، إنما هم أعلم بهذا - يعني: أهل المدينة .

                                وقد روى عمر بن شبة في كتاب " أخبار المدينة " بإسناد فيه نظر، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي ". فكان أبو هريرة يقول: لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه .

                                وبإسناد فيه ضعف، عن أبي عمرة ، قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ الجبانة كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وبإسناده، عن ابن أبي ذئب ، قال: قال عمر : لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة كان منه.

                                [ ص: 480 ] وكذلك الزيادة في المسجد الحرام :

                                روى مثنى بن الصباح ، عن عطاء ، أنه قيل له في المضاعفة في المسجد وحده، أو في الحرم ؟ قال: في الحرم كله ; فإن الحرم كله مسجد.

                                وروى الأزرقي بإسناده، عن أبي هريرة ، قال: إنا لنجد في كتاب الله أن حد المسجد الحرام من الحزورة إلى المسعى .

                                وبإسناده، عن عبد الله بن عمرو ، قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزورة إلى المسعى .

                                وبإسناده، عن عطاء ، قال: المسجد الحرام الحرم كله.

                                وروى عبد الرزاق في "كتابه" من رواية ليث ، عن مجاهد ، قال: الحرم كله مسجد، يعتكف في أيه شاء، وإن شاء في منزله إلا أنه لا يصلي إلا في جماعة.

                                وقد ذكر الشافعية: أنه لو حلف لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة لم يحنث، فلو حلف لا يدخل مسجد بني فلان، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة حنث.

                                وهذا مما يشهد لأن حكم الزيادة حكم المزيد في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه عرف المسجد الحرام بالألف واللام، ومسجده بإضافته إليه، ولكنه جمع بين الإشارة إليه وتعريفه بالإضافة، فقال: "مسجدي هذا". والله سبحانه وتعالى أعلم.



                                الخدمات العلمية