الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 51 ] 6 - باب

                                الصلوات الخمس كفارة للخطايا

                                إذا صلاهن لوقتهن في الجماعة وغيرها

                                505 528 - حدثني إبراهيم بن حمزة : ثنا ابن أبي حازم والدراوردي ، عن يزيد بن عبد الله ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه ؟ ) قالوا : لا يبقي من درنه شيئا . قال : ( فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بها الخطايا ) .

                                التالي السابق


                                هذا مثل ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحو الخطايا بالصلوات الخمس ، فجعل مثل ذلك مثل من ببابه نهر يغتسل فيه كل يوم خمس مرار ، كما أن درنه ووسخه ينقى بذلك حتى لا يبقى منه شيء ، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء .

                                واستدل بذلك بعض من يقول : إن الصلاة تكفر الكبائر والصغائر ، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفرها مجرد الصلاة بدون توبة ، يقولون : هذا العموم خص منه الكبائر بما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر ) .

                                وفيه - أيضا - : عن عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة ، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها ; إلا كانت كفارة لما [ ص: 52 ] قبلها من الذنوب ، ما لم تؤت كبيرة وكذلك الدهر كله ) .

                                وخرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( والذي نفسي بيده ، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ، ثم قيل له : ادخل بسلام ) .

                                وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه - أيضا .

                                وقال ابن مسعود : الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر .

                                وروي عنه مرفوعا . والموقوف أصح .

                                وقال سلمان : حافظوا على هذه الصلوات الخمس ; فإنهن كفارة لهذه الجراح ، ما لم تصب المقتلة .

                                وقد حكى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك ، وأن الكبائر لا تكفر بمجرد الصلوات الخمس ، وإنما تكفر الصلوات الخمس الصغائر خاصة .

                                وقد ذهب طائفة من العلماء ، منهم : أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا - إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائر ، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئا من الصغائر ، وحكاه ابن عطية في " تفسيره " عن جمهور أهل السنة ; لظاهر قوله : ( ما اجتنبت الكبائر ) .

                                والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء ، ورجحه ابن عطية ، وحكاه عن [ ص: 53 ] الحذاق : أن ذلك ليس بشرط ، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقا إذا لم يصر عليها ، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر .

                                وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب وغيره من الأحاديث يدل على ذلك ، وقد ذكر البخاري في تبويبه عليه أن صلاتهن في وقتهن شرط لتكفير الخطايا ، وأخذ ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يغتسل فيه كل يوم خمسا ) ، وهذا يدل على تفريق الصلوات خمس مرار في كل يوم وليلة ، ومن جمع بينهما في وقت واحد أو في وقتين أو ثلاثة لغير عذر لم يحصل منه هذا التفريق ولا تكرير الاغتسال ، وهو بمنزلة من اغتسل مرة أو مرتين أو ثلاثا .

                                وحديث عثمان الذي خرجه مسلم يدل على أن كل صلاة تكفر ذنوب ما بينها وبين الصلاة الأخرى خاصة ، وقد ورد مصرحا بذلك في أحاديث كثيرة .

                                وحينئذ ; فمن ترك صلاة إلى وقت صلاة أخرى لغير عذر وجمع بينهما فلا يتحقق أن هاتين الصلاتين المجموعتين في وقت واحد لغير عذر يكفران ما مضى من الذنوب في الوقتين معا ، وإنما يكون ذلك إن كان الجمع لعذر يبيح الجمع .

                                وتمثيله - صلى الله عليه وسلم - بالنهر هو مبالغة في إنقاء الدرن ; فإن النهر الجاري يذهب الدرن الذي غسل فيه ولا يبقى له فيه أثر ، بخلاف الماء الراكد ; فإن الدرن الذي غسل فيه يمكث في الماء ، وربما ظهر مع كثرة الاغتسال فيه على طول الزمان ; ولهذا روي النهي عن الاغتسال في الماء الدائم كما سبق ذكره في الطهارة .

                                وفي " صحيح مسلم " من حديث الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ) . قال : قال الحسن : وما يبقي ذلك من الدرن .

                                [ ص: 54 ] وقد روي عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن عبيد بن عمير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا .

                                قال أبو حاتم : كذلك أرسله الحفاظ ، وهو أشبه .

                                وروي تشبيه الصلوات بخمسة أنهار .

                                خرجه ابن جرير الطبري والطبراني والبزار من طريق يحيى بن أيوب : وحدثني عبد الله بن قريط ، أن عطاء بن يسار حدثه ، أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( الصلوات الخمس كفارة ما بينهما ) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرأيت لو أن رجلا كان له معتمل ، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار ، فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله ، فأصابه الوسخ والعرق ، فكلما مر بنهر اغتسل ما كان ذلك مبقيا من درنه ، فكذلك الصلوات ، كلما عمل خطيئة أو ما شاء الله ، ثم صلى صلاة فدعا واستغفر غفر له ما كان قبلها ) .

                                وخرج البزار نحوه - أيضا - من طريق عمر بن صهبان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                وهذه متابعة لابن قريط ، ولكن ابن صهبان فيه ضعف شديد .

                                وأما استنباط البخاري : أن هذا التكفير لا يشترط له أن تكون الصلاة في جماعة ، فإنه أخذه من قوله ( بباب أحدكم ) ، ومن صلى في بيته فهو كمن صلى في باب منزله .

                                ولقائل أن يقول : لو كان الأمر على ذلك لجعل النهر في المنزل ، فلما جعله ببابه دل على أنه خارج من بيته ، ففيه إشارة إلى الصلاة في المساجد ، [ ص: 55 ] وإن قربت من المنازل .

                                وحديث أبي سعيد صريح في أن النهر بين المنزل وبين المعتمل ، وهو المكان الذي يعمل فيه المرء عمله وينتشر فيه لمصالح اكتسابه ونحو ذلك .

                                وهذا مما يدل على أن المراد بالدرن الصغائر التي تصيب الإنسان في كسبه ومعاشه ومخالطته للناس المخالطة المباحة .



                                الخدمات العلمية