الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 72 ] 10 - باب

                                الإبراد بالظهر في السفر

                                514 539 - حدثنا آدم : ثنا شعبة : ثنا مهاجر أبو الحسن مولى لبني تيم الله ، قال : سمعت زيد بن وهب ، [ عن أبي ذر] الغفاري ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر ، فقال له : " أبرد " ، ثم أراد أن يؤذن ، فقال له : " أبرد " ، حتى رأينا فيء التلول ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " .

                                وقال ابن عباس : يتفيأ يتميل .

                                التالي السابق


                                مقصود البخاري بهذا الباب : أن الإبراد بالظهر مشروع في الحضر والسفر ، وسواء كان جماعة المصلين مجتمعين في مكان الصلاة أو كانوا غائبين .

                                وقد استدل الترمذي في " جامعه " بهذا الحديث على أن الإبراد لا يختص بالمصلي في مسجد ينتابه الناس من البعد ، كما يقوله الشافعي ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو وأصحابه مجتمعين في السفر ، وقد أبرد بالظهر .

                                وقوله : " حتى رأينا فيء التلول " - يعني : حتى مالت الشمس وبعدت عن وسط السماء ، حتى ظهر للتلول فيء . والفيء هو الظل العائد بعد زواله ، فإن الشمس إذا طلعت كان للتلول ونحوها ظل مستطيل ، ثم يقصر حتى يتناهى قصره وقت قيام الشمس بالظهيرة ، ثم إذا زالت الشمس عاد الظل وأخذ في الطول ، فما كان قبل الزوال يسمى ظلا ، وما كان بعده يسمى فيئا ; لرجوع الظل بعد ذهابه ، ومنه سمي الفيء فيئا ، كأنه عاد إلى المسلمين ما كانوا أحق به ممن كان في يده .

                                [ ص: 73 ] وقد حكى البخاري عن ابن عباس أنه فسر قوله : يتفيأ ظلاله يتميل .

                                وفي حديث أبي ذر دليل على أن حد الإبراد إلى [أن] يظهر فيء التلول ونحوها .

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن مسعود ، قال : كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصيف ثلاثة أقدام ، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام .

                                وقد روي موقوفا على ابن مسعود ، وأنه قال في الصيف : ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام .

                                قال بعض أصحابنا : وهذا يدل على أنه إلى الطرف الأول أقرب ، وهذا يشبه قول الشافعية : أنه لا يؤخر إلى النصف الآخر من الوقت ، وهو الصحيح .

                                وقد تقدم عن سفيان ، أنه حكى عن بعض العلماء ، أنه عد التأخير إلى النصف الثاني تفريطا ، فظاهر حديث أبي ذر الذي خرجه البخاري يدل على أنه يشرع الإبراد بالأذان عند إرادة الإبراد بالصلاة ، فلا يؤذن إلا في وقت يصلى فيه ، فإذا أخرت الصلاة أخر الأذان معها ، وإن عجلت عجل الأذان .

                                وقد وقع في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن من أخر الصلاة في السفر إلى آخر وقتها وهو سائر ، أنه يؤذن إذا نزل وأراد الصلاة ، وحملوا فعل ابن مسعود بالمزدلفة على ذلك ، إذا دخل وقت الثانية أذن لها .

                                ويشهد لذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة جمع لما غربت له الشمس بعرفة ، ودفع ، لم ينقل عنه أنه أذن للصلاة ، فلما قدم جمعا أذن وأقام وصلى .

                                وهذا يدل على أن الصلاتين المجموعتين في وقت الثانية لا يؤذن لهما إلا [ ص: 74 ] عند صلاتهما في وقت الثانية ، فيكون الأذان للوقت الذي يصلي فيه لا للوقت الذي يجمع فيه .

                                ولكن قد روى أبو داود الطيالسي هذا الحديث في " مسنده " ، عن شعبة - وخرجه من طريقه الترمذي - ، ولفظه : قال أبو ذر : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ومعه بلال ، فأراد أن يقيم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبرد " ، ثم أراد أن يقيم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبرد في الظهر " . قال : حتى رأينا فيء التلول ، ثم أقام فصلى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن شدة الحر من فيح جهنم ، فأبردوا عن الصلاة " .

                                ففي هذه الرواية التصريح بأن الإبراد إنما كان بالإقامة ، والإقامة تسمى أذانا ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " بين كل أذانين صلاة " ، ومراده : بين الأذان والإقامة .

                                وقد خرجه البخاري في الباب الماضي ، ولفظه : أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر ، فقال : " أبرد ، أبرد " - أو قال : " انتظر ، انتظر " .

                                وهذا - أيضا - يدل على أنه إنما أخره بالإبراد والانتظار بعد أن أذن ، وهو دليل على أنه يؤذن في أول وقت الصلاة بكل حال ، سواء أبرد أو لم يبرد .

                                ولكن إن أراد تأخيرها عن وقتها بالكلية حتى يصليها في وقت الثانية جمعا ، فإنه يؤخر الأذان إلى وقت الثانية .

                                ويدل على هذا : ما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة ، قال : كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس ، فلا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا خرج أقام حين يراه .

                                [ ص: 75 ] وفي الأذان للمجموعتين في وقت الثانية خلاف يذكر في موضع آخر .

                                ومتى فرق بين المجموعتين في وقت الثانية تفريقا كثيرا ، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا : تحتاج الثانية إلى أذان آخر .

                                وقد روي عن ابن مسعود في جمعه بالمزدلفة ما يشهد له . والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                الخدمات العلمية