الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                وخرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث :

                                الحديث الأول :

                                550 575 - حدثنا عمرو بن عاصم : ثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس ، أن زيد بن ثابت حدثه ، أنهم تسحروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قاموا إلى الصلاة .

                                قلت : كم كان بينهما ؟ قال : قدر خمسين أو ستين - يعني : آية .


                                551 576 - حدثنا الحسن بن الصباح : سمع روح بن عبادة : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحرا ، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فصليا .

                                [ ص: 219 ] قلت لأنس : كم بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة ؟ قال : قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية .


                                التالي السابق


                                مقصود البخاري : تبيين الاختلاف في إسناد هذا الحديث على قتادة ، فهمام جعله عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت ، وسعيد بن أبي عروبة جعله عن قتادة عن أنس من مسنده .

                                وقد خرجه البخاري في ( الصيام ) من حديث هشام الدستوائي ، عن قتادة ومسلم من رواية هشام وهمام وعمر بن عامر ، كلهم عن قتادة ، عن أنس ، عن زيد .

                                وفي رواية البخاري : ( كم بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية ) .

                                وقال عفان وبهز بن أسد ، عن همام في حديثه : قلت لزيد : كم بين ذلك ؟

                                فصرح بأن المسئول زيد .

                                وقد خرجه عنهما الإمام أحمد .

                                وكذا رواه خالد بن الحارث ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس عن زيد ، وقال في حديثه : ( أنس القائل : كم كان بينهما ) .

                                فخالف خالد سائر أصحاب سعيد في ذكره زيدا في الإسناد .

                                وقد خرجه الإسماعيلي في ( صحيحه ) ، وقال : يحتمل أن يكون أنس سأل زيدا فأخبره ، وأن يكون قتادة أو غيره سأل أنسا فأرسل له قدر ما كان بينهما ، كما أرسل أصل الخبر ، ولم يقل : عن زيد .

                                [ ص: 220 ] وهذا يدل على أن الصواب عنده : أن الحديث عن أنس ، عن زيد ، فهو من مسند زيد ، لا من مسند أنس .

                                ورواه معمر ، عن قتادة كما رواه سعيد ، جعله من مسند أنس .

                                خرجه النسائي من طريقه .

                                ولفظ حديثه : عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك عند السحر - : ( يا أنس ، إني أريد الصيام ، أطعمني شيئا ) ، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء ، وذلك بعدما أذن بلال . قال : ( يا أنس ، انظر رجلا يأكل معي ) ، فدعوت زيد بن ثابت ، فجاءه ، فقال : ( إني شربت شربة من سويق ، وأنا أريد الصيام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأنا أريد الصيام ) ، فتسحر معه ، ثم قام فصلى ركعتين ، ثم خرج إلى الصلاة .

                                ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب : الاستدلال به على تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الفجر ; فإنه تسحر ثم قام إلى الصلاة ، ولم يكن بينهما إلا قدر خمسين آية .

                                وأكثر الروايات تدل على أن ذلك قدر ما بين السحور والصلاة .

                                وفي رواية البخاري المخرجة في ( الصيام ) : أن ذلك قدر ما بين [الأذان و] السحور .

                                وهذه صريحة بأن السحور كان بعد أذان بلال بمدة قراءة خمسين آية .

                                وفي رواية معمر : أنه لم يكن بين سحوره وصلاة الفجر سوى ركعتي الفجر ، والخروج إلى المسجد .

                                [ ص: 221 ] وهذا مما يستدل به على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى يومئذ الصبح حين بزغ الفجر .

                                وقد روى حذيفة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث زيد ، لكنه استدل به على تأخير السحور ، وأنه كان بعد الفجر .

                                فروى عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : تسحرت ، ثم انطلقت إلى المسجد ، فمررت بمنزل حذيفة بن اليمان ، فدخلت عليه ، فأمر بلقحة فحلبت وبقدر فسخنت ، ثم قال : ادن فكل . فقلت : إني أريد الصوم . فقال : وأنا أريد الصوم ، فأكلنا وشربنا ، وأتينا المسجد ، فأقيمت الصلاة ، فقال حذيفة : هكذا فعل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قلت : أبعد الصبح ؟ قال : نعم ، هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس .

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وخرج منه النسائي وابن ماجه : أن حذيفة قال : تسحرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع .

                                وقد روي من غير وجه ، عن حذيفة .

                                قال الجوزجاني : هو حديث أعيا أهل العلم معرفته .

                                وقد حمل طائفة من الكوفيين ، منهم : النخعي وغيره هذا الحديث على جواز السحور بعد طلوع الفجر في السماء ، حتى ينتشر الضوء على وجه الأرض .

                                وروي عن ابن عباس وغيره : حتى ينتشر الضوء على رءوس الجبال .

                                ومن حكى عنهم ، أنهم استباحوا الأكل حتى تطلع الشمس فقد أخطأ .

                                وادعى طائفة : أن حديث حذيفة كان في أول الإسلام ونسخ .

                                [ ص: 222 ] ومن المتأخرين من حمل حديث حذيفة على أنه يجوز الأكل في نهار الصيام حتى يتحقق طلوع الفجر ، ولا يكتفي بغلبة الظن بطلوعه .

                                وقد نص على ذلك أحمد وغيره ; فإن تحريم الأكل معلق بتبين الفجر ، وقد قال علي بعد صلاته للفجر : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .

                                وأنه يجوز الدخول في صلاة الفجر بغلبة ظن طلوع الفجر كما هو قول أكثر العلماء على ما سبق ذكره .

                                وعلى هذا ، فيجوز السحور في وقت تجوز فيه صلاة الفجر ، إذا غلب على الظن طلوع الفجر ، ولم يتيقن ذلك .

                                وإذا حملنا حديث حذيفة على هذا ، وأنهم أكلوا مع عدم تيقن طلوع الفجر ، فيكون دخولهم في الصلاة عند تيقن طلوعه والله أعلم .

                                ونقل حنبل عن أحمد ، قال : إذا نور الفجر وتبين طلوعه حلت الصلاة ، وحرم الطعام والشراب على الصائم .

                                وهذا يدل على تلازمهما ، ولعله يرجع إلى أنه لا يجوز الدخول في الصلاة إلا بعد تيقن دخول الوقت .

                                وقد روي عن ابن عباس وغيره من السلف تلازم وقت صلاة الفجر وتحريم الطعام على الصائم .

                                وروي في حديث ابن عباس المرفوع ، أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول حين حرم الطعام على الصائم .

                                وقد خرج البخاري في ( الحج ) حديث ابن مسعود ، أنه قال بالمزدلفة حين [ ص: 223 ] طلع الفجر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم .

                                وفي رواية له : أنه صلى الفجر حين طلع الفجر ، قائل يقول : قد طلع الفجر ، وقائل يقول : لم يطلع الفجر ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء فلا يقدم الناس جمعا حتى يعتموا ، وصلاة الفجر هذه الساعة ) .

                                وهذا كله يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن عادته أنه يصلي الفجر ساعة بزوغ الفجر ، وإنما فعل ذلك بمزدلفة يوم النحر . والله أعلم .



                                الخدمات العلمية