الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                قال البخاري - رحمه الله - :

                                584 609 - ثنا عبد الله بن يوسف : أبنا مالك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني ، عن أبيه ، أنه أخبره ، أن أبا سعيد الخدري قال له : إني أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء ؛ فإنه " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس [ ولا شيء ] إلا شهد له يوم القيامة " .

                                قال أبو سعيد : سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


                                التالي السابق


                                كذا روى مالك هذا الحديث .

                                ورواه ابن عيينة ، عن شيخه ، فقال : عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة .

                                قال الشافعي : أصاب مالك في اسم الرجل ، وأخطأ ابن عيينة فيما أرى .

                                وذكر الإمام أحمد هذا المعنى أيضا .

                                وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل " كتاب الإيمان " حديث : " يوشك [ أن [ ص: 431 ] يكون ] خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال " - الحديث ، وذكرنا الاختلاف في إسناده على مالك ، وأنه سماه بعضهم عنه كما سماه ابن عيينة ، والصحيح خلافه .

                                وروى هذا الحديث عبد العزيز بن الماجشون ، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، كما رواه مالك ، إلا أنه لم يرفعه .

                                وما تضمنه حديث أبي سعيد من سكنى البادية بالغنم فقد سبق القول فيه مستوفى في " كتاب الإيمان " عند الكلام على حديثه المشار إليه .

                                وما تضمنه من الأذان للصلاة بالبادية ، فيأتي بسط القول فيه عند تبويب البخاري على " الأذان في السفر " إن شاء الله .

                                أما الأمر برفع الصوت في الأذان ، فإنما هو من قول أبي سعيد ، واستدل له بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يسمع صوت المؤذن " - الحديث .

                                كذا رواه ابن عيينة صريحا ، وكذا ما قبله كله من قول أبي سعيد .

                                وقد روي نحوه عن أبي هريرة .

                                روى وكيع وأبو نعيم في " كتابيهما " : ثنا أبو العنبس سعيد بن كثير ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : ارفع صوتك بالأذان ؛ فإنه يشهد لك كل شيء سمعك .

                                لفظ وكيع ، وخرجه عنه ابن شيبة .

                                ولفظ أبي نعيم ، قال : من أذن فليسمع ؛ فإنه يشهد له يوم القيامة ما انتهى إليه صوته من سمعه .

                                وخرج ابن أبي شيبة بإسناده ، عن الزبير بن عدي ، عن رجل ، عن ابن عمر ، أنه قال لرجل : ما عملك ؟ قال : الأذان . قال : نعم العمل عملك ؛ [ ص: 432 ] يشهد لك كل شيء سمعك .

                                روى وكيع ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : المؤذن يشهد له كل رطب ويابس سمعه .

                                ورواه غيره عن الأعمش ، عن مجاهد - مرسلا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                قال الدارقطني : هو أشبه .

                                قال : ورواه عمار بن رزيق ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر - مرفوعا .

                                قال : ورواه محمد بن عبيد الطنافسي وعمرو بن عبد الغفار ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة - مرفوعا .

                                وقد خرجه الإمام أحمد من رواية عمار بن رزيق كما تقدم ، ومن رواية زائدة عن الأعمش ، عن رجل ، عن ابن عمر - مرفوعا .

                                ورواه عبد الله بن بشر ، عن الأعمش كرواية عمار بن رزيق .

                                وروي عن إسماعيل بن زكريا ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - مرفوعا .

                                قال الدارقطني في موضع من " علله " : الصحيح : الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر - مرفوعا .

                                وهذا يخالف قوله في مسند أبي هريرة : إن إرساله أصح .

                                ورواه إبراهيم بن طهمان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر - موقوفا .

                                [ ص: 433 ] ورواه حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - مرفوعا .

                                وروي مرفوعا من وجه آخر : من رواية شعبة ، عن موسى بن أبي عثمان ، عن أبي يحيى ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " المؤذن يغفر له مد صوته ، ويشهد له كل رطب ويابس " .

                                خرجه أبو داود والنسائي .

                                وخرجه ابن ماجه ، وعنده : " ويستغفر له كل رطب ويابس " .

                                وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " .

                                وقال ابن حبان : أبو يحيى هو سمعان مولى أسلم ، [ حدثني ] أبي يحيى .

                                وموسى بن أبي عثمان كوفي ، أثنى عليه سفيان ، ووصفه بالخير . وقال أبو حاتم : شيخ .

                                وله طريق آخر : من رواية منصور بن المعتمر ؛ واختلف عليه :

                                فرواه وهيب ، عن منصور ، عن يحيى بن عباد أبي هبيرة ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وسأل وهيب منصورا ، عن عطاء هذا ، فقال : هو رجل . قال : وليس ابن أبي رباح ولا ابن يسار .

                                [ ص: 434 ] وكذا رواه زائدة وفضيل بن عياض ، عن منصور ، عن ابن عباد ، عن عطاء - رجل من أهل المدينة - عن أبي هريرة - موقوفا غير مرفوع .

                                وكذا رواه جرير ، عن منصور ، عن يحيى بن عباد ، عن رجل من أهل المدينة ، عن أبي هريرة - موقوفا .

                                ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن منصور ، عن عباد بن أنس ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وخرجه عنه الإمامان : أحمد وإسحاق في " مسنديهما " .

                                قال أبو زرعة الرازي والدارقطني : حديث معمر وهم ، والصحيح : حديث منصور .

                                قلت : ويشهد لقول منصور : أن أبا أسامة رواه عن الحسن بن الحكم ، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد ، عن شيخ من الأنصار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وخرجه عنه ابن أبي شيبة في " كتابه " .

                                قال الدارقطني : الصحيح : قول زائدة وفضيل بن عياض وجرير ، عن منصور .

                                يعني : الموقوف ، والله أعلم .

                                وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث قتادة ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن البراء بن عازب ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " المؤذن يغفر له مد صوته ، ويصدقه [ ص: 435 ] من سمعه من رطب ويابس ، وله مثل أجر من صلى معه " .

                                وأبو إسحاق هذا ، قال أحمد : ما أظنه السبيعي .

                                وذكر الترمذي في " العلل " أنه لا يعرف لقتادة سماعا من أبي إسحاق الكوفي .

                                وقوله : " لا يسمع مدى صوت المؤذن " : المدى : الغاية حيث ينتهي الصوت .

                                وقوله : " كل رطب ويابس " يدل على أن الجمادات سواء كانت رطبة أو يابسة فإن لها سماعا في الدنيا وشهادة في الآخرة .

                                فدل ذلك على صحة أشياء مختلف في بعضها :

                                منها : إدراك الجمادات ونطقها .

                                وقد أثبت ذلك جمهور السلف ، سواء كانت رطبة أو يابسة ، كما دل عليه قوله : يا جبال أوبي معه وقوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده

                                وخص الحسن التسبيح بما كان رطبا قبل أن ييبس .

                                والجمهور على خلافه .

                                وأما من قال : تسبيحها : دلالاتها على صانعها بلسان الحال ، فقول ضعيف جدا ، والأدلة الكثيرة تبطله .

                                ومنها : أن الجمادات [ . . . ] يوم القيامة .

                                وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن أنيس في سؤال الحجر والعود .

                                والحديث الصحيح : أن الغال يأتي بما غل من بقر وغنم وصامت ورقاع [ ص: 436 ] تخفق . وأن مانع الزكاة يجعل له ماله صفائح يكوى به .

                                كما دل عليه قوله : يوم يحمى عليها في نار جهنم

                                وأما قوله في الحديث الآخر : " يغفر له مدى صوته " .

                                فقيل : معناه : لو كانت ذنوبه أجساما لغفر له منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته .

                                وقيل : معناه : تمد له الرحمة بقدر مد الأذان .

                                وقال الخطابي : معناه أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت ، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت .

                                ورفع الصوت بالأذان مستحب ؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن زيد لما رأى الأذان في منامه : " ألقه على بلال ؛ فإنه أندى صوتا منك " .

                                خرجه أبو داود وغيره .

                                والمؤذن ، إما أن يؤذن لنفسه ، أو يؤذن للجماعة ؛ فإن أذن للجماعة فلا يحصل الإتيان بالأذان المشروع في حقهم حتى يسمعهم .

                                قال الإمام أحمد في رواية حنبل ، في رجل ضعيف الصوت ، لا يرفع صوته ولا يخرج من المسجد ، فإذا كان يسمع أهل المسجد والجيران فلا بأس .

                                قال القاضي أبو يعلى : ظاهر هذا أنه إذا لم يسمع الجيران لم يصب سنة الأذان ؛ لأن القصد من الأذان الإعلام ، فإذا لم يسمع الجيران لم يوجد المقصود .

                                فأما كمال السنة فهو : أن يرفع صوته نهاية جهده ، ولا يزيد على ذلك حتى يخشى على نفسه ضررا .

                                [ ص: 437 ] قال أحمد في رواية حنبل : يرفع صوته ما استطاع .

                                وقال الميموني : رأيت أحمد وهو يؤذن ، صوتا بين الصوتين ، وكان إلى خفض الصوت أقرب .

                                قال القاضي : ظاهر هذا أنه لا يرفع صوته رفعا يخرجه عن طبعه .

                                ومن الأصحاب من جعل هذه رواية ثانية ؛ بأن التوسط في رفع الصوت أفضل .

                                وفي "المراسيل" لأبي داود ، عن ابن سيرين : أن بلالا جعل أصبعيه في أذنيه في بعض أذانه ، أو في إقامته ، بصوت ليس بالرفيع ولا بالوضيع .

                                ومتى خافت ببعضه فهو كمخافتته بكله عند أصحابنا .

                                وإن كان يؤذن لنفسه فله أن يسر به ؛ لأنه لا يعلم غيره .

                                وقال أصحاب الشافعي : يستحب له أن يرفع صوته ما أمكنه ، بحيث لا يلحقه ضرر ، فإن أسر به لم يصح على الصحيح عندهم .

                                ولهم وجه : أنه يصح ، كما لو أسر بالقراءة في صلاة الجهر .

                                ووجه ثالث : يصح إن سر بعضه خاصة ، ونص عليه الشافعي في [ مكان ] .

                                قال الماوردي منهم : لو سمع واحدا من الجماعة أجزأه ؛ لأن الجماعة تحصل بهما .

                                وأما من يؤذن لنفسه ، فيجزئه أن يسمع نفسه على الصحيح عندهم . وقيل : [ ص: 438 ] يشترط إسماع من عنده . والمذهب الأول .

                                ومتى رفع صوته رفعا يخشى على نفسه الضرر منه كره .

                                وقد قال عمر لأبي محذورة لما سمعه يؤذن بمكة : أما خشيت أن ينشق مريطاؤك ؟

                                ذكره أبو عبيد وغيره .

                                والمريطاء : بالمد والقصر .

                                قال أبو عبيد : والمحفوظ : المد . قال : وهو قول الأصمعي . قال : وقال الأحمر : هي مقصورة . قال : وقال أبو عمرو : تمد وتقصر .

                                وهي ما بين السرة والعانة - : قاله أبو عبيد والأكثرون .

                                وقيل : ما بين الصدر والعانة .



                                الخدمات العلمية