الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2307 12 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا النضر ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق قال : أخبرني البراء ، عن أبي بكر رضي الله عنهما ، ح وحدثنا عبد الله بن رجاء قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، عن أبي بكر رضي الله عنهما قال : انطلقت فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه ، فقلت : لمن أنت ؟ قال : لرجل من قريش ، فسماه فعرفته فقلت : هل في غنمك من لبن ؟ فقال : نعم ، فقلت : هل أنت حالب لي ؟ قال : نعم ، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه ، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ، ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال : هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب كثبة من لبن ، وقد جعلت [ ص: 283 ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة ، على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله ، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : اشرب يا رسول الله ، فشرب حتى رضيت .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه إدخال هذا الحديث في هذا الباب الذي كالفصل من الباب المترجم الذي قبله من حيث إن الباب المترجم مشتمل على حكم من أحكام اللقطة ، وهذا أيضا فيه شيء يشبه حاله حال اللقطة ، وهو الشرب من لبن غنم لها راع واحد في الصحراء ، وهو في حكم الضائع في هذه الحالة ، فصار كالسوط أو الحبل أو نحوهما الذي يباح التقاطه ، وقال الكرماني : (فإن قلت) : ما التلفيق بينه وبين ما تقدم آنفا من حديث : " لا يحلبن أحد ماشية أحد " (قلت) : كان هاهنا إذن عادي ، أو كان صاحبه صديق الصديق ، أو كان كافرا حربيا ، أو كان حالهما حال اضطرار ، أو من جهة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أولى بالمؤمنين انتهى . (قلت) : لا تطلب المطابقة إلا بين حديث الباب ، والباب الذي ترجم عليه ، وهاهنا الباب الذي فيه هذا الحديث مجرد من الترجمة ، وهو داخل في الباب الذي قبله ، وهو باب من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان ، والذي ذكره الكرماني ليس له مناسبة هاهنا أصلا ، وإنما يستقيم ما ذكره بين هذا الحديث وبين باب لا يحتلب ماشية أحد إلا بإذن ، وبينهما ثلاثة أبواب ، والأصل بيان المطابقة بين كل باب وحديثه ، ثم إن البخاري أخرج هذا الحديث من طريقين :

                                                                                                                                                                                  الأول : عن إسحاق بن إبراهيم ، المعروف بابن راهويه ، عن النضر بسكون الضاد المعجمة ابن شميل مصغر شمل ، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ، عن جده أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن البراء بن عازب . الثاني : عن عبد الله بن رجاء بن المثنى الفداني البصري أبي عمرو ، عن إسرائيل إلى آخره . والحديث أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن محمد بن يوسف ، وفي الهجرة عن محمد بن بشار ، وفي الأشربة عن محمود ، عن النضر ، وأخرجه مسلم في آخر الكتاب ، عن زهير بن حرب ، وعن إسحاق بن إبراهيم ، وعن سلمة بن شبيب ، وفي الأشربة عن أبي موسى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فإذا أنا " كلمة " إذا " للمفاجأة ، قوله : " انطلقت " أي حين كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاصدين الهجرة إلى المدينة ، قوله : " يسوق غنمه " جملة حالية ، قوله : " هل في غنمك من لبن " بفتح الباء الموحدة في رواية الأكثرين ، وحكى عياض رواية ضم اللام وسكون الباء أي شاة ذات لبن ، كذا قاله بعضهم ، وليس كذلك ، وإنما اللبن بضم اللام وسكون الباء جمع لبنة ، وكذلك لبن بكسر اللام ، وعن يونس يقال : كم لبن غنمك ؟ ولبن غنمك أي ذوات الدر منها ، قوله : " فأمرته " أي بالاعتقال ، وهو الإمساك يقال : اعتقلت الشاة إذا وضعت رجلها بين فخذيك أو ساقيك لتحلبها ، قوله : " كثبة " بضم الكاف وسكون الثاء المثلثة وفتح الباء الموحدة ، وهو قدر حلبة ، وقيل : القليل منه ، وقيل : القدح من اللبن ، قوله : " إداوة " وهي الركوة .

                                                                                                                                                                                  وفي الحديث من الفوائد استصحاب الإداوة في السفر ، وخدمة التابع للمتبوع ، وفيه من التأدب والتنظيف ما صنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه من نفض يد الراعي ونفض الضرع ، وقال ابن بطال : سألت بعض شيوخي عن وجه استجازة الصديق لشرب اللبن من ذلك الراعي فقال لي : يحتمل أن يكون الشارع قد كان أذن له في الحرب ، وكانت أموال المشركين له حلالا فعرضته على المهلب ، فقال لي : ليس هذا بشيء; لأن الحرب والجهاد إنما فرض بالمدينة ، وكذلك المغانم إنما نزل تحليلها يوم بدر بنص القرآن ، وإنما شرباه بالمعنى المتعارف عندهم في ذلك الزمن من المكارمات ، وربما استفهم به الصديق الراعي من أنه حالب أو غير حالب ، ولو كان بمعنى الغنيمة ما استفهمه ، ويحلب على ما أراد الراعي أو كره ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية