الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  24 1 - حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن الحياء من الإيمان.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الحديث مطابق للترجمة; لأنه أخذ جزءا منه فبوب عليه كما هو عادته.

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله، وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبد الله بن يوسف التنيسي نزيل دمشق، وقد ذكره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: الإمام مالك بن أنس.

                                                                                                                                                                                  الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.

                                                                                                                                                                                  الرابع: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي التابعي الجليل أحد الفقهاء السبعة بالمدينة على أحد الأقوال، وقال ابن المسيب كان سالم أشبه ولد عبد الله بعبد الله، وعبد الله أشبه ولد عمر بعمر رضي الله عنه. وقال مالك: لم يكن في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد منه، كان يلبس الثوب بدرهمين. وقال ابن راهويه: أصح الأسانيد كلها الزهري، عن سالم، عن أبيه، وكان أبوه يلام في إفراط حب سالم، وكان يقبله، ويقول: ألا تعجبون من شيخ يقبل شيخا، مات بالمدينة سنة ست ومائة، وقيل: خمس، وقيل: ثمان، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وله إخوة: عبد الله، وعاصم، وحمزة، وبلال، وواقد، وزيد. وكان عبد الله وصي أبيهم فيهم، روى عنه منهم أربعة: عبد الله، وسالم، وحمزة، وبلال.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 176 ] (بيان لطائف إسناده). منها أن رجاله كلهم مدنيون ما خلا عبد الله.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن في رواية الأكثرين: أخبرنا مالك. وفي رواية الأصيلي: حدثنا مالك بن أنس. وفي رواية كريمة: مالك بن أنس. والحديث في الموطأ.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه، ومن أخرجه غيره) أخرجه هنا عن عبد الله، عن مالك. وأخرجه في البر والصلة عن أحمد بن يونس، عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري، وأخرجه مسلم هنا أيضا عن الناقدي، وزهير عن سفيان، وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، ولم يقع لمسلم لفظة: " دعه "، وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي أيضا.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات). قوله: " مر علي رجل " ، يقال: مر عليه، ومر به، بمعنى واحد، أي: اجتاز، وفي (العباب) مر عليه، وبه يمر مرا، أي: اجتاز، وبنو يربوع يقولون: مر علينا بكسر الميم، ومر يمر مرا ومرورا وممرا، أي: ذهب، والممر موضع المرور أيضا، والأنصار جمع الناصر، كالأصحاب جمع الصاحب، أو جمع النصير كالأشراف جمع الشريف.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يعظ أخاه " ، أي: ينصح أخاه من الوعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب، وقال ابن فارس هو التخويف والإنذار. وقال الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير فيما يرق القلب، وفي (العباب) الوعظ، والعظة والموعظة مصادر. قولك: وعظته عظة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " دعه " ، أي: اتركه، وهو أمر لا ماضي له، قالوا: أماتوا ماضي يدع ويذر. قلت: استعمل ماضي دع، ومنه قراءة من قرأ: ما ودعك ربك. بالتخفيف، فعلى هذا هو أمر من ودع يدع، وأصل يدع يودع حذفت الواو فصار يدع، والأمر دع، وفي (العباب) قولهم: دع ذا، أي: اتركه، وأصله: ودع يدع، وقد أميت ماضيه، لا يقال: ودعه إنما يقال: تركه، ولا وادع، ولكن تارك، وربما جاء في ضرورة الشعر، ودعه فهو مودوع على أصله. قال أنس بن زنيم.


                                                                                                                                                                                  ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الوعد حتى ودعه

                                                                                                                                                                                  ثم قال الصغاني: وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم أصل هذه اللغة فيما روى ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قرأ: ما ودعك ربك. بالتخفيف أعني بتخفيف الدال، وكذلك قرأ بهذه القراءة عروة، ومقاتل، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، ويزيد النحوي رحمهم الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب): قوله: " مر علي رجل " جملة في محل الرفع; لأنها وقعت خبرا; لأن قوله: " من الأنصار " صفة لرجل، والألف واللام فيه للعهد، أي: أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آووا ونصروا من أهل المدينة رضي الله عنهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وهو يعظ أخاه " جملة اسمية محلها النصب على الحال.

                                                                                                                                                                                  قوله: " في الحياء " يتعلق بقوله: يعظ.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ودعه " جملة من الفعل والفاعل والمفعول; لأنها وقعت مقول القول.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فإن الحياء " الفاء فيه للتعليل.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني والبيان): قوله: " وهو يعظ أخاه " يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الرجل الذي وعظ أخا للواعظ في الإسلام على ما هو عرف الشرع، فعلى هذا يكون مجازا لغويا أو حقيقة عرفية، والآخر وهو الظاهر أن يكون أخاه في القرابة والنسب، فعلى هذا هو حقيقة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " في الحياء " فيه حذف، أي: في شأن الحياء، وفي حقه ومعناه أنه ينهاه عنه ويخوفه منه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن وعظه، فقال: دعه، أي: اتركه على حيائه; فإن الحياء من الإيمان. وقال التيمي: الوعظ: الزجر، يعني: يزجره عن الحياء، ويقول له: لا تستحي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه يستحي; فإن الحياء من الإيمان، إذ الشخص يكف عن أشياء من مناهي الشرع للحياء، ويكثر مثل هذا في زماننا. وقال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه، وقال بعضهم: الأولى أن نشرح، يعني قوله: " يعظ " بما جاء عن المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب، ولفظه يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي حتى كأنه يقول: قد أضربك، انتهى. قلت: هذا بعيد من حيث اللغة فإن معنى الوعظ الزجر، ومعنى العتب الوجد، وفي (العباب) عتبه عليه إذا وجد يعتب عليه، ويعتب عتبا ومعتبا على أن الروايتين تدلان على معنيين جليين، ليس في واحد منهما خفاء حتى يفسر أحدهما بالآخر غاية ما في الباب أن الواعظ المذكور وعظ أخاه في استعماله الحياء، وعاتبه عليه، والراوي حكى في إحدى روايتيه بلفظ الوعظ، وفي الأخرى بلفظ المعاتبة، وذلك أن [ ص: 177 ] الرجل كان كثير الحياء، وكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فوعظه أخوه على مباشرة الحياء، وعاتبه على ذلك، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: دعه، أي: اتركه على هذا الخلق الحسن; لأن الحياء خير له في ذلك بل في كل الأوقات، وكل الحالات يدل على ذلك ما جاء في الرواية الأخرى: " الحياء لا يأتي إلا بخير "، وفي رواية أخرى: " الحياء خير كله ". فإن قلت: ما وجه التأكيد بأن في قوله: " فإن الحياء من الإيمان "، وإنما يؤكد بأن ونحوها إذا كان المخاطب منكرا أو شاكا. قلت: الظاهر أن المخاطب كان شاكا بل كان منكرا له; لأنه منعه من ذلك، فلو كان معترفا بأنه من الإيمان لما منعه من ذلك، ولئن سلمنا أنه لم يكن منكرا لكنه جعل كالمنكر لظهور أمارات الإنكار عليه، ويجوز أن يكون هذا من باب التأكيد لدفع إنكار غير المخاطب، ويجوز أن يكون التأكيد من جهة أن القصة في نفسها مما يجب أن يهتم بها، ويؤكد عليها، وإن لم يكن ثمة إنكار أو شك من أحد فافهم. وقال بعضهم: والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان فلهذا وقع التأكيد. قلت: هذا كلام من لم يذق شيئا ما من علم المعاني، فإن الخطاب لمثل هذا الناهي الذي ذكره لا يحتاج إلى تأكيد; لأنه ليس بمنكر ولا متردد، وإنما هو خالي الذهن، وهو لا يحتاج إلى التأكيد فإنه كما يسمع الكلام ينتقش في ذهنه على ما عرف في كتب المعاني والبيان. فإن قلت: ما معنى الحياء؟ قلت: قد فسرته فيما مضى عند قوله: " والحياء شعبة من الإيمان "، وقال التيمي: الحياء: الاستحياء، وهو ترك الشيء لدهشة تلحقك عنده. قال تعالى: ويستحيون نساءكم، أي: يتركون. قال: وأظن أن الحياة منه; لأنه البقاء من الشخص، وقال الكرماني: ليس هو ترك الشيء، بل هو دهشة تكون سببا لترك الشيء. قلت: التحقيق أن الحياء تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم، وليس هو بدهشة، ولا ترك الشيء، وإنما ترك الشيء من لوازمه. فإن قلت: يمنع ما قلت إسناده إلى الله تعالى في قوله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها قلت: هذا من باب المشاكلة، وهي أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، فلما قال المنافقون: أما يستحي رب محمد يذكر الذباب والعنكبوت في كتابه؟ أجيبوا بأن الله لا يستحي، والمراد لا يترك ضرب المثل بهذه الأشياء، فأطلق عليه الاستحياء على سبيل المشاكلة كما في قوله: " فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ومن هذا القبيل قوله عليه السلام: إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا، وهذا جار على سبيل الاستعارة التبعية التمثيلية شبه ترك الله تعالى تخييب العبد، ورد يديه صفرا بترك الكريم رد المحتاج حياء، فقيل: ترك الله رد المحتاج حياء، كما قيل: ترك الكريم رد المحتاج حياء، فأطلق الحياء ثمة كما أطلق الحياء هاهنا، فلذلك استعير ترك المستحيي لترك ضرب المثل، ثم نفي عنه. فإن قلت: ما معنى من في قوله: " من الإيمان ". قلت: معناه التبعيض، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف: " الحياء شعبة من الإيمان ".

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: قد علم ذلك منه، فما فائدة التكرار؟ قلت: كان المقصود ثمة بيان أمور الإيمان، وأنه من جملتها، فذكر ذلك بالتبعية وبالعرض، وهاهنا ذكره بالقصد، وبالذات مع فائدة مغايرة الطريق. فإن قلت: إذا كان الحياء بعض الإيمان، فإذا انتفى الحياء انتفى بعض الإيمان، وإذا انتفى بعض الإيمان انتفى حقيقة الإيمان، فينتج من هذه المقدمات انتفاء الإيمان عمن لم يستح، وانتفاء الإيمان كفر. قلت: لا نسلم صدق كون الحياء من حقيقة الإيمان; لأن المعنى فإن الحياء من مكملات الإيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة، نعم الإشكال قائم على قول من يقول: الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، وهذا لم يقل به المحققون كما ذكرنا فيما مضى. قلت: من فوائده الحض على الامتناع من قبائح الأمور ورذائلها، وكل ما يستحى من فعله، والدلالة على أن النصيحة إنما تعد إذا وقعت موقعها، والتنبيه على زجر مثل هذا الناصح.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية