الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2545 2 - حدثنا مسدد قال : حدثنا معتمر قال : سمعت أبي أن أنسا رضي الله عنه قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب حمارا فانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها أنزلت : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما

                                                                                                                                                                                  [ ص: 267 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 267 ] مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم خرج إلى موضع فيه عبد الله بن أبي ابن سلول ليدعوه إلى الإسلام ، وكان ذلك في أول قدومه المدينة إذ التبليغ فرض عليه ، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرياسته في قومه ، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوجوه بتاج الإمارة لذلك ، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر من أعظم الإصلاح فيهم ، قيل : إنما خرج إليهم ولم ينفذ إليهم لكثرتهم ، وليكون خروجه أعظم في نفوسهم ، وقيل لقرب عهدهم بالإسلام ، وقال الداودي : كان هذا قبل إسلام عبد الله بن أبي ( قلت ) : لكن يشكل عليه قوله : أنزلت وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا على ما نذكره عن قريب .

                                                                                                                                                                                  ورجاله أربعة :

                                                                                                                                                                                  الأول : مسدد وقد تكرر ذكره ، الثاني : معتمر على وزن اسم فاعل من الاعتمار ، الثالث : أبوه سليمان بن طرخان ، الرابع : أنس بن مالك وهؤلاء كلهم بصريون ، والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر عن أبيه به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه )

                                                                                                                                                                                  قوله : ( لو أتيت ) كلمة لو هنا للتمني فلا يحتاج إلى جواب ، ويجوز أن تكون على أصلها والجواب محذوف تقديره لكان خيرا ونحو ذلك ، قوله : ( وركب حمارا ) جملة حالية ، وكذلك قوله ( يمشون ) جملة حالية ، قوله : ( سبخة ) بفتح الباء الموحدة واحدة السباخ ، وأرض سبخة بكسر الباء ذات سباخ وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر ، قوله : ( إليك عني ) يعني تنح عني ، قوله : ( فقال رجل من الأنصار ) قال ابن التين : قيل إنه عبد الله بن رواحة ، قوله : ( لحمار ) اللام فيه للتأكيد وارتفاعه على الابتداء وخبره قوله أطيب ريحا منك ، قوله : ( فغضب لعبد الله ) أي لأجل عبد الله وهو ابن أبي ابن سلول ، قوله : ( فشتمه ) كذا في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره فشتما بالتثنية بلا ضمير أي فشتم كل واحد منهما الآخر ، قوله : ( بالجريد ) بالجيم والراء كذا في رواية الأكثرين ، وفي رواية الكشميهني : بالحديد بالحاء المهملة والدال ، قوله : ( فبلغنا ) القائل هو أنس بن مالك ، قوله : ( أنها ) أي إن الآية أنزلت وأوضحها بقوله : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال ابن بطال : ويستحيل أن تكون الآية الكريمة نزلت في قصة ابن أبي وقتال أصحابه مع الصحابة ; لأن أصحاب عبد الله ليسوا مؤمنين وقد تعصبوا له بعد الإسلام في قصة الإفك ، وقد جاء هذا المعنى مبينا في هذا الحديث في كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيد قال : " مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود فيهم عبد الله بن أبي ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرض عليهم الإيمان قال ابن أبي : اجلس في بيتك فمن جاءك يريد الإسلام " الحديث ، فدل أن الآية لم تنزل في قصة ابن أبي ، وإنما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حد فاقتتلوا بالعصي والنعال ، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة ، ويشبه أن تكون نزلت في بني عمرو بن عوف الذين خرج إليهم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ليصلح بينهم ، الحديث المذكور في الصلاة ، وفي تفسير مقاتل : مر صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو راكب حماره يعفور فبال ، فأمسك ابن أبي بأنفه وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار ، فشق على النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله فانصرف ، فقال ابن رواحة : ألا أراك أمسكت على أنفك من بول حماره ، والله لهو أطيب من ريح عرضك ، فكان بينهم ضرب بالأيدي والسعف ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصلح بينهم ، فأنزل الله تعالى : وإن طائفتان الآية ، وفي ( تفسير ابن عباس ) : وأعان ابن أبي رجال من قومه وهم مؤمنون فاقتتلوا ، ومن زعم أن قتالهم كان بالسيوف فقد كذب .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : التحرير في هذا أن حديث أنس هذا مغاير لحديث سهل بن سعد الذي قبله ; لأن قصة سهل في بني عمرو بن عوف وهم من الأوس وكانت منازلهم بقباء ، وقصة أنس في رهط عبد الله بن أبي وهم من الخزرج وكانت منازلهم بالعالية ، فلهذا استشكل ابن بطال ثم قال : يشبه أن تكون الآية نزلت في بني عمرو بن عوف ، فإذا كان نزول الآية فيهم لا إشكال فيه ، وإذا قلنا نزولها في قضية عبد الله بن أبي يبقى الإشكال ، ولكن يحتمل أن يزول الإشكال من وجه آخر وهو أن في حديث أنس ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يمضي بنفسه ليبلغ ما أنزل إليه لقرب عهدهم بالإسلام ، فبهذا يزول الإشكال إن صح ذلك ، مع أن الداودي نص على أنه كان قبل إسلام عبد الله كما ذكرناه ، فإن صح ما ذكره الداودي فالإشكال باق ، ويحتمل إزالة الإشكال أيضا من وجه آخر وهو أن قول أنس في الحديث المذكور بلغنا أنها أنزلت لا يستلزم النزول في ذلك الوقت .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 268 ] والدليل على ذلك أن الآية في الحجرات ونزولها متأخر جدا على أن المفسرين اختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة - لكثرة عشيرته - ، وأن الآخر دعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعا وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف ، وقال الكلبي : إنها نزلت في حرب سمير وحاطب ، وكان سمير قتل حاطبا فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية وأمر نبيه والمؤمنين أن يصلحوا بينهم ، وقال السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد ، تحت رجل ، وكان بينها وبين زوجها شيء ، قال : فرقى بها إلى علية وحبسها فيها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه بيان ما كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عليه من الصفح والحلم والصبر على الأذى والدعاء إلى الله تعالى وتأليف القلوب على ذلك ، وفيه أن ركوب الحمار لا نقص فيه على الكبار ، وكان ركوبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريع ، ركب مرة فرسا لأبي طلحة في فزع كان بالمدينة ، وركب يوم حنين بغلته ليثبت المسلمون إذا رأوه عليها ، ووقف بعرفة على راحلته وسار منها إلى مزدلفة وهو عليها ، ومن مزدلفة إلى منى وإلى مكة ، وفيه ما كان عليه الصحابة من تعظيم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والأدب معه والمحبة الشديدة ، وفيه جواز المبالغة في المدح لأن الصحابي أطلق على أن ريح الحمار أطيب من ريح عبد الله بن أبي ، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في ذلك ، وفيه إباحة مشي التلامذة والشيخ راكب .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية