الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  246 2 - حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه ، وغسل فرجه ، وما أصابه من الأذى ، ثم أفاض [ ص: 193 ] عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما هذه غسله من الجنابة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الثاني من حديثي الترجمة .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله وهم سبعة : محمد بن يوسف البيكندي ، وسفيان الثوري ، وسليمان الأعمش بن مهران ، تقدموا مرارا ، وسالم بن أبي الجعد بفتح الجيم وسكون العين المهملة مر في باب التسمية . والخامس كريب بضم الكاف تقدم في باب التخفيف في الوضوء ، والسادس عبد الله بن عباس ، والسابع ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم وخالة ابن عباس .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في خمسة مواضع ، وفيه سفيان غير منسوب . قالت جماعة من الشراح وغيرهم : إنه سفيان الثوري . وقال الكرماني : سفيان بن عيينة . وقال الحافظ المزي في كتابه ( الأطراف ) حديث في غسل النبي عليه الصلاة والسلام من الجنابة منهم من طوله ومنهم من اختصره ، ثم وضع صورة ( خ ) بالأحمر بمعنى أخرجه البخاري في الطهارة عن محمد بن يوسف . وعن عبدان عن عبد الله بن المبارك ، كلاهما عن سفيان الثوري ، وعن الحميدي ، عن سفيان بن عيينة . فهذا دل على أن سفيان في رواية محمد بن يوسف الذي ها هنا هو الثوري . وأما ابن عيينة فروايته عن عبدان ، عن ابن المبارك ، ولم يميز الكرماني ذلك فخلط ، وأخرج البخاري هذا الحديث أيضا عن موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب ، كلاهما عن عبد الواحد ، وعن موسى ، عن أبي عوانة ، وعن عمر بن حفص بن غياث ، عن أبيه ، وعن يوسف بن عيسى ، عن الفضل بن موسى ، وعن عبدان ، عن أبي حمزة ، سبعتهم عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد ، عن كريب ، عن ابن عباس ، به .

                                                                                                                                                                                  ومن لطائف هذا الإسناد أن فيه رواية التابعي عن التابعي عن التابعي على الولاء ، وفيه صحابيان .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) قد مر الآن أن البخاري أخرجه في مواضع عشرة أو نحوها ، وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن محمد بن الصباح وإسحاق بن إبراهيم وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وأبي سعيد الأشج ، خمستهم عن وكيع وعن يحيى بن يحيى وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الله بن إدريس ، وعن علي بن حجر ، وعن عيسى بن يونس ، وعن إسحاق بن إبراهيم ، عن موسى القارئ ، عن زائدة ، خمستهم عن الأعمش به ، وأخرجه أبو داود ، عن عبد الله بن داود ، عن الأعمش به . وأخرجه الترمذي عن هناد عن وكيع به ، وأخرجه النسائي فيه عن علي بن حجر به ، وعن يوسف بن عيسى به ، وعن محمد بن العلاء عن أبي معاوية به ، وعن محمد بن علي بن ميمون ، عن محمد بن يوسف به ، وعن إسحاق بن إبراهيم عن جرير ، وعن قتيبة عن عبيدة بن حميد ، كلاهما عن الأعمش به . وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن وكيع بقصة نفض الماء وترك التنشيف .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر بيان ما فيه ) مما لم يذكر في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قوله : " غير رجليه " فيه التصريح بتأخير الرجلين في وضوء الغسل ، وبه احتج أصحابنا على أن المغتسل إذا توضأ أولا يؤخر رجليه ، لكن أكثر أصحابنا حملوه على أنهما إن كانتا في مجتمع الماء توضأ ويؤخرهما وإن لم تكونا فيه لا يؤخرهما ، وكل ما جاء من الروايات التي فيها تأخير الرجلين صريحا محمول على ما قلنا ، وهذا هو التوفيق بين الروايات التي في بعضها تأخير الرجلين صريحا لا مثل ما قاله بعضهم ، ويمكن الجمع بأن تحمل رواية عائشة على المجاز ، وأما على حالة أخرى قلت هذا خطأ ; لأن المجاز لا يصار إليه إلا عند الضرورة وما الداعي لها في رواية عائشة حتى يحمل كلامها على المجاز ، وما الصواب الذي يرجع إليه إلا ما قلنا . وقال الكرماني : غير رجليه ، فإن قلت : ما التوفيق بينه وبين رواية عائشة . قلت : زيادة الثقة مقبولة ، فيحمل المطلق على المقيد ، فرواية عائشة محمولة على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره ، وهو ما سوى الرجلين . قلت : قد ذكرنا الآن ما يرد ما ذكره ، ثم قال الكرماني : ويحتمل أن يقال إنهما كانا في وقتين مختلفين ، فلا منافاة بينهما قلت هذا في الحقيقة حاصل ما ذكرنا عن قريب عند قولنا لكن أكثر أصحابنا... إلخ . قوله : " وغسل فرجه " ، أي : ذكره ، فدل هذا على صحة إطلاق الفرج على الذكر . قال الكرماني : فإن قلت : غسل الفرج مقدم على التوضؤ ، فلم أخره ؟ قلت : لا يجب التقديم إذ الواو ليس للترتيب ، أو أنه للحال ، انتهى . قلت : كيف يقول : لا يجب التقديم ، وهذا ليس بشيء ، وقوله : إذ الواو ليس للترتيب حجة عليه ; لأنهم يدعون أن الواو في الأصل للترتيب ، ولم يقل به أحد ممن يعتمد عليه ، وقوله : أو أنه للحال غير سديد ولا موجه ، لأنه كيف يتوضأ في حالة غسل فرجه ، وقال بعضهم : فيه تقديم وتأخير ; لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء إذ الواو لا تقتضي الترتيب ، انتهى . قلت : [ ص: 194 ] هذا تعسف ، وهو أيضا حجة عليه مع أن ما ذكره خلاف الأصل ، والصواب أن الواو للجمع في أصل الوضع ، والمعنى أنه جمع بين الوضوء وغسل الفرج ، وهو وإن كان لا يقتضي تقديم أحدهما على الآخر على التعيين فقد بين ذلك فيما رواه البخاري من طريق ابن المبارك عن الثوري ، فذكر أولا غسل اليدين ، ثم غسل الفرج ، ثم مسح يده على الحائط ، ثم الوضوء غير رجليه ، وذكره بثم الدالة على الترتيب في جميع ذلك . والأحاديث يفسر بعضها بعضا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وما أصابه من الأذى " أي : المستقذر الطاهر . وقال بعضهم : قوله : " وما أصابه من الأذى " ليس بظاهر في النجاسة . قلت : هذا مكابرة فيما قاله . قوله : " هذا غسله " هكذا في رواية الكشميهني ، وهي على الأصل ، وعند غيره : " هذه غسله " بالتأنيث فيكون إشارة إلى الأفعال المذكورة ، أي : الأفعال المذكورة صفة غسله صلى الله عليه وسلم بضم الغين .

                                                                                                                                                                                  ( ومما لم يذكر في حديث عائشة ) وذكر في حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها من الزيادة تأخير الرجلين إلى الفراغ من الاغتسال ، وقد ذكرناه عن قريب ، وفيه التعرض لغسل الفرج ، وفيه غسل ما أصابه من الأذى ومما ذكره البخاري من حديث ميمونة على ما يأتي ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه . وفي آخره : ثم أتى بالمنديل فرده . وفي رواية : وجعل يقول بالماء هكذا ينقضه . وفي لفظ : ثم غسل فرجه ، ثم مال بيده إلى الأرض فمسحها بالتراب ، ثم غسلها . وفي لفظ : وضعت له غسلا فسترته بثوب . وفي لفظ : فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثا . وفي لفظ : : ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره . وفيه : ثم غسل رأسه ثلاثا ، وفي لفظ : فلما فرغ من غسله غسل رجليه ، وفي لفظ : فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا . وعند مسلم : فغسل فرجه وما أصابه ثم مسح يده بالحائط أو الأرض ، وفي ( صحيح الإسماعيلي ) : مسح يده بالجدار ، وحين قضى غسله غسل رجليه ، وفي لفظ : فلما فرغ من غسل فرجه دلك يده بالحائط ثم غسلها ، فلما فرغ من غسلها غسل قدميه . قال الإسماعيلي : وقد بين زائدة أن قوله : من الجنابة ليس من قول ميمونة ولا ابن عباس ، إنما هو عن سالم . وعند ابن خزيمة : ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه ، فأتي بمنديل فأبى أن يقبله . وعند أبي علي الطوسي في كتاب ( الأحكام ) مصححا : فأتيته بثوب فقال بيده هكذا . وعند الدارقطني : ثم غسل سائر جسده قبل كفيه . وعند أبي محمد الدارمي : فأعطيته ملحفة فأبى . قال أبو محمد : هذا أحب إلي من حديث عائشة . وعند ابن ماجه : فأكفأ الإناء بشماله على يمينه فغسل كفيه ثلاثا ثم أفاض على فرجه ، ثم دلك يده بالأرض ، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ثم أفاض على سائر جسده ، ثم تنحى فغسل رجليه .

                                                                                                                                                                                  وفي هذه الروايات استحباب الإفراغ باليمين على الشمال للمغترف من الماء . وفيها مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة ، وقال بعضهم : وتمسك الحنفية للقول بوجوبهما ، وتعقب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب إلا إذا كان بيانا لمجمل تعلق به الوجوب ، وليس الأمر هنا كذلك . قلت : ليس الأمر هنا كذلك ; لأنهم أنما أوجبوهما في الغسل بالنص لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا ، أي : طهروا أبدانكم ، وهذا يشمل الأنف والفم ، وقد حققناه فيما مضى ، وفيها استحباب مسح اليد بالتراب في الحائط أو في الأرض ، وقال بعضهم : وأبعد من استدل به على نجاسة المني أو على نجاسة رطوبة الفرج . قلت : هذا القائل هو الذي أبعده ; لأن من استدل بنجاسة المني أو على نجاسة رطوبة الفرج ما اكتفى بهذا في احتجاجه ، وقد ذكرناه فيما مضى مستقصى ، وفيها استحباب التستر في الغسل ولو كان في البيت ، وفيها جواز الاستعانة بإحضار ماء الغسل أو الوضوء ، وفيها خدمة الزوجات للأزواج ، وفيها الصب باليمين على الشمال ، وفيها كراهة التنشيف بالمنديل ونحوه .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : اختلف أصحابنا فيه على خمسة أوجه ، أشهرها أن المستحب تركه ، وقيل : مكروه ، وقيل : مباح ، وقيل : مستحب ، وقيل : مكروه في الصيف مباح في الشتاء ، ويقال : لا حجة في الحديث لكراهة التنشيف لاحتمال أن إباءه صلى الله عليه وسلم من أخذ ما يتنشف به لأمر آخر يتعلق بالخرقة أو لكونه كان مستعجلا أو غير ذلك ، وقال المهلب : يحتمل تركه الثوب لإبقاء تركه بلل الماء أو للتواضع أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ ، وقد وقع عند أحمد والإسماعيلي من رواية أبي عوانة في هذا الحديث عن الأعمش ، قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : لا بأس بالمنديل ، وإنما رده مخافة أن يصير عادة ، وقال التيمي في شرحه لهذا الحديث : فيه دليل على أنه كان يتنشف ، ولولا ذلك لم يأته بالمنديل ، وقال ابن دقيق العيد : نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشيف ; لأن كلا منهما إزالة . قلت : ليس فيه دليل على ذلك ; لأن التنشيف من عادة المتكبرين ، ورده صلى الله عليه وسلم الثوب لأجل التواضع مخالفة لهم .

                                                                                                                                                                                  وقد ورد أحاديث في هذا الباب [ ص: 195 ] منها حديث أم هانئ عند الشيخين : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله ، فسترت عليه فاطمة ، ثم أخذ ثوبه فالتحف به . هذا ظاهر في التنشيف ، ومنها حديث قيس بن سعد رواه أبو داود : أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فوضعنا له ماء فاغتسل ، ثم أتيناه بملحفة ورسية فاشتمل بها ، فكأني أنظر إلى أثر الورس عليه . وصححه ابن حزم ، ومنها حديث الوضين بن عطاء ، رواه ابن ماجه عن محفوظ بن علقمة عن سلمان ، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه . وهذا ضعيف عند جماعة ، ومنها حديث عائشة : " كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء " ، رواه الترمذي وضعفه ، وصححه الحاكم . ومنها حديث معاذ رضي الله تعالى عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه . رواه الترمذي وضعفه . ومنها حديث أبي بكر : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء . رواه البيهقي ، وقال : إسناده غير قوي . ومنها حديث أنس مثله وأعله . ومنها حديث أبي مريم إياس بن جعفر عن فلان رجل من الصحابة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ . رواه النسائي في ( الكنى ) بسند صحيح ، ومنها حديث منيب بن مدرك المكي الأزدي قال : رأيت جارية تحمل وضوء ومنديلا فأخذ صلى الله عليه وسلم الماء فتوضأ ومسح بالمنديل وجهه . أسنده الإمام مغلطاي في شرحه . وقال ابن المنذر : أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وبشير بن أبي مسعود ، ورخص فيه الحسن وابن سيرين وعلقمة والأسود ومسروق والضحاك ، وكان مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي لا يرون به بأسا ، وكره عبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وابن المسيب ومجاهد وأبو العالية . وقال بعضهم : استدل به على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر خلافا لمن غلا من الحنفية ، فقال بنجاسته . قلت : هذا القائل هو الذي أتى بالغلو حيث لم يدرك حقيقة مذهب الحنفية ; لأن الذي عليه الفتوى في مذهبهم أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه واستعماله في الطبيخ والعجين ، والذي ذهب إلى نجاسته لم يقل بأنه نجس في حالة التقاطر ، وإنما يكون ذلك إذا سال من أعضاء المتطهر واجتمع في مكان .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية