الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  275 ( وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينا أيوب يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب ، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه ، فناداه ربه : يا أيوب ، ألم أكن أغنيتك عما ترى . قال : بلى وعزتك ، ولكن لا غنى بي عن بركتك ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا معطوف على الإسناد الأول ، وقد صرح أبو مسعود وخلف فقالا في أطرافهما : إن البخاري رواه هاهنا عن إسحاق بن نصر ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن محمد الجعفي ، كلاهما عن عبد الرزاق . ورواه أبو نعيم الأصبهاني ، عن أبي أحمد بن شيرويه ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا عبد الرزاق ، فذكره وذكر أن البخاري رواه عن إسحاق بن نصر ، عن عبد الرزاق ، وأورد الإسماعيلي حديث عبد الرزاق عن معمر ، ثم لما فرغ منه قال : عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بينا أيوب يغتسل . الحديث ، وقال بعضهم : وجزم الكرماني بأنه تعليق بصيغة التمريض فأخطأ ، فإن الخبرين ثابتان في نسخة همام بالإسناد المذكور ( قلت ) : الكرماني لم يجزم بذلك ، وإنما قال : تعليق بصيغة التمريض بناء على الظاهر ; لأنه لم يطلع على ما ذكرنا . قوله : " بينا بالألف أصله بين بلا الألف زيدت الألف فيه لإشباع الفتحة والعامل فيه . قوله : خر وما قيل أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبله ; لأن فيه معنى الجزائية إذ بين متضمن للشرط فجوابه لا نسلم عدم عمله سيما في الظرف إذ فيه توسع ، والعامل خر المقدر ، والمذكور مفسر له وما قيل أن المشهور دخول إذا وإذا في جوابه ، فجوابه كما أن إذا تقوم مقام الفاء في جواب الشرط نحو قوله : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ، تقوم الفاء مقام إذا في جواب بين فبينهما معاوضة . قوله : " أيوب " ، اسم أعجمي ، وهو ابن أموص بن زراح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، وهذا هو المشهور ، وقال بعضهم : أيوب بن أموص بن زيرح بن زعويل بن عيص بن إسحاق ، وقال آخرون : أيوب بن أموص بن زراخ بن روم بن عيص بن إسحاق ، وأمه بنت لوط عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 232 ] وكان أيوب في زمان يعقوب ، وقال ابن الكلبي : كانت منازله الثنية من أرض الشام ، والجابية من كورة دمشق ، وكان الجميع له ، ومقامه بقرية تعرف بدير أيوب ، وقبره بها ، وإلى هلم جرا ، وهي قرية من نوى عليه مشهد ، وهناك : قدم في حجر يقولون : إنها أثر قدمه ، وهناك عين يتبرك بها ، وكان أعبد أهل زمانه ، وعاش ثلاثا وتسعين سنة . قوله : " يغتسل " ، جملة في محل الرفع ; لأنها خبر المبتدأ ، وهو قوله : أيوب ، والجملة في محل الجر بإضافة بين إليه . قوله : " عريانا نصب على الحال ومصروف ; لأنه فعلان بالضم بخلاف فعلان بالفتح كما عرف في موضعه . قوله : جراد بالرفع فاعل خر . قال ابن سيده : الجراد معروف . قال أبو عبيد : قيل : هو سروة ، ثم دبا ، ثم غوغا ، ثم كتفان ، ثم خيفان ، ثم جراد . وقال أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الأجواني : أول ما يكون الجراد دبا ، ثم يكون غوغا إذا ماج بعضه في بعض ، ثم يكون كتفانا ، ثم يصير خيفانا إذا صارت فيه خطوط مختلفة ، الواحدة خيفانة ، ثم يكون جرادا ، وقيل : الجراد الذكر ، والجرادة الأنثى ، ومن كلامهم : رأيت جرادا على جرادة ، كقولهم : رأيت نعاما على نعامة ، وفي الصحاح : الجراد معروف ، والواحدة الجرادة يقع على الذكر والأنثى ، وليس الجراد بذكر للجرادة ، إنما هو اسم جنس كالبقر والبقرة ، والتمر والتمرة ، والحمام والحمامة ، وما أشبه ذلك فحق مؤنثه أن لا يكون مؤنثه من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع . وقال ابن دريد في الجمهرة : سمي جراد ؛ لأنه يجرد الأرض ، فإنه يأكل ما عليها ، وكذا هو في الاشتقاق للرماني . قوله : " يحتثي : من باب الافتعال من الحثي بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة . قال ابن سيده : الحثي ما رفعت به يديك ، يقال : حثى يحثي ويحثو والياء أعلى ، وزعم ابن قرقول أنه يكون باليد الواحدة أيضا ، وفي الصحاح : حثى في وجهه التراب ، يحثو ويحثي حثوا وحثيا وتحثيا ، وحثوت له إذا أعطيته شيئا يسيرا ، ويقال : الحثية باليدين جميعا عند أهل اللغة . وقال الكرماني : يحتثي ، أي : يرمي ، يعني : يأخذ ويرمي في ثوبه ، وقال بعضهم : وقع في رواية القابسي عن زيد : يحتثن بنون في آخره بدل الياء . ( قلت : ) أمعنت النظر في كتب اللغة فما وجدت له وجها في هذا . قوله : " فناداه ربه " ، يحتمل أن يكون كلمه كما كلم موسى ، وهو أولى بظاهر اللفظ ، ويحتمل أن يرسل إليه ملكا فسمى هذا بذلك . قوله : " بلى " ، أي : بلى أغنيتني . وقال الكرماني : ولو قيل في مثل هذه المواضع بدل بلى نعم لا يجوز ، بل يكون كفرا ( قلت ) لأن بلى مختصة بإيجاب النفي ونعم مقررة لما سبقها ، والمراد في قوله تعالى : ألست بربكم قالوا بلى أنت ربنا . وقال المفسرون : لو قالوا : نعم لكفروا ، والفقهاء لم يفرقوا في الأقارير ; لأن مبناها على العرف ، ولا فرق بينهما في العرف . قوله : " لا غنى بي . قال بعضهم : لا غنى بالقصر بلا تنوين على أن لا بمعنى ليس ( قلت ) هذا القائل لم يدر الفرق بين لا بمعنى ليس ، وبين لا التي لنفي الجنس ، فإذا كانت بمعنى ليس فهو منون مرفوع ، وإذا كانت بمعنى لا لنفي الجنس يكون مبنيا على ما ينصب به ، ولا ينون ، ويجوز هاهنا الوجهان ، ولا فرق بينهما في المعنى ; لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم . وقال صاحب الكشاف في أول البقرة : قرئ : لا ريب ، بالرفع ، والفرق بينها وبين القراءة المشهورة أن المشهورة توجب الاستغراق وهذه تجوزه ( فإن قلت : ) خبر " لا " ما هو ؟ هل هو لفظ بي أو عن بركتك ؟ قلت : يجوز كلاهما والمعنى صحيح على التقديرين . قوله : " عن بركتك " ، البركة كثرة الخير .

                                                                                                                                                                                  ( ومما يستنبط منه ) ما قاله ابن بطال جواز الاغتسال عريانا ; لأن الله تعالى عاتب أيوب عليه السلام على جمع الجراد ولم يعاتبه على الاغتسال عريانا . وفيه : جواز الحلف بصفة من صفات الله تعالى ، وقال الداودي : فيه فضل الكفاف على الفقر ; لأن أيوب عليه السلام لم يكن يأخذ ذلك مفاخرا ولا مكاثرا ، وإنما أخذه ليستعين به فيما لا بد له منه ، ولم يكن الرب جل وعلا ليعطيه ما ينقص به حظه . وفيه : الحرص على الحلال . وفيه : فضل الغنى ; لأنه سماه بركة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية