الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2894 255 - حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى ، فقال : يا هني اضمم جناحك عن المسلمين ، واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة ، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع ، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول : يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أنا لا أبا لك ، فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق ، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم ، إنها لبلادهم ، فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام ، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة : يمكن أن تؤخذ من قوله : " إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام " وذلك لأن أهل المدينة أسلموا لو لم يكونوا من أهل العنوة فهم أحق ، ومن أسلم من أهل العنوة فأرضه فيء للمسلمين ، وإسماعيل هو ابن أويس واسمه عبد الله وهو ابن أخت مالك ، وأسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  وهذا الأثر تفرد به البخاري ، عن الجماعة ، وقال الدارقطني : فيه غريب صحيح .

                                                                                                                                                                                  قوله " هنيا " بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف ، وقد يهمز ، أدرك أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يذكره أحد في الصحابة ، وروى عن أبي بكر وعمر وعمرو بن العاص ، وروى عنه ابنه عمير وشيخ من الأنصار وغيرهما ، وشهد صفين مع معاوية ، ولما قتل عمار تحول إلى علي رضي الله تعالى عنه ، ولولا هو من أهل الفضل والثقة لما ولاه عمر على موضع .

                                                                                                                                                                                  قوله : " على الحمى " بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مقصورا ، وهو موضع يعينه الإمام لأجل نعم الصدقة ممنوعا عن الغير ، وبين ابن سعد من طريق عمير بن علي ، عن أبيه أنه كان على حمى الربذة ، قوله : " اضمم جناحك " ضم الجناح كناية عن الرحمة والشفقة ، وحاصل المعنى كف يدك عن ظلم المسلمين ، وفي رواية معن بن عيسى ، عن مالك عند الدارقطني في الغرائب " اضمم جناحك للناس " وفي التلويح : " اضمم جناحك على المسلمين " يريد استرهم بجناحك ، وفي بعض الروايات " على المسلمين " أي لا تحمل ثقلك عليهم وكف يدك عن ظلمهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " واتق دعوة المظلوم " هكذا في رواية الإسماعيلي [ ص: 305 ] والدارقطني وأبي نعيم ، ويروى : " واتق دعوة المسلمين " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وأدخل " بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة ، أمر من الإدخال ، يعني : أدخل في المرعى رب الصريمة بضم الصاد المهملة وفتح الراء مصغر الصرمة وهي القطيعة من الإبل بقدر الثلاثين ، والغنيمة مصغر الغنم ، والمعنى صاحب القطيعة القليلة من الإبل والغنم ، ولهذا صغر اللفظين ، قوله : " وإياي " وكان القياس أن يقول وإياك ; لأن هذه اللفظة للتحذير ، وتحذير المتكلم نفسه شاذ عند النحاة ; ولكنه بالغ فيه من حيث إنه حذر نفسه ومراده تحذير المخاطب ، وهو أبلغ لأنه ينهى نفسه ومراده نهي من يخاطبه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " نعم ابن عوف " وهو عبد الرحمن بن عوف ، ونعم ابن عفان وهو عثمان بن عفان ، وإنما خصهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما لأنهما كانا من مياسير الصحابة ، ولم يرد بذلك منعهما البتة وإنما أراد أنه إذا لم يسع المرعى إلا نعم الفريقين فنعم المقلين أولى ، فنهاه عن إيثارهما على غيرهما وتقديمهما على غيرهما ، وقد بين وجه ذلك في الحديث بقوله " فإنهما " أي فإن ابن عوف وابن عفان إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع ، أراد أن ماشيتهما إذا هلكت كان لهما عوض ذلك من أموالهما من النخل والزرع وغيرهما يعيشان فيها ، ومن ليس له إلا الصريمة القليلة أو الغنيمة القليلة إن تهلك ماشيتهما يستغيث عمر ويقول أنفق علي وعلى بني من بيت المال ، وهو معنى قوله : " يأتني ببنيه " أي بأولاده ، فيقول يا أمير المؤمنين نحن فقراء محتاجون ، وهذا في رواية الكشميهني هكذا ، ببنيه جمع ابن ، وفي رواية غيره " ببيته " بلفظ البيت الذي هو عبارة عن زوجته ، قوله : " يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين " هكذا هو بالتكرار ، قوله : " أفتاركهم أنا " الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى أنا لا أتركهم محتاجين ولا أجوز ذلك ، فلا بد لي من إعطاء الذهب والفضة إياهم بدل الماء والكلأ ، قوله : " لا أبا لك " هو حقيقة في الدعاء عليه لكن الحقيقة مهجورة ، وهي بلا تنوين ; لأنه صار شبيها بالمضاف وإلا فالأصل لا أب لك ، قوله : " وايم الله " من ألفاظ القسم كقولك لعمر الله وعهد الله ، وفيه لغات كثيرة ، وتفتح همزتها وتكسر ، وهمزتها همزة وصل وقد تقطع ، وأهل الكوفة من النحاة يزعمون أنها جمع يمين ، وغيرهم يقول هو اسم موضوع للقسم ، قوله : " إنهم ليرون " بضم الياء أي ليظنون أني قد ظلمتهم ، ويجوز بفتح الياء أي ليعتقدون ، قوله : " قد ظلمتهم " قال ابن التين : يريد أرباب المواشي الكثيرة ، والظاهر أنه أراد أرباب المواشي القليلة لأنهم الأكثرون وهم أهل تلك البلاد من بوادي المدينة ، يدل عليه قوله : " إنها " أي إن هذه الأراضي لبلادهم ، فقاتلوا عليها في الجاهلية ، والمراد عموم أهل المدينة ، ولم يدخل في ذلك ابن عوف ولا ابن عفان ، قوله : " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله " أي من الإبل التي كان يحمل عليها من لا يجد ما يركب ، وجاء عن مالك أن عدة ما كان في الحمى في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل وغيرهما .

                                                                                                                                                                                  وفيه دليل على أن مشارع القرى وعوامرها التي ترعى فيها مواشي أهلها من حقوق أهل القرية ، وليس للسلطان بيعه إلا إذا فضل منه فضلة ، فإن قلت : قد مضى " لا حمى إلا لله ولرسوله " قلت : معناه لا حمى لأحد يخص به نفسه ، وإنما هو لله ولرسوله ولمن ورث ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من الخلفاء للمصلحة الشاملة للمسلمين وما يحتاجون إلى حمايته .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية