الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3035 17 - حدثنا هدبة بن خالد، قال: حدثنا همام، عن قتادة، ح وقال لي خليفة: قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد وهشام، قالا: حدثنا قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، وذكر يعني رجلا بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملئ حكمة وإيمانا فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانا، وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار البراق، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا ولنعم المجيء جاء.

                                                                                                                                                                                  فأتيت على آدم فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من ابن ونبي، فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى، فقالا: مرحبا بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الثالثة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت يوسف فسلمت عليه قال: مرحبا بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الرابعة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به ولنعم المجيء جاء.

                                                                                                                                                                                  فأتيت على إدريس فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ ونبي، فأتينا السماء الخامسة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتينا على هارون فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ ونبي، فأتينا على السماء السادسة، قيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أرسل إليه؟ مرحبا به ولنعم المجيء جاء.

                                                                                                                                                                                  فأتيت على موسى فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من أخ ونبي، فلما جاوزت بكى، فقيل: ما أبكاك؟ قال: يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي فأتينا السماء السابعة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قيل: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ مرحبا به ونعم المجيء جاء.

                                                                                                                                                                                  فأتيت على إبراهيم فسلمت عليه، فقال: مرحبا بك من ابن ونبي، فرفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم، ورفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار؛ نهران باطنان ونهران ظاهران، فسألت جبريل، فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران [ ص: 125 ] النيل والفرات، ثم فرضت علي خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: فرضت علي خمسون صلاة، قال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا تطيق فارجع إلى ربك فسله، فرجعت فسألته فجعلها أربعين ثم مثله ثم ثلاثين ثم مثله فجعل عشرين ثم مثله فجعل عشرا، فأتيت موسى فقال مثله، فجعلها خمسا، فأتيت موسى فقال: ما صنعت؟ قلت: جعلها خمسا، فقال مثله، قلت: سلمت بخير، فنودي: إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي الحسنة عشرا.


                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة؛ لأن فيه ذكر جبريل صريحا وهو من الكروبيين وهم سادة الملائكة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم تسعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: هدبة، بضم الهاء وسكون الدال وبالباء الموحدة، ابن خالد بن أبي الأسود القيسي البصري، ويقال: هداب.

                                                                                                                                                                                  الثاني: همام بن يحيى بن دينار العوذي، بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالذال المعجمة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: قتادة بن دعامة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: خليفة بن خياط أبو عمرو العصفري.

                                                                                                                                                                                  الخامس: يزيد بن زريع أبو معاوية العيشي البصري.

                                                                                                                                                                                  السادس: سعيد بن أبي عروبة واسمه مهران اليشكري. السابع: هشام بن أبي عبد الله الدستوائي.

                                                                                                                                                                                  الثامن: أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  التاسع: مالك بن صعصعة الأنصاري رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري مقطعا في أربعة مواضع بعضها في بدء الخلق عن هدبة وخليفة، وبعضها في الأنبياء عن هدبة أيضا، وفي بعض النسخ عن عباد بن أبي يعلى، وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي موسى عن ابن أبي عدي وعن أبي موسى عن معاذ، وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن بشار وابن أبي عدي، وأخرجه النسائي في الصلاة عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وعن إسماعيل بن مسعود وغيرهم.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " عن قتادة، ح وقال لي خليفة"؛ كلمة (ح) إشارة إلى التحويل من إسناد إلى آخر قبل ذكر الحديث، وقيل: إلى الحائل بين السندين، وإنما قال: قال لي خليفة، ولم يقل: حدثني؛ إشعارا بأنه سمع منه عند المذاكرة لا على طريق التحميل والتبليغ.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عند البيت"؛ أي: الكعبة، وقد مر في أول كتاب الصلاة في رواية أبي ذر أنه قال: فرج عن سقف بيتي. والتوفيق بينهما هو أن الأصح كان له صلى الله عليه وسلم معراجان، أو دخل بيته ثم عرج بين النائم واليقظان.

                                                                                                                                                                                  وظاهر حديث أبي ذر الذي مضى في أول كتاب الصلاة أنه كان في اليقظة إذ هو مطلق الإطلاق وهو المطابق لما في مسند أحمد عن ابن عباس أنه كان في اليقظة رآه بعينه، والتوفيق بينهما بأن يقال: إن كان الإسراء مرتين أو أكثر فلا إشكال فيه، وإن كان واحدا فالحق أنه كان في اليقظة بجسده؛ لأنه قد أنكرته قريش، وإنما ينكر إن كان في اليقظة إذ الرؤيا لا تنكر ولو بأبعد منه.

                                                                                                                                                                                  وقال /0 القاضي عياض /0 : اختلفوا في الإسراء إلى السماوات، فقيل: إنه في المنام، والحق الذي عليه الجمهور أنه أسري بجسده. قلت: اختلفوا فيه على ثلاث مقالات؛ فذهبت طائفة إلى أنه كان في المنام مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحي وحق، وإلى هذا ذهب معاوية وحكي عن الحسن والمشهور عنه خلافه، واحتجوا في ذلك بما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوله: بينا أنا نائم، وبقول أنس: وهو نائم في المسجد الحرام. وذكر القصة وقال في آخرها: فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام.

                                                                                                                                                                                  وذهب معظم السلف إلى أنه كان بجسده وفي اليقظة وهذا هو الحق وهو قول ابن عباس فيما صححه الحاكم وعدد في الشفاء عشرين نفسا، قال بذلك من الصحابة والتابعين وأتباعهم وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمتكلمين، وذهبت طائفة إلى أن الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، والصحيح أنه أسري بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه يدل قوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده إذ لو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل: بعبده، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء [ ص: 126 ] بجسده وحال يقظته استحالة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عباس: هي رؤيا عين رآها لا رؤيا منام، وأما قول عائشة: ما فقد جسده فلم تحدث عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن حينئذ زوجة ولا في سن من يضبط، ولعلها لم تكن ولدت، فإذا كان كذلك تكون قد حدثت بذلك عن غيرها فلا يرجح خبرها على خبر غيرها.

                                                                                                                                                                                  وقال الحافظ عبد الحق في الجمع بين الصحيحين: وما روى شريك عن أنس أنه كان نائما فهو زيادة مجهولة، وقد روى الحفاظ المتقنون والأئمة المشهورون؛ كابن شهاب، وثابت البناني، وقتادة عن أنس: ولم يأت أحد منهم بها، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وذكر"؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: " فأتيت" على صيغة المجهول. قوله: " بطست"؛ الطست مؤنثة وجمعها طسوس وجاء بكسر الطاء، ويقال: طس بتشديد السين.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ملئ" على صيغة المجهول من الماضي، والتذكير باعتبار الإناء، وفي رواية الكشميهني: ملآى، وفي رواية غيره: ملآن، فالحاصل أن فيه ثلاث روايات. قوله: " حكمة وإيمانا"، قال الكرماني: هما معنيان، والإفراغ صفة الأجسام. قلت: كان في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيمانا وحكمة؛ لكونه سببا لهما، وقال الطيبي: لعله من باب التمثيل، أو تمثل له المعاني كما تمثل له أرواح الأنبياء الدارجة بالصور التي كانوا عليها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فشق من النحر إلى مراق البطن"؛ النحر الصدر، و"مراق" بفتح الميم وتخفيف الراء وتشديد القاف، وهو ما سفل من البطن ورق من جلده، وأصله: مراقق، وسميت بذلك؛ لأنها موضع رقة الجلد. وقال الطيبي: ما ذكر من شق الصدر واستخراج القلب وما يجري مجراه، فإن السبيل في ذلك التسليم دون التعرض بصرفه إلى وجه يتقوله متكلف ادعاء للتوفيق بين المنقول والمعقول تبرءا مما يتوهم أنه محال، ونحن ـ بحمد الله ـ لا نرى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق عن الأمر المحال به على القدرة، واعلم أن هذا الشق غير الشق الذي كان في زمن صغره، فعلم أن الشق كان مرتين.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأتيت بدابة أبيض" إنما قال: أبيض ولم يقل: بيضاء؛ لأنه أعاده على المعنى، أي بمركوب أو براق. قوله: " البراق" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو براق ويجوز بالجر على أنه بدل من دابة، والبراق اسم للدابة التي ركبها صلى الله عليه وسلم تلك الليلة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن دريد: اشتقاقه من البرق إن شاء الله لسرعته، وقيل: سمي به؛ لشدة صفائه وتلألؤ لونه، ويقال: شاة برقاء إذا كان خلال صوفها طاقات سود فيحتمل التسمية به؛ لكونه ذا لونين، وذكر ابن أبي خالد في كتاب الاحتفال في أسماء الخيل وصفاتها أن البراق ليس بذكر ولا أنثى، ووجهه كوجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس، وقوائمه كقوائم الثور، وذنبه كذنب الغزال.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن إسحاق: البراق دابة أبيض وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه، وقال الزبيدي في مختصر العين وصاحب التحرير: هي دابة كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها، وقال الطيبي: وهذا الذي قالاه يحتاج إلى نقل صحيح، ثم قال: لعلهم حسبوا ذلك في قوله في حديث آخر: فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء البراق.

                                                                                                                                                                                  وأظهر منه حديث أنس في حديث آخر قول جبريل عليه الصلاة والسلام للبراق: فما ركبك أحد أكرم على الله منه، وعن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الركوب على البراق شمس، فوضع جبريل عليه الصلاة والسلام يده على مفرقته، ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصنع؟! فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم على الله منه. قال: فاستحيى حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبه.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال في سبب نفرة البراق بعد عهده بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقال غيره: قال جبريل عليه الصلاة والسلام لمحمد صلى الله عليه وسلم حين شمس به البراق: لعلك يا محمد مسست الصفراء اليوم، يعني الذهب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما مسها إلا أنه مر بها، فقال: تبا لمن يعبدك من دون الله وما شمس إلا لذلك، ذكره السهيلي وسمع العبد الضعيف من بعض مشايخه الثقات أنه إنما شمس ليعد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالركوب عليه يوم القيامة، فلما وعد له ذلك قر، وفي صحيح ابن حبان أن جبرائيل عليه الصلاة والسلام حمله صلى الله عليه وسلم على البراق رديفا له ثم رجعا ولم يصل فيه؛ أي في بيت المقدس، ولو صلى لكانت سنة، وهو من أظرف ما يستدل به على الإرداف.

                                                                                                                                                                                  وفي حديث أنس وغيره أنه صلى، وأنكر ذلك حذيفة وقال: والله ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا، وأخرج البيهقي حديث الإسراء من حديث شداد بن أوس، وفيه أنه صلى تلك الليلة ببيت لحم. قوله: " حتى أتينا السماء الدنيا" لم يذكر فيه مجيئه إلى القدس، وقد قال الله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده الآية. ذكر أهل السير والمفسرون [ ص: 127 ] أنه لما ركب البراق أتى إلى بيت المقدس ومعه جبريل عليه الصلاة والسلام، ولما فرغ أمره فيه نصب له المعراج، وهو السلم، فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن الصعود على البراق كما يتوهمه بعض الناس، بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس حتى يرجع عليه إلى مكة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قيل: من هذا؟"، وفي رواية أبي ذر التي مضت في أول الكتاب: فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، فهذا يدل على أن للسماوات أبوابا وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي أن يقول: أنا زيد، مثلا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال جبريل" يعني: قال: أنا جبريل. قوله: " قال: محمد"؛ أي: قال جبريل: معي محمد، والظاهر أن القائل في قوله: " قيل" في هذه المواضع خزان أبواب السماء. قوله: " وقد أرسل إليه؟" الواو للعطف، وحرف الاستفهام مقدر؛ أي: أطلب وأرسل إليه، وفي رواية أخرى: وقد بعث إليه للإسراء وصعود السماوات.

                                                                                                                                                                                  قال الطيبي: وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة؛ فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة، هذا هو الصحيح، وقيل: معناه أوحي إليه وبعث نبيا، والأول أظهر؛ لأن أمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لا يكاد يخفى على خزان السماوات وحراسها، وأوقف للاستفتاح والاستئذان، وقيل: كان سؤالهم للاستعجاب بما أنعم الله عليه، أو للاستبشار بعروجه; إذ كان من البين عندهم أن أحدا من البشر لا يترقى إلى أسباب السماوات من غير أن يأذن الله له ويأمر ملائكته بإصعاده، وأن جبريل عليه الصلاة والسلام لا يصعد بمن لم يرسل إليه ولا يفتح له أبواب السماء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " مرحبا به"؛ أي: بمحمد، ومعناه: لقي رحبا وسعة، وقيل: معناه: رحب الله به مرحبا، فجعل "مرحبا" موضع الترحيب، فعلى الأول انتصابه على المفعولية، وعلى الثاني على المصدرية. قوله: " ولنعم المجيء جاء" المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير تقديره: جاء فلنعم المجيء مجيئه، قال المالكي: فيه شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول والصفة عن الموصوف في باب نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء، وإلى مخصوص بمعناها.

                                                                                                                                                                                  وهو مبتدأ مخبر عنه بـ "نعم" وفاعلها، وهو في هذا الكلام وشبهه موصول أو موصوف بـ " جاء"، والتقدير: نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء جاء، وكونه موصولا أجود؛ لأنه مخبر عنه، وكون المخبر عنه معرفة أولى من كونه نكرة. قوله: " فأتيت على آدم فسلمت عليه"، وفي رواية: وأمر بالتسليم عليهم؛ أي على الأنبياء الذين لقيهم في السماوات وعلى خزان السماوات وحراسها؛ لأنه كان عابرا عليهم وكان في حكم القيام وكانوا في حكم القعود، والقائم يسلم على القاعد وإن كان أفضل منه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " من ابن ونبي" كل واحد من البنوة والنبوة ظاهر، وهو من قوله هذا إلى قوله: " فرفع لي" كله ظاهر إلا بعض الألفاظ نفسرها، فقوله: " فأتيت على إدريس وكان في السماء الرابعة"، قيل: هذا معنى قوله: ورفعناه مكانا عليا قاله أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، وقيل: رفعناه في المنزلة والرتبة، وقيل: المراد من قوله: ورفعناه مكانا عليا الجنة، فإن قلت: إذا كان في الجنة فكيف لقيه في السماء الرابعة؟ قلت: قيل: إنه لما أخبر بعروجه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى السماوات وما فوقها استأذن ربه في ملاقاته فاستقبله، فكان اجتماعه به في السماء الرابعة اتفاقا لا قصدا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " مرحبا من أخ ونبي"، فإن قلت: كيف قال إدريس عليه الصلاة والسلام: من أخ وهو جد لنوح عليه الصلاة والسلام، فكان المناسب أن يقول: من ابن؟ قلت: لعله قاله تلطفا وتأدبا والأنبياء إخوة. قوله: " فلما جاوزت بكى"، قالوا: كان بكاؤه صلى الله عليه وسلم لأجل الرقة لقومه والشفقة عليهم؛ حيث لم ينتفعوا بمتابعته انتفاع هذه الأمة بمتابعة نبيهم، ولم يبلغ سوادهم مبلغ سوادهم، ولا ينبغي إلا أن يحمل على هذا الوجه أو ما يضاهي ذلك، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن عوام المؤمنين فضلا عمن اختاره الله لرسالته واصطفاه لمكالمته.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يا رب هذا الغلام" لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام بذلك استقصار شأنه، فإن الغلام قد يطلق ويراد به القوي الطري الشاب، والمراد منه استقصار مدته مع استكثار فضائله وأمته أتم سوادا من أمته، وقال الخطابي: قوله " الغلام" ليس على معنى الإزراء والاستصغار لشأنه، إنما هو على تعظيم منة الله تعالى عليه مما أناله من النعمة وأتحفه من الكرائم من غير طول عمر أفناه مجتهدا في طاعته، وقد تسمي العرب الرجل المستجمع السن غلاما ما دام فيه بقية من القوة، وذلك في لغتهم مشهورة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فأتيت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام" هذا في السماء السابعة، وذكر في حديث أبي ذر في أول كتاب الصلاة أنه في السادسة، قيل: في التوفيق بينهما بأن يقال: لعله وجد في السادسة ثم ارتقى هو أيضا إلى السابعة، وكذلك اختلف في موسى صلى الله عليه وسلم: هل هو في [ ص: 128 ] السادسة أو السابعة، والكلام فيه مثل ما مر الآن. قوله: " فرفع لي البيت المعمور"؛ أي: كشف لي وقرب مني، والرفع التقريب والعرض، وقال التوربشتي: الرفع تقريبك الشيء، وقد قيل في قوله: وفرش مرفوعة أي: مقربة لهم، وكأنه أراد أن البيت المعمور ظهر له كل الظهور، وكذلك سدرة المنتهى استبينت له كل الاستبانة حتى اطلع عليها كل الاطلاع بمثابة الشيء المقرب إليه، وفي معناه: رفع لي بيت المقدس، والبيت المعمور بيت في السماء حيال الكعبة اسمه الضراح، بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وبالحاء المهملة، وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " لم يعودوا"، ويروى: لم يعتدوا. قوله: " آخر ما عليهم" بالرفع والنصب، فالنصب على الظرف والرفع على تقدير: ذلك آخر ما عليهم من دخوله، قال صاحب المطالع: الرفع أجود. قوله: " ورفعت لي سدرة المنتهى" قد ذكرنا الآن معنى الرفع، ويروى: السدرة المنتهى، بالألف واللام، والسدرة شجرة النبق، وسميت بها؛ لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وحكي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنما سميت بذلك؛ لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى. قوله: " فإذا نبقها"؛ كلمة " إذا" للمفاجأة، و" النبق" بفتح النون وكسر الباء؛ حمل السدر ويخفف أيضا، الواحدة نبقة ونبقة. قوله: " قلال هجر"؛ القلال جمع قلة.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين: القلة مائتا رطل وخمسون رطلا بالرطل البغدادي، والأصح عند الشافعية خمسمائة رطل، وقال الخطابي: القلال الجرار، وهي معروفة عند المخاطبين معلومة القدر، وقال ابن فارس: القلة: ما أقله الإنسان من جرة أو جب، قال: وليس في ذلك عند أهل اللغة حد محدود إلا أن يأتي في الحديث تفسير فيجب أن يسلم، وعبارة الهروي: القلة ما يأخذ مزادة من الماء، سميت بذلك؛ لأنها تقل؛ أي: ترفع، و" هجر" بفتح الهاء والجيم وفي آخره راء؛ بلدة، لا تنصرف للتعريف والتأنيث، وفي المطالع: هجر مدينة باليمن هي قاعدة البحرين، بينها وبين البحرين عشر مراحل.

                                                                                                                                                                                  ويقال " الهجر" أيضا بالألف واللام. قوله: " كآذان الفيول" وهو جمع فيل، وهو الحيوان المعروف. قوله " أنهار" جمع نهر، بسكون الهاء وفتحها. قوله: " نهران باطنان"؛ قال مقاتل: هما السلسبيل والكوثر. قوله: " ونهران ظاهران" وقد بينهما في الحديث بقوله: " النيل والفرات يخرجان من أصلها ثم يسيران حيث أراد الله تعالى ثم يخرجان من الأرض ويجريان فيها".

                                                                                                                                                                                  وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن جميع المياه من تحت صخرة بيت المقدس، ومن هناك يتفرق في الدنيا: أما النيل فمبدؤه من جبال القمر، بضم القاف وسكون الميم، وقيل: بفتح الميم؛ تشبيها بالقمر في بياضه، وقيل: ينبع من اثني عشر عينا هناك، ويجري ثلاثة أشهر في القفار وثلاثة أشهر في العمران إلى أن يجيء إلى مصر، فيفترق فرقتين عند قرية يقال لها: شطنوف، فيمر الغربي منه على رشيد وينصب في البحر الملح، وأما الشرقي فيفترق أيضا فرقتين عند جوجر فيفترق فرقتين أيضا فتمر الغربية منهما على دمياط من غربيها وينصب في البحر الملح، والشرقية منهما تمر على أشمون طناح فينصب هناك في بحيرة شرقي دمياط، يقال لها: بحيرة تنيس وبحيرة دمياط.

                                                                                                                                                                                  وأما الفرات فأصله من أطراف أرمينية قريب من قاليقلا ثم يمر على بلاد الروم، ثم يمر بأرض ملطية ثم على شمشاط، وقلعة الروم والبيرة وجسر منيح وبالس وجعبر والرقة والرحبة وقرقيسا وعانات والحديثة وهيت والأنبار، ثم يمر بالطفوف ثم بالحلة ثم بالكوفة، وينتهي إلى البطائح وينصب في البحر الشرقي، قالوا: ومقدار جريانها على وجه الأرض أربعمائة فرسخ.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عالجت بني إسرائيل"؛ أي: مارستهم ولقيت منهم الشدة فيما أردت منهم من الطاعة، والمعالجة مثل المزاولة والمجادلة. قوله: " فسله"؛ أصله: فاسأله؛ لأنه أمر من السؤال، فنقلت حركة الهمزة إلى السين فحذفت تخفيفا، واستغني عن همزة الوصل فحذفت فصار: فسله، على وزن: فله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فارجع إلى ربك"؛ أي: إلى الموضع الذي ناجيت ربك فيه. قوله: " فرجعت"؛ أي: إلى موضع مناجاتي. قوله: " فسألته"؛ أي: فسألت الله التخفيف. قوله: " فجعلها"؛ أي: فجعل الفريضة التي قدرها أربعين صلاة. قوله: " ثم مثله"؛ أي: ثم قال موسى صلى الله عليه وسلم مثله. قوله: " ثم ثلاثين"؛ أي: ثم جعلها ثلاثين صلاة. قوله: " ثم مثله"؛ أي: ثم قال موسى صلى الله عليه وسلم مثله. قوله: " فجعل عشرين"؛ أي: عشرين صلاة. قوله: " ثم مثله"؛ أي: ثم قال موسى صلى الله عليه وسلم مثله. قوله: [ ص: 129 ] " فجعل عشرا"؛ أي: عشر صلوات. قوله: " فأتيت موسى صلى الله عليه وسلم"؛ أي: في الموضع الذي لقيته فيه، فقال موسى أيضا مثله. قوله: " فجعلها خمسا"؛ أي: خمس صلوات. قوله: " فقال ما صنعت"؛ أي: فقال موسى - صلى الله عليه وسلم -: ماذا صنعت فيما رجعت، وهذه هي المراجعة الأخيرة. قوله: " قلت: جعلها خمسا"؛ أي: خمس صلوات. قوله: " فقال: سلمت بخير"؛ أي: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لموسى: سلمت، بتشديد اللام، من التسليم، يعني: سلمت له ما جعله من خمس صلوات، فلم يبق لي مراجعة; لأني استحييت من ربي، كما مضى في حديث أبي ذر في أول كتاب الصلاة من قوله: " ارجع إلى ربك، قلت: استحييت من ربي"؛ يعني: من تعدد المراجعة. قوله: " فنودي"؛ أي: فجاء النداء من قبل الله تعالى: إني قد أمضيت فريضتي، أي أنفذت فريضتي بخمس صلوات، وخففت عن عبادي من خمسين إلى خمس، وأجزي الحسنة عشرا، فيحصل ثواب خمسين صلاة لكل صلاة ثواب عشر صلوات.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كيف جازت هذه المراجعة في باب الصلاة من رسولنا محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام. (قلت): لأنهما عرفا أن الأمر الأول غير واجب قطعا، ولو كان واجبا قطعا لا يقبل التخفيف.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز النسخ قبل وقوعه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية