الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3036 18 - حدثنا الحسن بن الربيع، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال عبد الله: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " ثم يبعث الله ملكا"؛ لأن في الحديث ذكر الملك، وفي الترجمة ذكر الملائكة، والملائكة أنواع لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وساداتهم الأكابر أربعة: جبريل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل، ومنهم الروح؛ قال الله تعالى: يوم يقوم الروح ومنهم الحفظة. ومنهم الملائكة الموكلون بالقطر والنبات والرياح والسحاب.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 130 ] ومنهم ملائكة القبور، ومنهم سياحون في الأرض يبتغون مجالس الذكر، ومنهم كروبيون وروحانيون وحافون ومقربون، ومنهم ملائكة تقذف الشياطين بالشهاب، ومنهم حملة العرش، ومنهم موكلون بصخرة بيت المقدس، ومنهم موكلون بالمدينة، ومنهم موكلون بتصوير النطف، ومنهم ملائكة يبلغون السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمته، ومنهم من يشهد الحروب مع المجاهدين، ومنهم خزان أبواب السماء، ومنهم الموكلون بالنار، ومنهم ملائكة يسمون الزبانية، ومنهم من يغرسون أشجار الجنة، ومنهم من يصوغون حلي أهل الجنة، ومنهم خدم أهل الجنة، ومنهم من نصفه ثلج ونصفه نار، وقد ذكر البخاري في أحاديث الباب منهم جماعة كما ترجم.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول: الحسن بن الربيع، ضد الخريف، ابن سليمان البجلي الكوفي، يعرف بالبوراني، بضم الباء الموحدة وسكون الواو وبالراء، قال أبو حاتم: كنت أحسب الحسن مكسور العنق لانحنائه حتى قيل: إنه لا ينظر إلى السماء حياء من الله تعالى. الثاني: أبو الأحوص سلام، بالتشديد، ابن سليم الحنفي مولى بني حنيفة الكوفي. الثالث: سليمان الأعمش. الرابع: زيد بن وهب أبو سليمان الهمداني الكوفي خرج إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الطريق. الخامس عبد الله بن مسعود، وهؤلاء كلهم كوفيون.

                                                                                                                                                                                  وقيل: هذا الحديث رواه جماعة منهم سفيان بن عيينة عن الأعمش إلى قوله: " شقي أو سعيد" كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما بعده كلام ابن مسعود، وقد رواه عبد الرحمن بن حميد الرواسي، عن الأعمش فاقتصر من المتن على المرفوع فحسب، ورواه بطوله سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، ففصل كلام ابن مسعود من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد ذكر الشقاوة والسعادة: قال عبد الله: والذي نفسي بيده، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة.. الحديث.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلى آخره نحوه، غير أن بعد قوله: " وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. انتهى. والحديث رواه البخاري أيضا في القدر عن أبي الوليد، وفي التوحيد عن آدم. وأخرجه مسلم في القدر، عن ابن أبي شيبة، وعن محمد بن عبد الله بن نمير، وعن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، وعن أبي سعيد الأشج، وعن عبد الله بن معاذ. وأخرجه أبو داود، عن حفص بن عمرو ومحمد بن كثير. وأخرجه الترمذي في القدر، عن هناد، وعن محمد بن بشار، وعن علي بن حجر. وأخرجه ابن ماجه في السنة عن علي بن محمد، عن وكيع ومحمد بن فضيل وأبي معاوية، وعن علي بن ميمون، وأنكر عمرو بن عبيد هذا الحديث، وكان من زهاد القدرية، ولا اعتبار لإنكاره.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: " وهو الصادق المصدوق"؛ أي: الصادق في قوله وفيما يأتيه من الوحي، والمصدوق أن الله تعالى صدقه في وعده.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: المصدوق؛ أي: من جهة جبريل عليه الصلاة والسلام، أو المصدق يعني: بتشديد الدال المفتوحة، وقال الطيبي: الأولى أن تجعل هذه الجملة اعتراضية لا حالية، فتعم الأحوال كلها، وأن يكون من عاداته ودأبه ذلك، فما أحسن موقعه هنا! قوله: " يجمع" على صيغة المجهول، قالوا: معنى الجمع أن النطفة إذا وقعت في الرحم، وأراد الله أن يخلق منها بشرا، طارت في أطراف المرأة تحت كل شعرة وظفر، فتمكث أربعين ليلة، ثم تنزل دما في الرحم، فذلك جمعها. قوله: " أربعين يوما" هذه الأربعون الأولى النطفة فيها تجري في أطراف المرأة، ثم تصير دما. قوله: " ثم تكون علقة" وهو الدم الغليظ الجامد، وهذا في الأربعين الثاني، أشار إليه بقوله: "مثل ذلك"؛ أي: مثل الأول أربعين يوما. قوله: " ثم تكون مضغة" وهي قطعة من اللحم قدر ما يمضغ، وهذا في الأربعين الثالث، أشار إليه بقوله: "مثل ذلك"، يعني مثل الثاني أربعين يوما.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): إن الله قادر على أن يخلقه في لمحة، فما الحكمة في هذا المقدار. (قلت): فيه حكم وفوائد; منها: أنه لو خلقه دفعة واحدة لشق على الأم; لأنها لم تكن معتادة بذلك، وربما تهلك، فجعل أولا نطفة لتعتاد بها مدة، ثم تكون علقة، وهلم جرا إلى الولادة. ومنها: إظهار قدرة الله تعالى ونعمته؛ ليعبدوه ويشكروا له حيث قلبهم في تلك الأطوار إلى كونهم إنسانا حسن الصورة متحليا بالعقل والشهامة [ ص: 131 ] مزينا بالفهم والفطانة. ومنها: إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر والنشر; لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين، ثم من علقة ومضغة مهيأة لنفخ الروح فيه، يقدر على صيرورته ترابا ونفخ الروح فيه وحشره في المحشر للحساب والجزاء. قوله: " ثم يبعث الله ملكا"؛ أي: بعد انتهاء الأربعين الثالثة يبعث الله ملكا، فيؤمر بأربع كلمات يكتبها وهي قوله: ويقال له: أي للملك المرسل: اكتب عمله ورزقه وأجله، وشقي أو سعيد، وكل ذلك بما اقتضت حكمته وسبقت كلمته. قوله: " وشقي أو سعيد" كان من حق الظاهر أن يقال: يكتب سعادته وشقاوته، فعدل حكاية لصورة ما يكتبه; لأنه يكتب شقي أو سعيد. قوله: " ثم ينفخ فيه الروح"؛ أي: بعد كتابة الملك هذه الأربعة ينفخ فيه الروح.

                                                                                                                                                                                  وفي صحيح مسلم: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات.. الحديث. فهذا يدل على أن كتب هذه الأربعة بعد نفخ الروح، ولفظ البخاري يدل على أن ذلك قبل نفخ الروح؛ لأن في لفظه "ثم ينفخ فيه الروح"، وكلمة "ثم" تقتضي تأخير كتب الملك هذه الأمور إلى ما بعد الأربعين الثالثة. وقال النووي: والأحاديث الباقية تقتضي الكتب عقيب الأربعين الأولى، ثم أجاب عن ذلك بقوله: إن قوله "ثم يبعث إليه الملك فيؤذن له فيكتب"، معطوف على قوله: " يجمع في بطن أمه" ومتعلقاته لا بما قبله وهو قوله: " ثم يكون مضغة مثله، ويكون قوله: "ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله" معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائز موجود في القرآن والحديث الصحيح، وفي كلام العرب، وقال القاضي وغيره: والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء أمره بها، والتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، يا رب هذه علقة، وقال القاضي: وقوله في الحديث الذي روي عن أنس: وإذا أراد أن يخلق خلقا قال: يا رب، أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، لا يخالف ما قدمناه، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة، بل هو ابتداء كلام، وإخبار عن حالة أخرى، فأخبر أولا بحال الملك مع النطفة، ثم أخبر أن الله تعالى إذا أراد أن يخلق النطفة علقة كان كذا وكذا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): في رواية: "يرسل الملك بعد مائة وعشرين يوما"، وفي رواية: "ثم يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة"، فيقول: يا رب أشقي أم سعيد، وفي رواية: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها. وفي رواية حذيفة بن أسيد أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك. وفي رواية: أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا يأذن له لبضع وأربعين ليلة، وذكر الحديث.

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أنس رضي الله تعالى عنه أن الله قد وكل بالرحم ملكا، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فما الجمع بين هذه الروايات؟ (قلت): للملك مراعاة لحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة في أوقاتها، وكل وقت يقول فيه ما صارت إليه، ولتصرفه وكلامه أوقات.

                                                                                                                                                                                  أحدها: حين يخلقها الله نطفة، ثم ينقلها علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد ; لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا، وذلك عقيب الأربعين الأولى، فحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، ثم للملك تصرف آخر في وقت آخر، وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه، وكونه ذكرا أو أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء مدة هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه; لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): روي إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، وذكر رزقه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): ليس هذا على ظاهره، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصورها وخلق سمعها.. إلى آخره، أنه يكتب ذلك، ثم يفعله في وقت آخر; لأن التصوير عقيب الأربعين الأولى غير موجود في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة كما قال الله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله: لحما ثم يكون للملك فيه تصرف آخر، وهو وقت نفخ الروح عقيب الأربعين الثالثة، حتى يكمل له أربعة أشهر.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حتى ما يكون" (حتى) هي الناصبة، و(ما) نافية، ولفظة (يكون) منصوب بـ(حتى) و(ما) غير كافة لها من العمل. قوله: " إلا ذراع"؛ المراد بالذراع: التمثيل والقرب إلى الدخول أي ما يبقى بينه [ ص: 132 ] وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين موضع من الأرض ذراع. قوله: " فيسبق عليه"؛ الفاء للتعقيب تدل على حصول السبق بلا مهلة، ضمن يسبق معنى يغلب، أي: يغلب عليه الكتاب، وما قدر عليه سبقا بلا مهلة، فعند ذلك يعمل بعمل أهل الجنة أو أهل النار.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فيعمل بعمل أهل النار" وفيه حذف تقديره: فيدخلها، وكذلك بعد قوله: " بعمل أهل الجنة فيدخلها"، وقال الخطابي: فيه أن ظاهر الأعمال من الحسنات والسيئات أمارات، وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى القدر، وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي الدرداء مرفوعا: فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من رزقه، وأجله، وعمله، وأثره، ومضجعه، يعني: قبره، فإنه مضجعه على الدوام وما تدري نفس بأي أرض تموت




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية