الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3162 14 - حدثني إسحاق بن نصر ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبو حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوة ، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه ، فنهس منها نهسة ، وقال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، هل تدرون بمن يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي ، وتدنو منهم الشمس فيقول بعض الناس : ألا ترون إلى ما أنتم فيه إلى ما بلغكم ، ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس : أبوكم آدم فيأتونه فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول : ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، أما ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ فيقول : ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله نفسي نفسي ، ائتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأتوني ، فأسجد تحت العرش فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . قال محمد بن عبيد : لا أحفظ سائره .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وإسحاق بن نصر هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السعدي البخاري ، وكان ينزل بالمدينة بباب سعد ، فالبخاري تارة يقول : حدثنا إسحاق بن نصر ، فينسبه إلى جده ، وتارة يقول : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن نصر ، فينسبه إلى أبيه ، وهو من أفراده ، ومحمد بن عبيد الطنافسي الحنفي الإيادي الأحدب الكوفي ، وأبو حيان بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف يحيى بن سعيد بن حيان التيمي ، وأبو زرعة بضم الزاي وسكون الراء وبالعين المهملة ، واسمه هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير ، عن محمد بن مقاتل ، وهنا عن إسحاق بن نصر ، عن أبي أسامة ، وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير ، وأخرجه الترمذي في الزهد ، عن سويد بن نصر ، وفي الأطعمة عن واصل بن عبد الأعلى ، وأخرجه النسائي في الوليمة عن واصل بن عبد الأعلى مختصرا ، وفي التفسير بطوله عن يعقوب بن إبراهيم ، وأخرجه ابن ماجه في الأطعمة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن علي بن محمد .

                                                                                                                                                                                  قوله : " في دعوة " بفتح الدال : أي في ضيافة ، وبكسرها في النسب وبضمها في الحرب ، قوله : " فرفع إليه الذراع " ، قال ابن التين : والصواب رفعت ، وكذا في الأصول رفعت إلا أنه جاء في المؤنث الذي لا فرج له أنه يجوز تذكيره ، والذراع مؤنثة ، ولذلك قال : وكانت تعجبه قال : وهذا على ما في بعض النسخ بضم الذراع ، وأما بنصبها فبين ، ويكون رسول الله هو رافعها ، قوله : " تعجبه " : أي كانت الذراع تعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إعجابه لها ومحبته لها لنضجها ، وسرعة استمرائها ، مع زيادة لذتها وحلاوة مذاقها ، وبعدها عن مواضع الأذى ، قوله : " فنهس " أكثر الرواة على إهمالها ، وفي رواية ابن ماهان ، وأبي ذر بالإعجام ، وكلاهما صحيح ، فالنهس بالمهملة الأخذ [ ص: 221 ] بأطراف الأسنان ، وبالمعجمة الأخذ بالأضراس ، وقال القزاز : النهس أخذ اللحم بالأسنان بالفم ، وقيل : هو القبض على اللحم ونثره عند أكله ، وقال الأصمعي : هما واحد وهو أخذ اللحم بالفم ، وخالفه أبو زيد ، فذكر ما ذكرناه ، قوله : " أنا سيد القوم يوم القيامة " : أي الذي يفوق قومه ، ويفزع إليه في الشدائد ، وخص يوم القيامة لارتفاع سؤدده ، وتسليم جميعهم له ، ولكون آدم وجميع ولده تحت لوائه ، ذكره عياض .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : وتقييد سيادته بيوم القيامة لا ينافي السيادة في الدنيا ، وإنما خصه به ; لأن هذه القصة قصة يوم القيامة ، قلت : إذا كان هو سيدا يوم القيامة ، وهو أعظم من الدنيا فبالأولى أن يكون سيدا في الدنيا أيضا .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تخيروا بين الأنبياء ، وقال : لا تفضلوني على يونس عليه الصلاة والسلام " قلت : أجيب كان هذا قبل إعلامه بسيادة ولد آدم ، والفضائل لا تنسخ إجماعا ، فبقيت القبلية أو الذي قال في يونس من باب التواضع ، وقد قيل : إن المنع في ذات النبوة والرسالة ، فإن الأنبياء فيها على حد واحد إذ هي شيء واحد لا تتفاضل ، وإنما التفاضل في زيادة الأحوال والكرامات والرتب والألطاف ، قوله : " في صعيد واحد " : أي أرض واسعة مستوية ، قوله : " فيبصرهم الناظر " : أي يحيط بهم بصر الناظر ، لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض وعدم الحجاب .

                                                                                                                                                                                  ويروى : " فينفذهم البصر " بفتح الياء وبالذال المعجمة على الأكثرين ، ويروى بضم الياء ، وقال أبو عبيد : معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم ، قلت : هو كناية عن استيعابهم بالعلم ، والله لا يخفى عليه شيء ، والصواب قول من قال : " فيبصرهم الناظر من الخلق " .

                                                                                                                                                                                  وعن أبي حاتم إنما هو بدال مهملة : أي يبلغ أولهم وآخرهم ، وقال ابن الأثير : والصحيح فتح الياء مع الإعجام ، قوله : " ويسمعهم " بضم الياء من الإسماع ، قوله : " إلى ما بلغكم " بدل من قوله : " إلى ما أنتم فيه " ، قوله : " ألا تنظرون " كلمة ألا في الموضعين للعرض والتحضيض ، وهي بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، قوله : " من روحه " الإضافة إلى الله لتعظيم المضاف وتشريفه كقولهم عبد الخليفة كذا . قوله : " وما بلغنا " بفتح الغين المعجمة هو الصحيح ; لأنه تقدم ما بلغكم ، ولو كان بسكون الغين لقال بلغهم ، وقيل : بالسكون وله وجه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ربي غضب " المراد من الغضب لازمه ، وهو إرادة إيصال العذاب ، وقال النووي : المراد من غضب الله ما يظهر من انتقامه فيمن عصاه وما يشاهده أهل الجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها ، ولا شك أنه لم يقع قبل ذلك اليوم مثله ولا يكون بعده مثله .

                                                                                                                                                                                  قوله : " نفسي نفسي " : أي نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها إذ المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد بعض لوازمه أو قوله : " نفسي " مبتدأ والخبر محذوف ، قوله : " اذهبوا إلى نوح " بيان لقوله اذهبوا إلى غيري ، قوله : " أنت أول الرسل " إنما قالوا له ذلك ; لأنه آدم الثاني ، أو لأنه أول رسول هلك قومه ، أو لأن آدم ونحوه خرج بقوله إلى أهل الأرض ; لأنها لم تكن لها أهل حينئذ ، أو لأن رسالته كانت بمنزلة التربية للأولاد .

                                                                                                                                                                                  وفي التوضيح قولهم : أنت أول الرسل إلى أهل الأرض هو الصحيح ، قاله الداودي ، وروي أن آدم عليه السلام نبي عليه السلام مرسل ، وروي في ذلك حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : هو نبي وليس برسول ، وقيل : رسول وليس نبيا ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : آدم ليس برسول ، نقله عنه الكرماني ، ( قلت ) : الصحيح أنه نبي ورسول ، وقد نزل عليه جبريل ، وأنزل عليه صحفا ، وعلم أولاده الشرائع ، وقول ابن بطال غير صحيح ، وأما قول من قال : إنه رسول وليس بنبي فظاهر الفساد ; لأن كل رسول نبي ، ومن لازم الرسالة النبوة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أما ترى " بفتح الهمزة وتخفيف الميم ، وهي حرف استفتاح بمنزلة ألا وكلمة ألا بعدها للعرض والتحضيض ، قوله : " ائتوا النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - " هو نبينا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - بين ذلك بقوله : فيأتوني ، أصله فيأتونني ، وحذف نون الجمع بلا جازم ولا ناصب لغة ، قوله : " تشفع " على صيغة المجهول من التشفيع وهو قبول الشفاعة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال محمد بن عبيد : لا أحفظ سائره " : أي سائر الحديث : أي باقيه ; لأنه مطول ، علم من سائر الروايات ، وقد بينها غيره وحفظه حتى قال ابن التين : وقول نوح : " ائتوا النبي " وهم ، إنما دلهم على إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإبراهيم دلهم على موسى عليه الصلاة والسلام ، وموسى دلهم على عيسى عليه الصلاة والسلام ، وعيسى دلهم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                  وذكر الغزالي رحمه الله أن بين إتيانهم من آدم إلى نوح ألف سنة ، وكذا إلى كل نبي حتى يأتوا نبينا محمدا - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : والرسل يوم القيامة على منابر ، والعلماء العاملون على كراسي ، وهم رؤساء أهل المحشر ، ومن يشفع للناس منهم رؤساء أتباع الرسل ، وأول الشفعاء يوم القيامة نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وآله [ ص: 222 ] وسلم .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) روى أبو الزعراء ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه نبيكم رابع أربعة جبريل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى أو عيسى ، ثم نبيكم ، ( قلت ) : قال البخاري : أبو الزعراء لا يتابع عليه ، والمشهور المعروف أن نبينا محمدا - صلى الله تعالى عليه وسلم - أول شافع .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية