الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  327 1 - ( حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق ، فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي ، قد نام ، فقال : حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فقالت عائشة : فعاتبني أبو بكر ، وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فتيمموا فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه أشار أولا إلى مشروعية التيمم بالكتاب وهو الآية المذكورة ثم بهذا الحديث المذكور .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم خمسة ذكروا غير مرة وعبد الرحمن بن القاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار وكذلك وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول ، وفيه أن رواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في النكاح عن عبد الله بن يوسف ، وفي فضل أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - عن قتيبة ، وفي التفسير وفي المحاربين عن إسماعيل بن أبي أويس ، وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى وأخرجه النسائي فيه ، وفي التفسير عن قتيبة أربعتهم عن مالك به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لغاته ) قوله : " بالبيداء " قال أبو عبيد البكري : البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة ثم قال : هو السرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة ، وقال الكرماني : البيداء بفتح الموحدة وبالمد وذات الجيش بفتح الجيم وسكون التحتانية وبإعجام السين موضعان بين المدينة ومكة ، وكلمة " أو " للشك من عائشة - رضي الله تعالى عنها - ، قوله : " عقد لي " بكسر العين وسكون القاف وهو القلادة وهو كل ما يعقد ويعلق في العنق ، وذكر السفاقسي أن ثمنه كان يسيرا ، وقيل : كان ثمنه اثنا عشر درهما ، قوله : " يطعنني " [ ص: 4 ] بضم العين وكذلك جميع ما هو حسي ، وأما المعنوي فيقال : يطعن بالفتح هذا هو المشهور فيهما ، وحكي الفتح فيهما معا كذا في المطالع ، وحكى صاحب الجامع الضم فيهما ، قوله : " في خاصرتي " وهي الشاكلة ، قوله : " بركتكم " البركة كثرة الخير .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يا آل أبي بكر " لفظ آل مقحمة ، وأراد به أبا بكر نفسه ، ويجوز أن يراد به أبا بكر وأهله وأتباعه ، والآل يستعمل في الأشراف بخلاف الأهل ، ولا يرد أدخلوا آل فرعون لأنه بحسب تصوره ذكر ذلك أو بطريق التهكم ، ويجوز فيه يا ل أبي بكر بحذف الهمزة للتخفيف . ( ذكر معانيه ) قوله : " في بعض أسفاره " قال ابن عبد البر في التمهيد يقال : إنه كان في غزوة بني المصطلق ، وجزم بذلك في كتاب الاستذكار ، وورد ذلك عن ابن سعد وابن حبان قبله وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الإفك ، قال أبو عبيد البكري في حديث الإفك : " فانقطع عقد لها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاؤه " ، وقال ابن سعد : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المريسيع يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان سنة خمس " ورجحه أبو عبد الله في الإكليل ، وقال البخاري عن ابن إسحاق : سنة ست ، وقال عن موسى بن عقبة : سنة أربع وزعم ابن الجوزي أن ابن حبيب قال : سقط عقدها في السنة الرابعة في غزوة ذات الرقاع ، وفي غزوة بني المصطلق قصة الإفك .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : يعارض هذا ما رواه الطبراني أن الإفك قبل التيمم ، فقال : حدثنا القاسم عن حماد حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل وإبراهيم بن المختار عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت : " لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه وطلع الفجر فلقيت من أبي بكر ما شاء الله وقال : يا بنية ، في كل سفر تكونين عناء وبلاء ليس مع الناس ماء ، فأنزل الله الرخصة في التيمم ، فقال أبو بكر : إنك ما عملت لمباركة " ( قلت ) : إسناده جيد حسن ، وادعى بعضهم تعدد السفر برواية الطبراني هذه ثم إن بعض المتأخرين استبعد سقوط العقد في المريسيع ، قال : لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل ، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث : " حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش " وهما بين المدينة وخيبر كما جزم به النووي ويرد هذا ما ذكرناه عن أبي عبيد في فصل اللعان وجزم أيضا ابن التين أن البيداء هي ذو الحليفة ، وقال أبو عبيد أيضا : إن ذات الجيش من المدينة على بريد قال : وبينها وبين العقيق سبعة أميال ، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر ويؤيد هذا أيضا ما رواه الحميدي في مسنده عن سفيان ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث فقال فيه : إن القلادة سقطت ليلة الأبواء . انتهى ، والأبواء بين مكة والمدينة ، وفي رواية علي بن مسهر في هذا الحديث عن هشام قال : وكان ذلك المكان يقول له الصلصل رواه جعفر الفريابي في كتاب الطهارة له وابن عبد البر من طريقه ، والصلصل بصادين مهملتين ولامين أولاهما ساكنة قال البكري : هو جبل عند ذي الحليفة ، وذكره في حرف الصاد المهملة ، ووهم فيه صاحب التلويح مغلطاي ، فزعم أنه بالضاد المعجمة وتبعه على ذلك صاحب التوضيح ابن الملقن وقال صاحب العباب : الصلصل موضع على طريق المدينة وصلصل ماء قريب من اليمامة لبني العجلان وصلصل ماء في جوف هضبة جراء ودارة صلصل لبني عمرو بن كلاب وهي بأعلى دارها ذكر ذلك كله في الصاد المهملة وقال في المعجمة الضلضلة موضع .

                                                                                                                                                                                  قوله : " على التماسه " أي : لأجل طلبه قوله : " وليس معهم ماء " كذا في رواية الأكثرين في الموضعين ، وسقطت الجملة الثانية في الموضع الأول في رواية أبي ذر قوله : " ما صنعت عائشة " أي : من إقامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس أسندوا الفعل إليها لأنه كان بسببها قولها " فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول " وفي رواية عمرو بن الحارث " فقال : حبست الناس في قلادة " أي : لأجلها ( فإن قلت ) لم تقل عائشة أبي ، بل سمته باسمه ( قلت ) مقام الأبوة لما كان يقتضي الحنو والشفقة وعاتبها أبو بكر صار مغايرا لذلك فلذلك أنزلته بمنزلة الأجنبي فلم تقل أبي ، قوله : " فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح " وفي رواية " فنام حتى أصبح " والمعنى فيهما متقارب ؛ لأن كلا منهما يدل على أن قيامه من نومه كان عند الصبح ويقال ليس المراد بقوله : " حتى أصبح " بيان غاية النوم إلى الصباح ، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح لأنه قيد قوله " حتى أصبح " بقوله : " على غير ماء " أي : آل أمره إلى الصبح على غير ماء ( قلت ) قوله : على غير ماء متعلق بقام وأصبح على طريقة تنازع العاملين وأصبح بمعنى دخل في الصباح وهي تامة فلا تحتاج إلى خبر ، قوله : " فأنزل الله آية التيمم " قال ابن [ ص: 5 ] العربي : هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء ؛ لأنا لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة - رضي الله تعالى عنها - وقال ابن بطال : هي آية النساء وآية المائدة ، وقال القرطبي : هي آية النساء ؛ لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء ، وليس في آية النساء ذكر الوضوء ، وأورد الواحدي في أسباب النزول هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا ، وقال السفاقسي كلاما طويلا ملخصه أن الوضوء كان لازما لهم وآية التيمم ، أما المائدة أو النساء وهما مدنيتان ولم يكن صلاة قبل إلا بوضوء ، فلما نزلت آية التيمم لم يذكر الوضوء لكونه متقدما متلوا لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء وقيل : يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية وهو فرض الوضوء ، ثم نزلت عند هذه الواقعة آية التيمم ، وهو تمام الآية وهو وإن كنتم مرضى ويحتمل أن يكون الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن ثم أنزلا معا فعبرته عائشة بالتيمم إذ كان هو المقصود .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : لو وقف هؤلاء على ما ذكره أبو بكر الحميدي في جمعه في حديث عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - فذكر الحديث ، وفيه فنزلت : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الآية . إلى قوله : لعلكم تشكرون لما احتاجوا إلى هذا التخرص ، وكأن البخاري أشار إلى هذا إذ تلا بقية هذه الآية الكريمة ، قوله : فتيمموا صيغة الماضي ؛ أي : فتيمم الناس بعد نزول الآية وهي قوله : فلم تجدوا ماء والظاهر أنه صيغة الأمر على ما هو لفظ القرآن ذكره بيانا أو بدلا عن آية التيمم أي : أنزل الله تعالى : فتيمموا قوله : " فقال أسيد بن الحضير " بضم الهمزة مصغر أسد والحضير بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالراء ، قال الكرماني : وفي بعضها بالنون قال : وفي بعضها الحضير بالألف واللام ، وهو نحو الحارث من الأعلام التي تدخلها لام التعريف جوازا ( قلت ) إنما يدخلونها للمح الوصفية ، وأسيد بن حضير بن شمال الأوسي الأنصاري الأشهلي أبو يحيى أحد النقباء ليلة العقبة الثانية مات بالمدينة سنة عشرين ، وحمل عمر - رضي الله عنه - جنازته مع من حملها وصلى عليه ودفن بالبقيع ( فإن قلت ) في رواية عبد الله بن نمير عن هشام : " فبعث رجلا فوجدها " وفي رواية مالك : " فبعثنا البعير فأصبنا العقد " وبينهما تضاد ( قلت ) قال المهلب : ليس بينهما تناقض لأنه يحتمل أن يكون المبعوث هو أسيد بن حضير فوجدها بعد رجوعه من طلبها ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدها عند إثارة البعير بعد انصراف المبعوثين إليها فلا يكون بينهما تعارض انتهى ، ( قلت ) : هما واقعتان كما أشرنا إليه في الرواية الأولى " عقد " ، وفي الأخرى " قلادة " فلا تعارض حينئذ ويحتمل أن يكون قوله : بعث رجلا ؛ يعني أميرا على جماعة كعادته ، فعبر بعض الرواة بأناس يعني أسيدا وأصحابه ، وبعضهم ب : رجلا يعني المشار إليه أو يكون قولها فوجده تعني بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لا الرجل المبعوث ( فإن قلت ) ما معنى قول أسيد ما قاله دون غيره ( قلت ) لأنه كان رأس المبعوثين في طلب العقد الذي ضاع . قوله : " ما هي بأول بركتكم " أي : ليس هذه البركة أول بركتكم بل هي مسبوقة بغيرها من البركات ، والقرينة الحالية والمقالية تدلان على أن قوله " هي " يرجع إلى البركة وإن لم يمض ذكرها ، وفي رواية عمرو بن الحارث " لقد بارك الله للناس فيكم " وفي تفسير إسحاق البستي من طريق ابن أبي مليكة عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ما كان أعظم بركة قلادتك " وفي رواية هشام بن عروة الآتية في الباب الذي يليه " فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين خيرا " وفي النكاح من هذا الوجه " إلا جعل الله لك منه مخرجا ، وجعل للمسلمين فيه بركة " ، وهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك فيقوي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد ، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأنصاري فقال : " سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق " ، وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أول ، فقال الداودي : كانت قصة التيمم في غزوة الفتح ، ثم تردد في ذلك ، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع . . . الحديث فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها بلا خلاف ، وسيأتي في المغازي - إن شاء الله تعالى - أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - وتقدم ذكره عن قريب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فبعثنا البعير أي : أثرنا البعير الذي كنت عليه حالة [ ص: 6 ] السير . قوله : " فأصبنا " أي : وجدنا ، وهذا يدل على أن الذين توجهوا في طلبه أولا لم يجدوه ( فإن قلت ) وفي رواية عروة في الباب الذي يليه " فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا فوجدها " أي القلادة .

                                                                                                                                                                                  وللبخاري في فضل عائشة من هذا الوجه وكذا لمسلم : " فبعث ناسا من الصحابة في طلبها " وفي رواية أبي داود : " فبعث أسيد بن حضير وناسا معه " ، ( قلت ) : الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك كما ذكرنا ، فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره ، وكذا أسند الفعل إلى واحد منهم وهو المراد به ، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا فلما رجعوا ونزلت آية التيمم وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد بن حضير فعلى هذا فقوله في رواية عروة الآتية فوجدها ؛ أي : بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره ، وقال النووي : يحتمل أن يكون فاعل وجدها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بالغ الداودي في توهيم رواية عروة ، ونقل عن إسماعيل القاضي أنه حمل الوهم فيها على عبد الله بن نمير وقد بان بذلك أن لا تخالف بين الروايتين ولا وهم ، ( فإن قلت ) في رواية عمرو بن الحارث : " سقطت قلادة لي " وفي رواية عروة الآتية عنها أنها استعارت قلادة من أسماء - يعني أختها - فهلكت أي : ضاعت فكيف التوفيق ههنا ؟ ( قلت ) : إضافة القلادة إلى عائشة لكونها في يدها وتصرفها ، وإلى أسماء لكونها ملكها لتصريح عائشة بذلك في رواية عروة المذكورة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه من الأحكام ) الأول : أن بعضهم استدل منه على جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه ، وسلوك الطريق الذي لا ماء فيها ، وفيه نظر ؛ لأن المدينة كانت قريبة منهم وهم على قصد دخولها ، ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بعدم الماء مع الركب وإن كان قد علم بأن المكان لا ماء فيه ، ويحتمل أن يكون معنى قوله : " ليس معهم ماء " أي : للوضوء ، وأما ما يحتاجون إليه للشرب فيحتمل أن يكون كان معهم . الثاني : فيه شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج ، وإنما شكوا إلى أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نائما ، وكانوا لا يوقظونه . كذا قالوا . ( قلت ) يجوز أن تكون شكواهم إلى أبي بكر دون النبي - صلى الله عليه وسلم - خوفا على خاطر النبي - صلى الله عليه وسلم - من تغيره عليها .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه نسبة الفعل إلى من كان سببا فيه لقولهم : ألا ترى إلى ما صنعت يعني عائشة .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه جواز دخول الرجل على ابنته ، وإن كان زوجها عندها إذا علم رضاه بذلك ، ولم يكن حالة المباشرة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه تأديب الرجل ابنته ولو كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته ، ويلتحق بذلك تأديب من له تأديبه وإن لم يأذن له الإمام .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة إذ يحصل به التشويش لنائم ، وكذا المصلي ، أو قارئ ، أو مشتغل بعلم أو ذكر .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه الاستدلال على الرخصة في ترك التهجد في السفر إن ثبت أن التهجد كان واجبا عليه .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه أن طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت لقوله في رواية عمرو بن الحارث بعد قوله " وحضرت الصلاة فالتمس الماء " التاسع : فيه دليل على أن الوضوء كان واجبا عليه قبل نزول آية الوضوء ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء ، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع ، وقال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند ( فإن قلت ) إذا كان الأمر كذلك ما الحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ( قلت ) ليكون فرضه متلوا بالتنزيل ، ويحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديما فعملوا به ثم نزلت بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة ، فإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكل على البعض لكن رواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم في هذا الحديث فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " إلى قوله : " تشكرون " تدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة ، ويقال : كان الوضوء بالسنة لا بالقرآن أولا ، ثم أنزلا معا فعبرت عائشة بالتيمم إذ كان هو المقصود ( فإن قلت ) ذكر الحافظ في كتاب البرهان أن الأسلع الأعرجي الذي كان يرحل للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوما : إني جنب وليس عندي ماء فأنزل الله آية التيمم ، ( قلت ) : هذا ضعيف ، ولئن صح فجوابه يحتمل أن يكون قضية الأسلع واقعة في قضية سقوط العقد لأنه كان يخدم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكان صاحب راحلته فاتفق له هذا الأمر عند وقوع قضية سقوط العقد .

                                                                                                                                                                                  العاشر : فيه دليل على وجوب النية في التيمم لأن معنى تيمموا اقصدوا وهو قول فقهاء الأمصار إلا الأوزاعي وزفر .

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر : فيه دليل على أنه يستوي فيه الصحيح والمريض ، والمحدث والجنب ، ولم يختلف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب ، وقد كان عمر بن [ ص: 7 ] الخطاب وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما - يقولان : الجنب لا يطهره إلا الماء لقوله - عز وجل : وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء للأحاديث الثابتة الواردة في تيمم الجنب .

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر : فيه دليل على جواز التيمم في السفر ، وهذا أمر مجمع عليه واختلفوا في الحضر فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر سواء إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد أو خوف خروج الوقت ، قال أبو عمر : هذا كله قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف ، وبه قال الطبري ، وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف خروج الوقت ، وقال الشافعي أيضا ، والليث ، والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت الصحيح والسقيم يتيمم ويصلي ويعيد . وقال عطاء بن أبي رباح : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض ( قلت ) قوله : وهذا كله قول أبي حنيفة غير صحيح فإن عنده لا يجوز التيمم لأجل خوف فوت الوقت .

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر : فيه جواز السفر بالنساء في الغزوات وغيرها عند الأمن عليهن فإذا كان لواحد نساء فله أن يسافر مع أيتهن شاء ، ويستحب أن يقرع بينهن فمن خرجت قرعتها أخرجها معه ، وعند مالك والشافعي وأحمد القرعة واجبة .

                                                                                                                                                                                  الرابع عشر : فيه دليل على حرمة الأموال الحلال ولا يضيعها وإن قلت ؛ ألا ترى أن العقد كان ثمنه اثني عشر درهما كما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                  الخامس عشر : فيه جواز حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت .

                                                                                                                                                                                  السادس عشر : فيه جواز الاستعارة وجواز السفر بالعارية عند إذن صاحبها .

                                                                                                                                                                                  السابع عشر : فيه جواز اتخاذ النساء الحلي ، واستعمال القلادة تجملا لأزواجهن .

                                                                                                                                                                                  الثامن عشر : فيه جواز وضع الرجل رأسه على فخذ امرأته .

                                                                                                                                                                                  التاسع عشر : فيه جواز احتمال المشقة لأجل المصلحة لقول عائشة - رضي الله عنها - فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على فخذي .

                                                                                                                                                                                  العشرون : فيه دليل على فضيلة عائشة - رضي الله تعالى عنهما - وتكرر البركة منهما .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية