الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5 4 - حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه قال: جمعه له في صدرك وتقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال: فاستمع له [ ص: 70 ] وأنصت ثم إن علينا بيانه ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  المناسبة بين الحديثين ظاهرة لأن المذكور فيما مضى هو ذات بعض القرآن، وهاهنا التعرض إلى بيان كيفية التلقين والتلقن، وقدم ذلك لأن الصفات تابعة للذوات.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف نسبة إلى منقر بن عبيد بن مقاعس البصري الحافظ الكبير المكثر الثبت الثقة التبوذكي بفتح التاء المثناة من فوق وضم الباء الموحدة ثم واو ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة، نسبة إلى تبوذك، نسب إليه لأنه نزل دار قوم من أهل تبوذك، قاله ابن أبي خيثمة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حاتم: لأنه اشترى دارا بتبوذك، وقال السمعاني: نسبة إلى بيع السماد بفتح السين المهملة وهو السرجين يوضع في الأرض ليجود نباته، وقال ابن ناصر: نسبة إلى بيع ما في بطون الدجاج من الكبد والقلب والقانصة، توفي في رجب سنة ثلاث وعشرين ومائتين بالبصرة، روى عنه يحيى بن معين والبخاري وأبو داود وغيرهم من الأعلام، وروى له مسلم والترمذي عن رجل عنه، والذي رواه مسلم حديث واحد حديث أم زرع، رواه عن الحسن الحلواني عنه، قال الداودي: كتبنا عنه خمسة وثلاثين ألف حديث.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو عوانة بفتح العين المهملة والنون، واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري بضم الكاف، ويقال: الكندي الواسطي مولى يزيد بن عطاء البزار الواسطي، وقيل: مولى عطاء بن عبد الله الواسطي، كان من سبي جرجان، رأى الحسن وابن سيرين وسمع من محمد بن المنكدر حديثا واحدا، وسمع خلقا بعدهم من التابعين وأتباعهم، وروى عنه الأعلام، منهم: شعبة، ووكيع، وابن مهدي.

                                                                                                                                                                                  قال عفان: كان صحيح الكتاب ثبتا، وقال ابن أبي حاتم: كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه غلط كثيرا وهو صدوق، مات سنة ست وسبعين ومائة، وقيل: سنة خمس وسبعين.

                                                                                                                                                                                  الثالث: موسى بن أبي عائشة أبو الحسن الكوفي الهمداني بالميم الساكنة والدال المهملة، مولى آل جعدة بفتح الجيم ابن أبي هبيرة بضم الهاء، روى عن كثير من التابعين، وعنه الأعلام: الثوري وغيره، ووثقه السفيانان، ويحيى، والبخاري، وابن حبان، وأبو عائشة لا يعرف اسمه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: سعيد بن جبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف ابن هشام الكوفي الأسدي الوالبي بكسر اللام وبالباء الموحدة، منسوب إلى بني والبة بالولاء، ووالبة هو ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بدالين مهملتين وضم الأولى، ابن أسد بن خزيمة، إمام مجمع عليه بالجلالة والعلو في العلم والعظم في العبادة، قتله الحجاج صبرا في شعبان سنة خمس وتسعين، ولم يعش الحجاج بعده إلا أياما ولم يقتل أحدا بعده، سمع خلقا من الصحابة منهم العبادلة غير عبد الله بن عمرو، وعنه خلق من التابعين منهم الزهري، وكان يقال له: جهبذ العلماء.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث أخت ميمونة أم المؤمنين، كان يقال له الحبر والبحر لكثرة علمه وترجمان القرآن، وهو واحد الخلفاء وأحد العبادلة الأربعة، وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص.

                                                                                                                                                                                  وقول الجوهري في الصحاح بدل ابن العاص ابن مسعود مردود عليه لأنه منابذ لما قال أعلام المحدثين كالإمام أحمد وغيره، وقال أحمد: ستة من الصحابة أكثروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمرو، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأنس رضي الله تعالى عنهم، وأبو هريرة أكثرهم حديثا.

                                                                                                                                                                                  روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة وستين حديثا، اتفقا منها على خمسة وتسعين حديثا، وانفرد البخاري بمائة وعشرين ومسلم بتسعة وأربعين، ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقال أحمد: خمس عشرة سنة، والأول هو المشهور، مات بالطائف سنة ثمان وستين وهو ابن إحدى وسبعين سنة على الصحيح في أيام ابن الزبير، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وقد عمي في آخر عمره رضي الله تعالى عنه

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أنه كله على شرط الستة، ومنها أن رواته ما بين مكي وكوفي وبصري ووسطي ومنها [ ص: 71 ] أنهم كلهم من الأفراد لا أعلم من شاركهم في اسمهم مع اسم أبيهم، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي، وهما: موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هنا عن موسى بن إسماعيل وأبي عوانة، وفي التفسير وفضائل القرآن: عن قتيبة، عن جرير، كلهم عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم، وقتيبة. وغيرهما عن جرير وعن قتيبة عن أبي عوانة، كلاهما عن موسى بن أبي عائشة به، ولمسلم: فإذا ذهب قرأه كما وعد الله، وللبخاري في التفسير، ووصف سفيان يريد أن يحفظه، وفي أخرى: يخشى أن ينفلت منه، ولمسلم في الصلاة لتعجل به أخذه إن علينا جمعه وقرآنه إن علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه فتقرأه، فإذا أقرأناه فاتبع قرآنه، قال: أنزلناه فاستمع له، إن علينا أن نبينه بلسانك. رواه الترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن موسى، عن سعيد، عن ابن عباس ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه، فأنزل الله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به قال: فكان يحرك به شفتيه، وحرك سفيان شفتيه ، ثم قال: حديث حسن صحيح.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات) قوله " يعالج " أي يحاول من تنزيل القرآن عليه شدة، ومنه ما جاء في حديث آخر ولي حره وعلاجه أي عمله وتعبه، ومنه قوله " من كسبه وعلاجه " أي من محاولته وملاطفته في اكتسابه، ومنه معالجة المريض وهي ملاطفته بالدواء حتى يقبل عليه، والمعالجة الملاطفة في المراودة بالقول والفعل، ويقال: محاولة الشيء بمشقة.

                                                                                                                                                                                  قوله " فأنزل الله تعالى: لا تحرك به " أي بالقرآن، وقال الزمخشري رحمه الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه، والمعنى: لا تحرك به لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل عليه السلام يقرأ لتعجل به لتأخذ به على عجلة ولئلا يتفلت منه، ثم علل النهي عن العجلة بقوله إن علينا جمعه في صدرك وإثبات قراءته في لسانك، قال الزمخشري: فإذا قرأناه جعل قراءة جبريل قراءته والقرآن القراءة فاتبع قرآنه فكن معقبا له فيه ولا تراسله وطأ من نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ فنحن في ضمان تحفيظه ثم إن علينا بيانه إذا أشكل عليك شيء من معانيه كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه قوله " قال " أي ابن عباس في تفسير، " جمعه " أي جمع الله لك في صدرك، وقال في تفسير " وقرآنه " أي تقرأه يعني المراد بالقرآن القراءة لا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، أي أنه مصدر لا علم للكتاب، قوله " فاستمع " هو تفسير فاتبع يعني قراءتك لا تكون مع قراءته بل تابعة لها متأخرة عنها، فتكون أنت في حال قراءته ساكتا، والفرق بين السماع والاستماع أنه لا بد في باب الافتعال من التصرف والسعي في ذلك الفعل، ولهذا ورد في القرآن: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت بلفظ الاكتساب في الشر لأنه لا بد فيه من السعي بخلاف الخير، فالمستمع هو المصغي القاصد للسماع.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني عقيب هذا الكلام: وقال الفقهاء: تسن سجدة التلاوة للمستمع لا للسامع، قلت: هذا لا يمشي على مذهب الحنفية فإن قصد السماع ليس بشرط في وجوب السجدة مع أن هذا يخالف ما جاء في الحديث " السجدة على من تلاها وعلى من سمعها "، قوله " وأنصت " همزته همزة القطع، قال تعالى: فاستمعوا له وأنصتوا وفيه لغتان: أنصت بكسر الهمزة وفتحها، فالأولى من نصت ينصت نصتا، والثانية من أنصت ينصت إنصاتا إذا سكت واستمع للحديث، يقال: أنصتوه وأنصتوا له، وأنصت فلان فلانا إذا أسكته وانتصت سكت، وذكر الأزهري في نصت وأنصت وانتصت الكل بمعنى واحد.

                                                                                                                                                                                  قوله ثم إن علينا بيانه فسره بقوله ثم إن علينا أن تقرأ، وفي مسلم أن تبينه بلسانك، وقيل: بحفظك إياه، وقيل: بيان ما وقع فيه من حلال وحرام حكاه القاضي.

                                                                                                                                                                                  قوله " جبريل عليه السلام " هو ملك الوحي إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام الموكل بإنزال العذاب والزلازل والدمادم، ومعناه عبد الله بالسريانية لأن جبر عبد بالسريانية، وإيل اسم من أسماء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  وروى عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة أن اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وقال السهيلي : جبريل سرياني ومعناه عبد الرحمن أو عبد العزيز كما جاء عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا، والموقوف أصح، وذهبت [ ص: 72 ] طائفة إلى أن الإضافة في هذه الأسماء مقلوبة، فإيل هو العبد وأوله اسم من أسماء الله تعالى، والجبر عند العجم هو إصلاح ما فسد وهي توافق معناه من جهة العربية، فإن في الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهى من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفا بمكة ولا بأرض العرب، ولهذا أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكره لخديجة رضي الله عنها انطلقت لتسأل من عنده علم من الكتاب كعداس ونسطور الراهب، فقالا: قدوس قدوس، ومن أين هذا الاسم بهذه البلاد؟ ورأيت في أثناء مطالعتي في الكتب أن اسم جبريل عليه الصلاة والسلام عبد الجليل وكنيته أبو الفتوح، واسم ميكائيل عبد الرزاق وكنيته أبو الغنائم، واسم إسرافيل عبد الخالق وكنيته أبو المنافخ، واسم عزرائيل عبد الجبار وكنيته أبو يحيى.

                                                                                                                                                                                  وقال الزمخشري: قرئ جبرئيل فعليل، وجبرئل بحذف الياء، وجبريل بحذف الهمزة، وجبريل بوزن قنديل، وجبرال بلام مشددة، وجبرائيل بوزن جبراعيل، وجبرايل بوزن جبراعل ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذه سبع لغات، وذكر فيه ابن الأنباري تسع لغات منها سبعة هذه، والثامنة: جبرين بفتح الجيم وبالنون بدل اللام، والتاسعة جبرين بكسر الجيم وبالنون أيضا، وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزا والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله " يعالج " في محل النصب لأنه خبر كان، قوله " شدة " بالنصب مفعول يعالج، وقال الكرماني: يجوز أن يكون مفعولا مطلقا له أي يعالج معالجة شديدة. قلت: فعلى هذا يحتاج إلى شيئين أحدهما تقدير المفعول به ليعالج، والثاني: تأويل الشدة بالشديدة وتقدير الموصوف لها فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله " وكان مما يحرك شفتيه " اختلفوا في معنى هذا الكلام وتقديره، فقال القاضي: معناه كثيرا ما كان يفعل ذلك، قال: وقيل: معناه هذا من شأنه ودأبه فجعل ما كناية عن ذلك، ومثله قوله في كتاب الرؤيا " كان مما يقول لأصحابه من رأى منكم رؤيا " أي هذا من شأنه وأدغم النون في ميم ما، وقال بعضهم: معناه ربما لأن " من " إذا وقع بعدها " ما " كانت بمعنى ربما. قاله الشيرازي، وابن خروف، وابن طاهر، والأعلم. وأخرجوا عليه قول سيبويه: واعلم أنهم مما يحذفون كذا وأنشدوا قول الشاعر:

                                                                                                                                                                                  وإنا لمما نضرب الكبش ضربة على رأسه نلقي اللسان من الفم

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: أي كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أي مبدأ العلاج منه أو بمعنى من إذ قد تجيء للعقلاء أيضا، أي وكان ممن يحرك شفتيه، وقال بعضهم: فيه نظر; لأن الشدة حاصلة له قبل التحريك، قلت: في نظره نظر لأن الشدة وإن كانت حاصلة له قبل التحريك ولكنها ما ظهرت إلا بتحريك الشفتين لأن هذا أمر مبطن ولم يقف عليه الراوي إلا بالتحريك، ثم استصوب ما نقل من هؤلاء من المعنى المذكور، ومع هذا فيه خدش لأن من في البيت وفي كلام سيبويه ابتدائية وما فيهما مصدرية وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب والحذف; مثل خلق الإنسان من عجل ثم الضمير في كان على قولهم: يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى تأويل الكرماني يرجع إلى العلاج الذي يدل عليه قوله يعالج، والأصوب أن يكون الضمير للرسول.

                                                                                                                                                                                  ويجوز هنا تأويلان آخران أحدهما أن تكون كلمة من للتعليل وما مصدرية وفيه حذف، والتقدير: وكان يعالج أيضا من أجل تحريك شفتيه ولسانه كما جاء في رواية أخرى للبخاري في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة لفظه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي، فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه "، وتحريك اللسان مع الشفتين مع طول القراءة لا يخلو عن معالجة الشدة.

                                                                                                                                                                                  والآخر: أن يكون " كان " بمعنى وجد بمعنى ظهر وفيه ضمير يرجع إلى العلاج، والتقدير: وظهر علاجه الشدة من تحريك شفتيه.

                                                                                                                                                                                  قوله " فأنزل الله " عطف على قوله " كان يعالج ".

                                                                                                                                                                                  قوله " قال " أي ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير جمعه أي جمع الله لك في صدرك، وقال في تفسير: وقرآنه، أي تقرأه يعني المراد من القرآن القراءة كما ذكرناه عن قريب، وفي أكثر الروايات: جمعه لك صدرك، وفي رواية كريمة والحموي: جمعه لك في صدرك.

                                                                                                                                                                                  قال القاضي: رواه الأصيلي بسكون الميم مع ضم العين ورفع الراء من صدرك، ولأبي ذر: " جمعه لك في صدرك "، وعند النسفي: جمعه لك صدرك، فإن قلت: إذا رفع الصدر بالجمع ما وجهه؟ قلت: يكون مجاز الملابسة الظرفية إذ الصدر ظرف الجمع فيكون مثل أنبت الربيع البقل، فالتقدير جمع الله في صدرك.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 73 ] (بيان المعاني) قوله " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " لفظة كان في مثل هذا التركيب تفيد الاستمرار، وأعاده في قوله " وكان مما يحرك " مع تقدمه في قوله " كان يعالج "، وهو جائز إذا طال الكلام كما في قوله تعالى: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا الآية وغيرها.

                                                                                                                                                                                  قوله " فأنا أحركهما لك "، وفي بعض النسخ " لكم "، وتقديم فاعل الفعل يشعر بتقوية الفعل ووقوعه لا محالة، قوله " فقال ابن عباس رضي الله عنه " إلى قوله " فأنزل الله " جملة معترضة بالفاء، وذلك جائز كما قال الشاعر:

                                                                                                                                                                                  واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ما فائدة الاعتراض؟ قلت: زيادة البيان بالوصف على القول، فإن قلت: كيف قال في الأول كان يحركهما وفي الثاني بلفظ رأيت؟ قلت: العبارة الأولى أعم من أنه رأى بنفسه تحريك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم سمع أنه حركهما، كذا قال الكرماني ولا حاجة إلى ذلك لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم ير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة لأن سورة القيامة مكية باتفاق، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، والظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، ولكن يجوز أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أخبره بذلك بعد أو أخبره بعض الصحابة أنه شاهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا خلاف، ومثل هذا الحديث يسمى بالمسلسل بتحريك الشفة لكن لم يتصل بسلسلة، وقل في المسلسل الصحيح، وقال الكرماني: فإن قلت: القرآن يدل على تحريك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسانه لا شفتيه فلا تطابق بين الوارد والمورود فيه، قلت: التطابق حاصل لأن التحريكين متلازمان غالبا أو لأنه كان يحرك الفم المشتمل على اللسان والشفتين فيصدق كل منهما، وتبعه بعض الشراح على هذا، وهذا تكلف وتعسف بل إنما هو من باب الاكتفاء والتقدير في التفسير من طريق جرير، فكان مما يحرك شفتيه ولسانه كما في قوله تعالى: سرابيل تقيكم الحر أي: والبرد.

                                                                                                                                                                                  ويدل عليه رواية البخاري في التفسير من طريق جرير: فكان مما يحرك لسانه وشفتيه، والملازمة بين التحريكين ممنوعة على ما لا يخفى، وتحريك الفم مستبعد بل مستحيل لأن الفم اسم لما يشتمل عليه الشفتان، وعند الإطلاق لا يشتمل على الشفتين ولا على اللسان لا لغة ولا عرفا فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله " كما كان قرأ "، وفي بعض النسخ: " كما كان قرأه " بضمير المفعول، أي كما كان قرأ القرآن، وفي بعضها: كما قرأ بدون لفظة كان.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة) منها ما قيل ما كان سبب معالجة الشدة، وأجيب بأنه ما كان يلاقيه من الكد العظيم ومن هيبة الوحي الكريم، قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ومنها ما قيل ما كان سبب تحريك لسانه وشفتيه، وأجيب بأنه كان يفعل ذلك لئلا ينسى، وقال تعالى: سنقرئك فلا تنسى وقال الشعبي: إنما كان ذلك من حبه له وحلاوته في لسانه، فنهي عن ذلك حتى يجتمع لأن بعضه مرتبط ببعضه، ومنها ما قيل: ما فائدة المسلسل من الأحاديث؟ وأجيب بأن فائدته اشتماله على زيادة الضبط واتصال السماع وعدم التدليس، ومثله حديث المصافحة ونحوها.

                                                                                                                                                                                  (استنباط الأحكام) منه الاستحباب للمعلم أن يمثل للمتعلم بالفعل ويريه الصورة بفعله إذا كان فيه زيادة بيان على الوصف بالقول ومنه أن أحدا لا يحفظ القرآن إلا بعون الله تعالى ومنه وفضله، قال تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ومنه: فيه دلالة على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب أهل السنة، وذلك لأن " ثم " تدل على التراخي، كذا قاله الكرماني، قلت: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع عند الكل إلا عند من جوز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فاختلفوا فيه، فذهب الأكثرون إلى جوازه واختاره ابن الحاجب.

                                                                                                                                                                                  وقال الصيرفي والحنابلة: ممتنع، وقال الكرخي بالتفصيل، وهو أن تأخيره عن وقت الخطاب ممتنع في غير المجمل; كبيان التخصيص والتقييد والنسخ إلى غير ذلك، وجائز في المجمل كالمشترك، وقال الجبائي: تأخير البيان عن وقت الخطاب ممتنع في غير النسخ، وجائز في النسخ.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية