الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3419 119 - حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا أحمد بن يزيد بن إبراهيم أبو الحسن الحراني، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا أبو إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى أبي في منزله، فاشترى منه رحلا فقال لعازب: ابعث ابنك يحمله معي قال: فحملته معه، وخرج أبي ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر، حدثني كيف صنعتما حين سريت مع رسول الله [ ص: 147 ] صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي ينام عليه وبسطت فيه فروة، وقلت: نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام، وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى قال: فرأيت البراء يضرب إحدى يديه على الأخرى ينفض، فحلب في قعب كثبة من لبن ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي منها يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله. فقلت: اشرب يا رسول الله، قال: فشرب حتى رضيت ثم قال: ألم يأن للرحيل؟ قلت: بلى. قال: فارتحلنا بعد ما مالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك فقلت: أتينا يا رسول الله. فقال: لا تحزن إن الله معنا. فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها أرى في جلد من الأرض شك زهير فقال: إني أراكما قد دعوتما علي فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده. قال: ووفى لنا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن فيه معجزة ظاهرة لا تخفى على متأمل.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول: محمد بن يوسف أبو أحمد البخاري البيكندي، سكن بغداد، وهو من أفراده وصغار شيوخه، وشيخه الآخر محمد بن يوسف الفريابي أكبر من هذا وأقدم سماعا، وقد أكثر البخاري عنه. الثاني: أحمد بن يزيد من الزيادة ابن إبراهيم أبو الحسن الحراني يعرف بالورتنيسي بفتح الواو وسكون الراء وفتح المثناة من فوق وتشديد النون المكسورة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، ثم سين مهملة، قلت: الورتنيس أحد أجداده وهو إبراهيم أبو أحمد الحاكم اسم الورتنيس إبراهيم. الثالث زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي. الرابع: أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. الخامس: البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم.

                                                                                                                                                                                  ((ذكر لطائف إسناده)) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفي رواية: أخبرنا أحمد بن زيد، وفيه السماع، وفيه القول في موضع واحد، وفيه أن أحمد بن يزيد انفرد به البخاري دون الخمسة، وفيه أن زهير بن حرب هو الذي روى هذا الحديث تاما عن أبي إسحاق، وأبوه خديج وإسرائيل، وروى شعبة منه قصة اللبن خاصة، وقد رواه عن أبي إسحاق مطولا أيضا حفيده يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق، وهو في باب الهجرة إلى المدينة لكنه لم يذكر منه قصة سراقة، وزاد فيه قصة غيرها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه). قوله: " جاء أبو بكر " أي: الصديق رضي الله تعالى عنه. قوله: " إلى أبي " هو عازب بن الحارث بن عدي الأوسي من قدماء الأنصار. قوله: " فاشترى منه رحلا " بفتح الراء وسكون الحاء المهملة وهو للناقة كالسرج للفرس، وقيل: الرحل أصغر من القتب واشتراه بثلاثة عشر درهما. قوله: " فقال لعازب: ابعث ابنك يحمله " أي: يحمل الرحل معي. قوله: " قال: فحملت معه " أي: قال البراء: فحملت الرحل معه، وفي رواية إسرائيل التي تأتي في فضل أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن عازبا امتنع من [ ص: 148 ] إرسال ابنه مع أبي بكر حتى يحدثه أبو بكر بالحديث وهي زيادة ثقة مقبولة. قوله: " وخرج أبي ينتقد ثمنه " أي: يستوفيه. قوله: " حين سريت " سرى وأسرى لغتان بمعنى السير في الليل قال الله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال: والليل إذا يسر . قوله: " أسرينا ليلتنا " يعني سرينا ليلا وذلك حين خرجا من الغار وكانا لبثا في الغار ثلاث ليال ثم خرجا. قوله: " ومن الغد " أي: بعض الغد، والعطف فيه كما في قوله:


                                                                                                                                                                                  علفتها تبنا وماء باردا

                                                                                                                                                                                  إذ الإسراء إنما يكون بالليل. قوله: " حتى قام قائم الظهيرة " أي: نصف النهار وهو استواء حالة الشمس، وسمي قائما لأن الظل لا يظهر حينئذ فكأنه قائم واقف، وفي رواية إسرائيل: أسرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا أي: دخلنا في وقت الظهيرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وخلا الطريق " هذا يدل على أنه كان في زمن الحر، وقيل: في قوله: " على حين غفلة من أهلها " أي: نصف من النهار. قوله: " فرفعت لنا صخرة " أي: ظهرت لأبصارنا، ورفعت على صيغة المجهول. قوله: " وبسطت فيه فروة " وهو الجلد الذي يلبس وقيل: المراد بها قطعة حشيش مجتمعة، ويقوي المعنى الأول ما في رواية أبي يوسف بن أبي إسحاق " ففرشت له فروة معي ". قوله: " وأنا أنفض لك ما حولك " يعني من الغبار ونحو ذلك حتى لا يثيره عليه الريح، وقيل: معنى النفض هنا الحراسة يقال: نفضت المكان إذا نظرت جميع ما فيه، ويؤيده قوله في رواية إسرائيل: ثم انطلقت أنظر ما حولي: هل أرى من الطلب أحدا، والنفضة قوم يبعثون في الأرض ينظرون هل بها عدو أو خوف. قوله: " لرجل من أهل المدينة أو مكة " هذا شك من الراوي وهو أحمد بن يزيد، فإن مسلما أخرجه من طريق الحسن بن محمد بن أعين عن زهير فقال فيه لرجل من أهل المدينة ولم يشك، ووقع في رواية خديج: فسمى رجلا من أهل مكة ولم يشك، (فإن قلت): كيف وجه هذا؟ قلت: المراد من المدينة في رواية مسلم هي مكة ولم يرد به المدينة النبوية لأنها حينئذ لم تكن تسمى المدينة، وإنما كان يقال لها يثرب، وأيضا فلم تجر العادة للرعاة أن يبعدوا في المراعي هذه المسافة البعيدة، ووقع في رواية إسرائيل فقال: لرجل من قريش سماه فعرفته، وهذا يؤيد هذا الوجه؛ لأن قريشا لم يكونوا يسكنون المدينة النبوية إذ ذاك. قوله: " أفي غنمك لبن " بفتح اللام والباء الموحدة، وحكى عياض أن في رواية: لبن بضم اللام وتشديد الباء الموحدة جمع لابن أي: هل في غنمك ذوات لبن.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أفتحلب؟ قال: نعم " أي: أحلب وأراد بهذا الاستفهام أمعك إذن من صاحب الغنم في الحلب لمن يمر بها على سبيل الضيافة، فبهذا يندفع إشكال من يقول: كيف استجاز أبو بكر أخذ اللبن من الراعي بغير إذن مالك الغنم، وأجيب هنا بجواب آخر وهو أن أبا بكر عرف مالك الغنم، وعرف رضاه بذلك لصداقته له أو لإذنه العام بذلك، وقيل: كان الغنم لحربي لا أمان له، وقيل: كانوا مضطرين. قوله: " انفض الضرع " أي: ثدي الشاة. قوله: " والقذى " بفتح القاف وفتح الذال المعجمة مقصورا وهو الذي يقع في العين يقال: قذت عينه إذا وقع فيها القذى كأنه شبه ما يصير في الضرع من الأوساخ بالقذى في العين. قوله: " في قعب " هو القدح من الخشب. قوله: " كثبة " بضم الكاف وسكون الثاء المثلثة وفتح الباء الموحدة أي: قطعة من لبن قدر ملء القدح وقيل: قدر حلبة خفيفة، وقال الهروي والقزاز: كل ما جمعته من طعام أو لبن أو غيرهما فهي كثبة. قال الهروي: بعد أن يكون قليلا. قوله: " إداوة " بكسر الهمزة وهي تعمل من جلد يستصحبه المسافر. قوله: " يرتوي منها " أي: يستقي. قوله: " يشرب " حال. قوله: " فوافقته حتى استيقظ " أي: وافق إتياني وقت استيقاظه، ويروى حتى تأنيت به حتى استيقظ. قوله: " حتى برد " بفتح الراء، وقال الجوهري بضمها. قوله: " حتى رضيت " أي: طابت نفسي لكثرة ما شرب. قوله: " ألم يأن للرحيل " أي: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: ألم يأن وقت الارتحال. قوله: " واتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم " واتبعنا بفتح العين فاعل ومفعول، وسراقة بالرفع فاعله. وفي رواية إسرائيل: " فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا غير سراقة ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " أتينا " بضم الهمزة على صيغة المجهول. قوله: " فارتطمت به " أي: بسراقة فرسه، ومعنى ارتطمت غاصت قوائمها في تلك الأرض الصلبة، وارتطم في الوحل أي: دخل فيه واحتبس، ورطمت الشيء إذا أدخلته فارتطم. قوله: " أرى " بضم الهمزة أي: أظن وهو لفظ زهير الراوي، وفي رواية مسلم الشك من زهير؛ يعني هل قال هذه اللفظة أم لا. قوله: " في جلد " بفتح الجيم واللام وهو الصلب من الأرض المستوي. قوله: " فقال: إني أراكما " أي: قال سراقة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر: إني أراكما قد دعوتما علي فادعوا لي فالله لكما. قوله: " فالله " بالرفع مبتدأ. وقوله: " لكما " خبره؛ أي: ناصر لكما. قوله: " أن أرد عنكما " أي: ادعوا لأن أرد فهو علة للدعاء، ويروى بنصب لفظة الله أي: [ ص: 149 ] فأشهد الله لأجلكما أن أرد عنكما الطلب وقيل: بالجر أيضا بنزع الخافض، والتقدير: أقسم بالله لكما بأن أرد الطلب، وهو جمع طالب، وفي شرح السنة: أقسم بالله لكما على الرد. قوله: " فنجا " أي: من الارتطام. قوله: " إلا قال كفيتكم " ويروى: كفيتم. قوله: " ما هنا " يعني ما هنا الذي تطلبونه. قوله: " فلا يلقى أحدا إلا رده " بيان قوله: " ما هنا ". قوله: " ووفى لنا " أي: وفى سراقة بما وعده من رد الطلب.

                                                                                                                                                                                  وفي هذا الحديث معجزة لرسول الله صلى الله عليه تعالى وسلم وفضيلة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفيه خدمة التابع للمتبوع واستصحاب الركوة في السفر، وفضل التوكل على الله تعالى، وأن الرجل الجليل إذا نام يدافع عنه، وقال الخطابي: استدل به بعض شيوخ السوء من المحدثين على الأخذ على الحديث؛ لأن عازبا لم يحمل الرحل حتى يحدثه أبو بكر بالقصة، وليس الاستدلال صحيحا؛ لأن هؤلاء اتخذوا الحديث بضاعة يبيعونها ويأخذون عليها أجرا، وأما ما التمسه أبو بكر من تحميل الرحل فهو من باب المعروف، والعادة المقررة أن تلامذة التجار يحملون الأثقال إلى بيت المشتري، ولو لم يكن ذلك لكان لا يمنعه إفادة القصة قال تعالى: اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية