الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  368 41 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثنا الليث ، عن يزيد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فروج حرير ، فلبسه فصلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له وقال : لا ينبغي هذا للمتقين .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله ؛ وهم خمسة : الأول : عبد الله بن يوسف التنيسي تكرر ذكره . الثاني : الليث بن سعد ، وقال الكرماني : عرض عليه المنصور ولاية مصر فاستعفى ، ( قلت ) قد قيل إنه ولي مدة يسيرة ، وكان على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه . الثالث : يزيد بن حبيب . الرابع : أبو الخير مرثد بفتح الميم ، وبالثاء المثلثة ، اليزني بفتح الياء آخر الحروف ، والزاي بعدها النون المكسورة . الخامس : عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه روي له خمسة وخمسون حديثا للبخاري منها ثمانية ، كان واليا على مصر لمعاوية ، مات بها سنة ثمان وخمسين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول ، وفيه بعد قوله : "عن يزيد" هو ابن أبي حبيب في رواية الأصيلي ، وفيه أن رواته كلهم مصريون .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن قتيبة عن الليث ، وأخرجه مسلم عن قتيبة به ، وعن أبي موسى ، وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة ، وعيسى بن حماد كلاهما عن الليث به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : "أهدي" على صيغة المجهول من الماضي ، وكان الذي أهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل ، وذكر أبو نعيم أنه أسلم ، وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء ، وقال ابن الأثير : أهدى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصالحه ولم يسلم ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السير ، ومن قال إنه أسلم فقد أخطأ خطأ ظاهرا وكان نصرانيا ، ولما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى حصنه ، وبقي فيه ، ثم إن خالدا أسره لما حاصر دومة الجندل أيام أبي بكر رضي الله عنه فقتله مشركا نصرانيا ، وأكيدر بضم الهمزة ، ودومة الجندل اسم حصن ، قال الجوهري : أصحاب اللغة يقولون بضم الدال ، وأهل الحديث يفتحونها ، وهو اسم موضع فاصل بين الشام والعراق على سبعة مراحل من دمشق ، وعلى ثلاثة عشر مرحلة من المدينة . قوله : "فروج حرير" بالإضافة كما في ثوب خز ، وخاتم فضة ، ويجوز أن يكون حرير صفة لفروج ، والإعراب يحتمل ذلك ، والكلام في الرواية ، والظاهر أنها الأول . قوله : "ثم انصرف" أي : من صلاته واستقبال القبلة . قوله : "لا ينبغي هذا للمتقين" أي : للمتقين عن الكفر أي المؤمنين أو عن المعاصي كلها [ ص: 98 ] أي الصالحين ، ( فإن قلت ) : النساء المتقيات يدخلن فيهم مع أن الحرير حلال لهن ( قلت ) هذه مسألة مختلف فيها ، والأصح أن جمع المذكر السالم لا يدخل فيه النساء فلا يقتضي فيه الاشتراك ، ولئن سلمنا دخولهن فالحل لهن علم بدليل آخر .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه من الأحكام ) : منها حرمة لبس الحرير للرجال في كل الأحوال إلا في صور تستثنى منها في الحرب يجوز لبسها للرجال عند أبي يوسف ومحمد ، ومنها للجرب ، ومنها لأجل البرد إذا لم يجد غيره ، وقد جوز طائفة من الظاهرية لبسه للرجال مطلقا ، وإليه ذهب عبد الله بن أبي مليكة ، واحتجوا في ذلك بحديث مسور بن مخرمة أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما نذكره في موضعه ، وحجج الجمهور في ذلك كثيرة ؛ منها الحديث المذكور ، وأخرج الطحاوي في هذا الباب عن خمسة عشر نفرا من الصحابة ، وهم عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وحذيفة بن اليمان ، وعمران بن الحصين ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وعقبة بن عامر الجهني ، وأبو أمامة ، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم ، وفي الباب عن أم هانئ ، عن أبي يعلى الموصلي ، وأبي ريحانة عند أبي داود ، واسم أبي ريحانة شمعون ، وأبي موسى الأشعري عند الترمذي ، وأحاديث هؤلاء نسخت ما فيه الإباحة للبسه ، ( فإن قلت ) : إذا كان حراما على الرجال فكيف لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ( قلت ) كان ذلك قبل التحريم ، وقال النووي : ولعل أول النهي والتحريم كان حين نزعه ، ولهذا قال في حديث جابر الذي عند مسلم : "صلى في قبا ديباج ، ثم نزعه وقال : نهاني عنه جبريل صلى الله عليه وسلم" فيكون أول التحريم بهذا ، وجعل الكرماني هذا تخصيصا ، ولم يجعله نسخا حيث قال : شرط النسخ أن يكون المنسوخ حكما شرعيا ، ثم قال : ولئن سلم أنه شرعي فالنسخ هو رفع الحكم عن كل المكلفين ، وهذا إنما هو عن البعض فهو تخصيص . ( قلت ) لبسه صلى الله عليه وسلم حكم ثم نزعه حكم آخر ينسخ الأول ، فكما أن الثاني حكم شرعي كان الأول كذلك ، ولكنه نسخ ، وكان الثاني يعم الرجال والنساء ، لكن خرجت النساء بدليل آخر ، وذهبت طائفة إلى تحريم الحرير للرجال والنساء جميعا ، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي قال : حدثنا أبو بكرة قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هشيم عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال سألت امرأة ابن عمر قالت : أتحلى بالذهب ؟ قال : نعم . قالت : ما تقول في الحرير ؟ فقال : يكره ذلك . قالت : ما يكره ؟ أخبرني أحلال أم حرام ؟ قال : كنا نتحدث أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وبما رواه أيضا عن يحيى بن نصر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا عشانة المعافري حدثه أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يخبر "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول : إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها فلا تلبسنها في الدنيا" ، وبما رواه من حديث الأزرق بن قيس قال : "سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يوم التروية وهو يقول : يا أيها الناس ، لا تلبسوا الحرير ، ولا تلبسوها نساءكم ولا أبناءكم ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ، وأخرجه مسلم أيضا ، وأجاب الجمهور عن ذلك بأن ما روي عن ابن عمر محمول على الرجال خاصة يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها" . رواه الطحاوي ، والطبراني ، وما روي أيضا عن علي بن أبي طالب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه ، وأخذ ذهبا فجعله في شماله ، ثم قال : إن هذين حرام على ذكور أمتي" . أخرجه الطحاوي ، وابن ماجه ، وما روي أيضا عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحرير والذهب حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها " . أخرجه الطحاوي والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وفي الباب أيضا عن عبد الله بن عمرو ، وعقبة بن عامر ، وبأن ما روي عن عقبة تخالفه روايته الأخرى وهي : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم" ، وبأن ما روي عن ابن الزبير بأنه لم يبلغه الحديث المخصص لعموم الحرمة في قوله : "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" ، وقال ابن العربي : اختلف العلماء في لباس الحرير على عشرة أقوال : الأول محرم بكل حال . والثاني : محرم إلا في الحرب . والثالث : يحرم إلا في السفر . والرابع : يحرم إلا في المرض . والخامس : يحرم إلا في الغزو . والسادس : يحرم إلا في العلم . والسابع : يحرم على الرجال والنساء ، والثامن : يحرم لبسه من فوق دون لبسه من أسفل وهو الفرش ، قاله أبو حنيفة ، وابن الماجشون . والتاسع : مباح بكل حال . والعاشر : يحرم وإن خلط مع غيره كالخز ، ومنها ما احتج به [ ص: 99 ] بعضهم في جواز الصلاة في الثياب الحرير لكونه صلى الله عليه وسلم لم يعد تلك الصلاة ، ولا حجة لهم في ذلك ؛ لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم ، أما بعد ففيه اختلاف العلماء ، فقال أصحابنا : تصح صلاته ولكنها تكره ، ويأثم لارتكابه الحرام ، وبه قال الشافعي وأبو ثور ، وقال ابن القاسم عن مالك : من صلى في ثوب حرير يعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره ، وعليه جل أصحابه ، وقال أشهب : لا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره ، وهو قول أصبغ ، وخفف ابن الماجشون لباسه في الحرب والصلاة للترهيب على العدو والمباهات ، وقال آخرون : إن صلى فيه وهو يعلم أن ذلك لا يجوز يعيد ، ومنها أن فيه جواز قبول هدية المشرك للإمام لمصلحة يراها .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية