الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  370 43 - حدثنا علي بن عبد الله قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا أبو حازم قال : سألوا سهل بن سعد : من أي شيء المنبر ؟ فقال : ما بقي بالناس أعلم مني ، هو من أثل الغابة ، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عمل ، ووضع فاستقبل القبلة كبر وقام الناس خلفه فقرأ وركع وركع الناس خلفه ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض ، ثم عاد إلى المنبر ، ثم قرأ ، ثم ركع ، ثم رفع رأسه ، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض ، فهذا شأنه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم أربعة : الأول : علي بن عبد الله هو ابن المديني . الثاني : سفيان بن عيينة . الثالث : أبو حازم بالحاء المهملة وبالزاي سلمة بن دينار . الرابع : سهل بن سعد الساعدي آخر من مات من الصحابة بالمدينة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وصيغة الإخبار كذلك في موضع ، وفيه السؤال ، وفيه أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن قتيبة ، وكذلك أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن قتيبة ، وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب عن علي بن المديني ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن أحمد بن ثابت الجحدري عنه به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لغاته ومعانيه ) : قوله : "من أي شيء" أي : من أي عود ، واللام في المنبر للعهد أي : عن منبره عليه الصلاة والسلام ، وفي رواية أبي داود "أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر مم عوده" أي : وقد شكوا في منبر النبي صلى الله عليه وسلم من أي شيء كان عوده . قوله "ما بقي بالناس" أي : في الناس ، ويروى كذلك عن الكشميهني . قوله : "هو" مبتدأ ، وقوله : "من أثل الغابة" خبره ، وفي رواية أبي داود "من طرفاء الغابة" ، وفسر الخطابي الأثل بالطرفاء ، وقال ابن سيده : الأثل يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه ، وقال أبو زياد : من العضاه أثل ، وهو طوال في السماء ليس له ورق ينبت مستقيم الخشبة وخشبه [ ص: 103 ] جيد يحمل إلى القرى فيبنى عليه بيوت المدر ، ورقه هدب رقاق ، وليس له شوك ، ومنه تصنع القصاع والأواني الصغار والكبار والمكاييل والأبواب ، وهو النضار ، وقال أبو عمر : وهو أجود الخشب للآنية ، وأجود النضار الورس لصفرته ، ومنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم نضار ، وفي الواعي : الأثلة خمصة مثل الأشنان ، ولها حب مثل حب التنوم ، ولا ورق لها ، وإنما هي أشنانة يغسل بها القصارون غير أنها ألين من الأشنان ، وقال القزاز : هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء وليس به ، وهو أجود منه عودا ، ومنه تصنع قداح الميسر ، والتنوم بفتح التاء المثناة من فوق وضم النون المشددة ، وبعد الواو الساكنة ميم ، وهو نوع من نبات الأرض فيه ثمر ، وفي ثمره سواد قليل ، والغابة بغين معجمة ، وباء موحدة : أرض على تسعة أميال من المدينة كانت إبل النبي صلى الله عليه وسلم مقيمة بها للرعي ، وبها وقعت قصة العرنيين الذين أغاروا على سرحه صلى الله عليه وسلم ، وقال ياقوت : بينها وبين المدينة أربعة أميال ، وقال البكري : هما غابتان عليا وسفلى ، وقال الزمخشري : الغابة بريد من المدينة من طريق الشام . قال الواقدي : ومنها صنع المنبر ، وفي الجامع : كل شجر ملتف فهو غابة ، وفي المحكم : الغابة الأجمة التي طالت ، ولها أطراف مرتفعة باسقة ، وقال أبو حنيفة : هي أجمة القصب ، قال : وقد جعلت جماعة الشجر غابا مأخوذ من الغيابة ، والجمع غابات وغياب ، والطرفاء بفتح الطاء وسكون الراء المهملتين ممدودة شجر من شجر البادية ، واحدها طرفة مثل قصبة وقصباء ، وقال سيبويه : الطرفاء واحد وجمع . قوله : "عمله فلان" بالتنوين ؛ لأنه منصرف ؛ لأنه كناية عن علم المذكر بخلاف فلانة فإنه كناية عن علم المؤنث ، والمانع من صرفه وجود العلتين ، وهما العلمية والتأنيث ، واختلفوا في اسم فلان الذي هو نجار منبره صلى الله تعالى عليه وسلم ففي كتاب الصحابة لابن الأمين الطليطلي : إن اسم هذا النجار قبيصة المخزومي قال : ويقال : ميمون ، وقال : وقيل : صلاح غلام العباس بن عبد المطلب ، وقال ابن بشكوال : وقيل : ميناء ، وقيل : إبراهيم ، وقيل : باقوم بالميم في آخره ، وقال ابن الأثير : كان روميا غلاما لسعيد بن العاص مات في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروى أبو سعد في شرف المصطفى من طريق ابن لهيعة عن عمارة بن غزية عن عباس بن سهل عن أبيه قال : كان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون فذكر قصة المنبر ، وقال ابن التين : عمله غلام لسعد بن عبادة ، وقيل : لامرأة من الأنصار ، وقال أبو داود : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، عن نافع ، "عن ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما بدا قال له تميم الداري : ألا أتخذ لك منبرا يا رسول الله تجمع أو تحمل عظامك ؟ قال : بلى . فاتخذ له منبرا مرقاتين" ، وفي طبقات ابن سعد من حديث أبي هريرة وغيره قالوا : "كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع ، فقال : إن القيام يشق عليه ، فقال تميم الداري : ألا أعمل لك منبرا كما رأيته بالشام ؟ فشاور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المسلمين في ذلك فرأوا أن يتخذه ، فقال العباس بن عبد المطلب : إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مره أن يعمله فعلمه درجتين ومقعدا ، ثم جاء به فوضعه في موضعه" ، وعند ابن سعد أيضا بسند صحيح : " إن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، إن الناس قد كثروا فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت . قال : ما شئتم . قال سهل : ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد ، فذهبت أنا وذاك النجار إلى الغابتين ، فقطعت هذا المنبر من أثله " ، وفي لفظ : "وحمل سهل منهن خشبة" .

                                                                                                                                                                                  قوله : "مولى فلانة" لم يعرف اسمها ، ولكنها أنصارية ، ووقع في الدلائل لأبي موسى المديني نقلا عن جعفر المستغفري أنه قال في أسماء النساء من الصحابة علاثة بالعين المهملة وبالثاء المثلثة ، ثم ساق هذا الحديث من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم ، وقال فيه : "أرسل إلى علاثة امرأة" قد سماها سهل ، ثم قال أبو موسى : صحف فيه جعفر أو شيخه ، وإنما هي فلانة ، وقال الحافظ الذهبي : علاثة في حديث سهل "أن مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا" ، وإنما هي فلانة ، وقال الكرماني : قيل في فلانة اسمها عائشة الأنصارية ، وقال بعضهم : وأظنه صحف المصحف ( قلت ) هذا الطبراني روى في معجمه الأوسط من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى سارية المسجد ، ويخطب إليها ، ويعتمد عليها ، وأمرت عائشة فصنعت له منبره هذا . انتهى ، وبه يستأنس أن فلانة هي عائشة المذكورة ، ولا سيما قال قائله : الأنصارية ، ولا يستعبد هذا ، وإن كان إسناد الحديث ضعيفا فحينئذ إن المصحف من قال : علاثة لا من قال : عائشة الأنصارية ، وقد جاء في الرواية في الصحيح : "أرسل أي : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى فلانة سماها سهل . مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس ، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة ، ثم جاء بها ، فأرسلت [ ص: 104 ] بها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر بها فوضعت هاهنا ، وعن جابر : إن امرأة قالت : يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا . . . " الحديث ، وفي الإكليل للحاكم عن يزيد بن رومان : "كان المنبر ثلاث درجات فزاد به معاوية لعله قال : جعله ست درجات ، وحوله عن مكانه فكسفت الشمس يومئذ" . قال الحاكم : وقد أحرق الذي عمله معاوية ، ورد منبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي وضعه فيه ، وفي الطبقات : كان بينه وبين الحائط ممر الشاة ، وقيل : في الإكليل أيضا من حديث المبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس رضي الله تعالى عنه : "لما كثر الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم : ابنوا لي منبرا فبنوا له عتبتين" ، وقد ذكرنا عن أبي داود في حديث ابن عمر مرقاتين ، وهي تثنية مرقاة وهي الدرجة ، ( فإن قلت ) : في الصحيح : ثلاث درجات فما التوفيق بينهما ؟ ( قلت ) الذي قال مرقاتين كان لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها ، والذي روى له ثلاثا اعتبرها . قوله : "فقام عليه" ، ويروى "فرقى عليه" . قوله : "حين عمل ووضع" كلاهما مجهولان . قوله : "كبر" بدون الواو ؛ لأنه جواب عن سؤال كأنه قيل ما عمل بعد الاستقبال ؟ قال كبر ، ويروى "فكبر" ، وفي بعض النسخ : "وكبر" بالواو . قوله : "ثم رجع القهقرى" أي : رجع إلى ورائه ، فإذا قلت : رجعت القهقرى فكأنك قلت : رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم ؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع فيكون انتصابه على أنه مفعول مطلق لكنه من غير لفظه كما تقول : قعدت جلوسا . قوله : "على الأرض" ، وذكر بعضه بالأرض ، وذكر الفرق بينهما من حيث إن في الأول لوحظ معنى الاستعلاء ، وفي الثاني معنى الإلصاق .

                                                                                                                                                                                  ذكر استنباط الأحكام منه منها : أن فيه الدلالة على ما ترجم له ، وهي الصلاة على المنبر ، وقد علل صلى الله تعالى عليه وسلم صلاته عليه ، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له والتعليم ، فإذا ارتفع الإمام على المأموم فهو مكروه إلا لحاجة كمثل هذا فيستحب ، وبه قال الشافعي وأحمد والليث ، وعن مالك والشافعي المنع ، وبه قال الأوزاعي ، وحكى ابن حزم عن أبي حنيفة المنع ، وهو غير صحيح ، بل مذهبه الجواز مع الكراهة ، وقد مر الكلام فيه عن قريب ، وعن أصحابنا عن أبي حنيفة جوازه إذا كان الإمام مرتفعا مقدار قامة ، وعن مالك : تجوز في الارتفاع اليسير .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن المشي اليسير في الصلاة لا يفسدها ، وقال صاحب المحيط : المشي في الصلاة خطوة لا يبطلها ، وخطوتين أو أكثر يبطلها ، فعلى هذا ينبغي أن تفسد هذه الصلاة على هذه الكيفية ، ولكنا نقول : إذا كان لمصلحة ينبغي أن لا تفسد صلاته ، ولا تكره أيضا كما في مسألة من انفرد خلف الصف وحده ، فإن له أن يجذب واحدا من الصف إليه ويصطفان ، فإن المجذوب لا تفسد صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين ، وقال الخطابي فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة ، وكان المنبر ثلاث مراق ، ولعله إنما قام على الثانية منها فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه استحباب اتخاذ المنبر ، وكون الخطيب على مرتفع كمنبر أو غيره .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه تعليم الإمام المأمومين أفعال الصلاة ، وأنه لا يقدح ذلك في صلاته ، وليس من باب التشريك في العبادة بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم .

                                                                                                                                                                                  ومنها أن فيه أن العالم إذا انفرد بعلم شيء يقول ذلك ليؤديه إلى حفظه .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية