الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4253 وعن عبد الصمد: حدثني أبي، حدثني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر فأتوا حرثكم أنى شئتم قال: يأتيها في...، رواه محمد بن يحيى بن سعيد عن أبيه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا معطوف على قوله: أخبرنا النضر بن شميل، يعني: النضر يروي أيضا عن عبد الصمد بن عبد الوارث، وهو يروي عن أبيه عبد الوارث بن سعيد عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - وهذه الرواية رواها ابن جرير في التفسير عن أبي قلابة الرقاشي عن عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي - فذكره بلفظ: يأتيها في الدبر، ووقع هنا في رواية البخاري "يأتيها في" وسكت عن مجرورها، ولم يذكر في أي شيء، وهكذا وقع في جميع النسخ، ولكن الحميدي ذكر [ ص: 117 ] في الجمع بين الصحيحين يأتيها في الفرج، وبهذا قد تبين أن مجرور كلمة في هو الفرج، وقال بعضهم: هو من عنده بحسب فهمه، وليس مطابقا لما في نفس الأمر، وأيد كلامه بقوله: وقد قال أبو بكر بن العربي: أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال: يأتيها في - وترك بياضا، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا نسلم عدم المطابقة لما في نفس الأمر؛ لأن ما في نفس الأمر عند من لا يرى إباحة إتيان النساء في أدبارهن أن يقدر بعد كلمة في إما لفظ "في الفرج" أو "في القبل" أو "في موضع الحرث" والظاهر من حال البخاري أنه لا يرى إباحة ذلك، ولكن لما ورد في حديث أبي سعيد الخدري ما يفهم منه إباحة ذلك، ووردت أحاديث كثيرة في منع ذلك، تأمل في ذلك، ولم يترجح عنده في ذلك الوقت أحد الأمرين فترك بياضا بعد في؛ ليكتب فيه ما يترجح عنده من ذلك، والظاهر أنه لم يدركه، فبقي البياض بعده مستمرا، فجاء الحميدي وقدر ذلك حيث قال: "يأتيها في الفرج" نظرا إلى حال البخاري أنه لا يرى خلافه، ولو كان الحميدي علم من حال البخاري أنه يبيح الإتيان في أدبار النساء لم يقدر هذا بل كان يقدر "يأتيها في أي موضع شاء" كما صرح في رواية ابن جرير في نفس حديث عبد الصمد: "يأتيها في دبرها" ثم قال هذا القائل: هذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء، ولا بد له من نكتة يحسن بسببها استعماله.

                                                                                                                                                                                  قلت: ليت شعري من قال من أهل صناعة البديع أن حذف المجرور وذكر الجار وحده من أنواع البديع؟!! والاكتفاء إنما يكون في شيئين متضادين يذكر أحدهما ويكتفى به عن الآخر، كما في قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر والتقدير: والبرد أيضا، ولم يبين أيضا ما هو المحسن لذلك على أن جمهور النحاة لا يجوزون حذف المجرور، إلا أن بعضهم قد جوز ذلك في ضرورة الشعر، وقد عاب الإسماعيلي على صنيع البخاري ذلك فقال: جميع ما أخرج عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه، وقد رويناه عن عبد العزيز - يعني الدراوردي - عن مالك وعبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب، ثلاثتهم عن نافع بالتفسير، ورواية الدراوردي المذكورة قد أخرجها الدارقطني في غرائب مالك من طريقه عن الثلاثة عن نافع نحو رواية ابن عون عنه، ولفظه: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها، فأعظم الناس ذلك قال: فقلت له: من دبرها في قبلها؟ قال: لا، إلا في دبرها.

                                                                                                                                                                                  وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فذهب محمد بن كعب القرظي وسعيد بن يسار المدني ومالك إلى إباحة ذلك، واحتجوا في ذلك بما رواه أبو سعيد أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا: اثغرها - فأنزل الله عز وجل نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقالوا: معنى الآية حيث شئتم من القبل والدبر.

                                                                                                                                                                                  وقال عياض: تعلق من قال بالتحليل بظاهر الآية. وقال ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": جوزته طائفة كثيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتابه "جماع النسوان" وأسند جوازه إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة، وقال أبو بكر الجصاص في كتابه "أحكام القرآن": المشهور عن مالك إباحة ذلك، وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة؛ لقبحها وشناعتها، وهي عنه أشهر من أن تدفع بنفيهم عنه.

                                                                                                                                                                                  وقد روى محمد بن سعد عن أبي سليمان الجوزجاني قال: كنت عند مالك بن أنس، فسئل عن النكاح في الدبر، فضرب بيده على رأسه وقال: الساعة اغتسلت منه! ورواه عنه ابن القاسم: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك فيه أنه حلال - يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم قال: فأي شيء أبين من هذا وما أشك فيه.

                                                                                                                                                                                  وأما مذهب الشافعي فيه فما قاله الطحاوي، حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريمه ولا في تحليله، والقياس أنه حلال.

                                                                                                                                                                                  وقال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فصرح بالتحريم.

                                                                                                                                                                                  وذهب الجمهور إلى تحريمه; فمن الصحابة علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو الدرداء وخزيمة بن ثابت وأبو هريرة وعلي بن طلق وأم سلمة، وقد اختلف عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والأصح عنه المنع.

                                                                                                                                                                                  ومن التابعين سعيد بن المسيب ومجاهد وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن أبي رباح.

                                                                                                                                                                                  ومن الأئمة سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي في الصحيح وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق، وآخرون كثيرون، واحتجوا في ذلك بأحاديث كثيرة; منها حديث ابن خزيمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن - أخرجه الطحاوي والطبراني، وإسناده صحيح.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: هي اللوطية [ ص: 118 ] الصغرى، يعني وطء النساء في أدبارهن
                                                                                                                                                                                  أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح، والطيالسي والبيهقي.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا ينظر الله - عز وجل - إلى رجل وطئ امرأة في دبرها. أخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة وابن ماجه وأحمد.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث جابر بن عبد الله نحو حديث خزيمة، وفي رواية: "لا يحل ما تأتي النساء في حشوشهن" وفي رواية: في "محاشهن" أخرجه الطحاوي.

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث طلق بن علي أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن" أخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة، وفي رواية: "في أعجازهن" أو قال: "في أدبارهن".

                                                                                                                                                                                  وأما الآية فتأولوها بـ فأتوا حرثكم أنى شئتم مستقبلين ومستدبرين، ولكن في موضع الحرث، وهو الفرج.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: القاعدة عندكم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؟

                                                                                                                                                                                  قلت: نعم، لكن وردت أحاديث كثيرة، فأخرجت الآية عن عمومها وأقصرتها على إباحة الوطء في الفرج، ولكن على أي وجه كان.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية