الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  388 61 - حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، عن سيف قال : سمعت مجاهدا قال : أتي ابن عمر فقيل له : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ! فقال ابن عمر : فأقبلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج وأجد بلالا قائما بين البابين ، فسألت بلالا فقلت : أصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ؟ قال : نعم ؛ ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت ، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله ( فصلى في وجه الكعبة ) ؛ أي : مواجه باب الكعبة ، وهو مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم خمسة ؛ الأول : مسدد بن مسرهد . الثاني : يحيى القطان . الثالث : سيف ؛ بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف ، وفي آخره فاء ، ابن سليمان - أو ابن أبي سليمان - المخزومي المكي ، ثبت صدوق ، مات سنة إحدى وخمسين ومائة . الرابع : مجاهد ، الإمام المفسر ، تكرر ذكره . الخامس : عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه السماع ، وفيه أن رواته ما بين بصري ومكي .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري في مواضع هنا عن مسدد عن يحيى ، وأخرجه أيضا عن أبي نعيم عن يحيى عن سيف ، وفي الحج عن قتيبة عن الليث عن ابن شهاب عن سالم ، وحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بين العمودين أخرجه البخاري أيضا في الصلاة . وفي الأطراف للمزي في المغازي عن إبراهيم بن المنذر ، وعن ابن [ ص: 132 ] محمد ، عن ابن المبارك ، وعن عبد الله بن يوسف عن مالك ، وعن موسى بن إسماعيل ، وعن محمد بن شريح بن النعمان . وفي الجهاد عن يحيى بن بكير عن الليث ، وفي الصلاة عن أبي النعمان وقتيبة ؛ كلاهما عن حماد بن زيد . وأخرجه مسلم في الحج عن قتيبة ومحمد بن رمح ؛ كلاهما عن الليث ، وعن حرملة ، وعن يحيى بن يحيى ، وعن أبي الربيع ، وعن ابن أبي عمر ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن محمد بن عبد الله بن نمير ، وعن زهير بن حرب ، وعن حميد بن مسعدة . وأخرجه أبو داود في الحج عن القعنبي ، وعن عبد الله بن محمد بن إسحاق ، وعن عثمان بن أبي شيبة . وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة ، وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين ، وعن يعقوب بن إبراهيم ، وعن أحمد بن سليمان ، وعن عمرو بن علي ، وعن محمد بن عبد الأعلى . وأخرجه ابن ماجه فيه عن عبد الرحمن بن إبراهيم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( أتي ابن عمر ) بضم الهمزة على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله ( خرج ) ؛ أي : من الكعبة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وأجد ) على صيغة المتكلم وحده من المضارع ، وكان المناسب أن يقول : " ووجدت " بعد قوله : " فأقبلت " ، لكنه عدل عن الماضي إلى المضارع حكاية عن الحال الماضية واستحضارا لتلك الحالة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بلالا ) منصوب لأنه مفعول أجد ، و : ( قائما ) منصوب لأنه حال من بلال .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بين البابين ) ، قال الكرماني : أي : مصراعي الباب ، إذ الكعبة لم يكن لها حينئذ إلا باب واحد ، وأطلق ذلك باعتبار ما كان من البابين لها في زمن إبراهيم عليه السلام أو أنه كان في زمان رواية الراوي لها بابان ؛ لأن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه جعل لها بابين . وقال بعضهم : بين البابين أي : المصراعين ، وحمله الكرماني على حقيقة التثنية وقال : أراد بالباب الثاني الباب الذي لم تفتحه قريش حين بنت الكعبة ، وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالا في وسط الكعبة وفيه بعد . قلت : الكرماني فسر قوله : " بين البابين " بثلاثة أوجه ، فأخذ هذا القائل الوجه الأول من تفسيره ولم يعزه إليه ، ثم نسب إليه ما لم تشهد به عبارته لأن عبارة الكرماني في شرحه ما ذكرته الآن ، ثم قال : وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالا في وسط الكعبة . قلت : هذه الملازمة ممنوعة ؛ لأن عبارة الكلام لا تقتضي ذلك ، ثم قال : وفيه بعد . قلت : ما فيه بعد ، بل البعد في الذي اختاره من التفسير وهو ظاهر لا يخفى ، وفي رواية الحموي " وأجد بلالا قائما بين الناس " بالنون والسين المهملة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( أصلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ) الهمزة فيه للاستفهام .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قال : نعم ؛ ركعتين ) ؛ أي : نعم ، صلى ركعتين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بين الساريتين ) تثنية سارية ، وهي الأسطوانة .

                                                                                                                                                                                  قوله ( على يساره ) ، الضمير فيه يرجع إلى الداخل بقرينة إذا دخلت ، وفي بعض النسخ " يسارك " وهذا هو المناسب ، أو كان يقول : إذا دخل ، ووجه الأول أن يكون من الالتفات أو يكون الضمير فيه عائدا إلى البيت .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ثم خرج ) ؛ أي : من البيت .

                                                                                                                                                                                  قوله ( في وجه الكعبة ) ؛ أي : مواجه باب الكعبة وهو مقام إبراهيم عليه السلام ، أو يكون المعنى في جهة الكعبة فيكون أعم من جهة الباب .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ركعتين ) مفعول قوله " فصلى " .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه ) : فيه جواز الدخول في البيت ، وفي المغني : ويستحب لمن حج أن يدخل البيت ويصلي فيه ركعتين كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يدخل البيت بنعليه ولا خفيه ، ولا يدخل الحجر أيضا لأن الحجر من البيت . وفيه استحباب الصلاة ركعتين في البيت ، فإن بلالا أخبر في هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه ركعتين ، قال النووي : أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت ومعه زيادة علم فوجب ترجيحه ، وأما نفي من نفى كأسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء ، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو فاشتغل هو أيضا بالدعاء في ناحية من نواحي البيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية أخرى وبلال قريب منه ، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه بلال لقربه ولم يره أسامة لبعده مع خفة الصلاة وإغلاق الباب واشتغاله بالدعاء ، وجاز له نفيها عملا بظنه . وقال بعض العلماء : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت مرتين ؛ فمرة صلى فيه ، ومرة دعا فلم يصل ، ولم تتضاد الأخبار . قلت : روى الدارقطني من حديث ابن عباس قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فصلى بين الساريتين ركعتين ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين ، ثم قال : هذه القبلة ، ثم دخل مرة أخرى فقام فيه يدعو ، ثم خرج ولم يصل . ( فإن قلت ) : روى الطبراني من حديث ابن عباس قال : ما أحب أن أصلي في الكعبة ، من صلى فيها فقد ترك شيئا خلفه ، ولكن حدثني أخي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخلها خر بين العمودين ساجدا ثم قعد فدعا ولم يصل - قلت : هذان نفي وإثبات في روايتين ؛ فرواية الإثبات مقدمة كما ذكرنا ، وكيف [ ص: 133 ] وقد صرح بلال في الحديث المذكور بقوله : نعم ؛ ركعتين . ( فإن قلت ) : قال الإسماعيلي : المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه أنه قال : ونسيت أن أسأله : كم صلى ؟ فدل على أنه أخبره بالكيفية وهي تعيين الموقف في الكعبة ، ولم يخبره بالكمية ونسي هو أن يسأله عنها - قلت : أجيب بأن المراد من قوله : صلى الصلاة المعهودة وأقلها ركعتان لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تنفل في النهار بأقل من ركعتين ، فكانت الركعتان متحققا وقوعهما ، وأصرح من هذا ما رواه عمرو بن أبي شيبة في كتاب مكة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث : فاستقبلني بلال ، فقلت : ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاهنا ؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى .فعلى هذا يحمل قوله " نسيت أن أسأله : كم صلى ؟ " على أنه لم يسأله باللفظ ولم يجبه باللفظ ، وإنما استفيد منه صلاته الركعتين بالإشارة لا بالنطق ، وقد قيل : يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالا ثم لقيه مرة أخرى فسأل ، وقال بعضهم : فيه نظر من وجهين ؛ أحدهما أن القصة لم تتعدد ؛ لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معا ، فقال في هذه : فأقبلت ، ثم قال : فسألت بلالا ، وقال في الأخرى : فبدرت فسألت بلالا ، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدا في وقت واحد . وثانيهما أن راوي قول ابن عمر " ونسيت " هو نافع مولاه ، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكاية النسيان ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلا .

                                                                                                                                                                                  قلت : في نظره نظر من وجوه ؛ الأول : أن قوله أن القصة لم تتعدد دعوى بلا برهان ، فما المانع من تعددها ؟ والثاني : أنه علل على ذلك بالفاء لكونها للتعقيب ، ولقائل أن يقول له : فلم لا يجوز أن تكون الفاء هاهنا بمعنى ثم كما في قوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فإن الفاء في " فخلقنا المضغة " وفي " فكسونا " بمعنى ثم لتراخي معطوفاتها ، وتارة تكون بمعنى الواو كما في قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                  بين الدخول فحومل

                                                                                                                                                                                  ولئن سلمنا أنها للتعقيب وهو في كل شيء بحسبه ، ألا ترى أنه يقال : تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل وإن كان مدة متطاولة ، ودخلت البصرة فبغداد إذا لم يقم في البصرة ولا بين البلدتين ؟ والثالث : أن قوله : " ويبعد مع طول ملازمته " إلى آخره غير بعيد ، فإن الإنسان مأخوذ من النسيان ، ( فإن قلت ) : قال عياض : إن قوله " ركعتين " غلط من يحيى بن سعيد القطان لأن ابن عمر قد قال : نسيت أن أسأله كم صلى ؟ وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين - قلت : لم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط ؛ فقد تابعه أبو نعيم عند البخاري والنسائي ، وأبو عاصم عند ابن خزيمة ، وعمر بن علي عند الإسماعيلي ، وعبد الله بن نمير عند أحمد عنه ؛ كلهم عن سيف ، ولم ينفرد به سيف أيضا ، فقد تابعه عليه خصيف عن مجاهد عند أحمد ، ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد ، والنسائي وعمرو بن دينار عند أحمد أيضا باختصار ، ومن حديث عثمان بن طلحة عند أحمد والطبراني بإسناد قوي ، ومن حديث أبي هريرة عند البزار ، ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان قال : فلما خرج سألت من كان معه فقالوا : صلى ركعتين عند السارية الوسطى . أخرجه الطبراني بإسناد صحيح ، ومن حديث شيبة بن عثمان قال : لقد صلى ركعتين عند العمودين ، أخرجه الطبراني بإسناد جيد ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقدم عياض على تغليط حافظ جهبذ من غير تأمل في بابه ؟ وفيه حجة لمن يقول : الأولى في نفل النهار ركعتان ، والشافعي يقول : الأفضل في النوافل مثنى مثنى في الليل والنهار ، وهو قول مالك وأحمد ، وقال أبو يوسف ومحمد : مثنى أفضل بالليل . وقال أبو حنيفة : الأربع أفضل في الليل والنهار ، واحتج في ذلك بحديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة يرقب صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ، وفيه : كان يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن . وفيه حجة على ابن جرير الطبري حيث قال بعدم جواز الصلاة في الكعبة فرضا كان أو نفلا ، وقال مالك : لا تصلى فيه الفريضة ولا ركعتا الطواف الواجب ، فإن صلى أعاد في الوقت ، ويجوز أن يصلي فيه النافلة ، وفي المسالك لابن العربي : روى محمد عن أصبغ أن من صلى في البيت أعاد أبدا . وقال محمد : لا إعادة عليه . وقال أشهب : من صلى على ظهر البيت أعاد أبدا . وعند أبي حنيفة : يجوز الفرض والنفل فيه ، وبه قال الشافعي . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية