الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4314 112 - حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة فدخلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، والمغيرة بضم الميم وكسرها ابن النعمان بضم النون النخعي الكوفي.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في آخر الكتاب عن أبي موسى وبندار، وأخرجه أبو داود في الفتن عن أحمد بن حنبل، وأخرجه النسائي في القصاص وفي المحاربة، وفي التفسير عن أزهر بن جميل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "آية اختلف فيها أهل الكوفة فدخلت فيها" وفي تفسير سورة الفرقان عن غندر عن شعبة بلفظ "اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فدخلت فيه إلى ابن عباس" وفي رواية الكشميهني "فرحلت" بالراء والحاء المهملة، وهذه أصوب، والوجه في رواية: "فدخلت" بالدال والخاء المعجمة أن يقدر شيء، تقديره: فدخلت بعد رحلتي إلى ابن عباس، وكلمة إلى يجوز أن تكون بمعنى عند، وعلى أصل بابها، والمعنى: انتهى دخولي إليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فيها" أي في حكمها، وقال الكرماني رحمه الله في قوله: "اختلف فيها أهل الكوفة" ويروى "اختلف فيها فقهاء أهل الكوفة" جمع فقيه، قال: ولفظ فيها حينئذ مقدر.

                                                                                                                                                                                  قوله: متعمدا " أي قاصدا قتله بعمد، وصورة العمد أن يقتله بالسيف أو بغيره مما يفرق الأجزاء من الآلات التي يقصد بها القتل، وانتصابه على الحال.

                                                                                                                                                                                  قوله: فجزاؤه " خبر قوله: ومن يقتل " ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.

                                                                                                                                                                                  قوله: "هي آخر ما نزل" أي الآية المذكورة آخر ما نزل في هذا الباب، وما نسخها شيء أي من آخر ما نزل، وذكر أبو جعفر النحاس أن للعلماء في هذه الآية الكريمة المذكورة أقوالا:

                                                                                                                                                                                  الأول: لا توبة له; روي ذلك عن ابن عباس وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن البصري والضحاك، فقالوا: الآية محكمة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أنه له توبة، قاله جماعة من العلماء، وروي أيضا عن ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن أمره إلى الله تعالى تاب أو لم يتب، وعليه الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن إدريس يقوله في كثير من هذا إلا أن يعفو الله تعالى عنه أو معنى هذا.

                                                                                                                                                                                  الرابع: قال أبو مجلز لاحق بن حميد: المعنى: جزاؤه إن جازاه، وروى عاصم بن أبي النجود عن ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: هو جزاؤه إن جازاه، وروى ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية "هو جزاؤه إن جازاه"

                                                                                                                                                                                  وذكر أبو عبد الله الموصلي الحنبلي في كتابه الناسخ والمنسوخ: ذهب كثير من العلماء إلى أن آية النساء منسوخة، ثم اختلفوا في الناسخ فقال بعضهم: نسختها آية الفرقان; لأنه قال إلا من تاب بعد ذكر الشرك والزنا والقتل، وقال أكثرهم: نسخت بقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقد اختلف عن ابن عباس أيضا فروي عنه أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك، وعنه نسختها التي في النساء، وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ: الآيتان لم يتواردا على حكم [ ص: 183 ] واحد; لأن التي في الفرقان نزلت في الكفار، والتي في النساء نزلت فيمن عقل الإيمان ودخل فيه، فلا تعارض بينهما، أو إنما نزلت آية النساء فيمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله متعمدا للتكذيب من غير جهالة، فتكذيبه كتكذيب إبليس; ولذلك قال ابن عباس: لا توبة له كما لا توبة لإبليس، وكيف يشكل حكم هذه الآية على عالم قد بينه الله عز وجل غاية البيان، وأخبر بأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك. انتهى.

                                                                                                                                                                                  وأما الذين قالوا: إن هذه الآية محكمة فاختلفوا في وجه إحكامها، فذهب عكرمة إلى أن المعنى: مستحلا لقتله فيستحق التخليد لاستحلاله، وذهب بعضهم إلى أنها لم يلحقها ناسخ وهي باقية على إحكامها، وقد روى عبد بن حميد وابن وكيع قالا: حدثنا جرير عن يحيى الجابري عن سالم بن أبي الجعد قال: "كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فناداه يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما قبل عرش الرحمن يلزمه قاتله بيده الأخرى يقول: سل هذا فيم قتلني؟ وايم الذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان".

                                                                                                                                                                                  وقال الثعلبي: قالت الخوارج والمعتزلة: المؤمن إذا قتل مؤمنا إن هذا الوعيد لاحق به، وقالت المرجئة: نزلت هذه الآية الكريمة في كافر قتل مؤمنا، فأما مؤمن قتل مؤمنا فلا يدخل النار، وقالت طائفة من أصحاب الحديث: نزلت في مؤمن قتل مؤمنا والوعيد عليه ثابت إلا أن يتوب ويستغفر، وقالت طائفة: كل مؤمن قتل مؤمنا فهو خالد في النار غير مؤبد، ويخرج منها بشفاعة الشافعين.

                                                                                                                                                                                  وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمنا لا يكفر بفعله، ولا يخرج به من الإيمان إلا أن يقتله استحلالا، فإن أقيد بمن قتله فذلك كفارة له، وإن كان تائبا من ذلك ولم يكن مقادا بمن قتل كانت التوبة أيضا كفارة له، فإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله تعالى، والعذاب قد يكون نارا وقد يكون غيرها في الدنيا، ألا ترى إلى قوله تعالى يعذبهم الله بأيديكم يعني بالقتل والأسر؟

                                                                                                                                                                                  ويجاب عن قول الخوارج ومن معهم بأن المراد من التخليد المكث بطول المدة، ألا ترى إلى قوله تعالى وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ومن المعلوم أن الدنيا تفنى، وعن قول المرجئة بأن كلمة من في الآية عامة، فإن قالوا: إن الله لا يغضب إلا على كافر أو خارج من الإيمان، فالجواب أن الآية لا توجب غضبا عليه; لأن معناه: فجزاؤه جهنم، وجزاؤه أن يغضب عليه ويلعنه، وما ذكر الله تعالى من شيء وجعله جزاء لشيء فليس ذلك واجبا، كقوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ورب محارب لله ورسوله لم يحل عليه شيء من هذه المعاني حتى فارق الدنيا.

                                                                                                                                                                                  وإن قالوا: قوله تعالى وغضب الله عليه ولعنه من الأفعال الماضية، فالجواب أنه قد يرد الخطاب بلفظ الماضي والمراد به المستقبل كقوله تعالى ونفخ في الصور وحشرناهم وقد يرد المستقبل بمعنى الماضي كقوله وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله أي إلا أن آمنوا.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: رويت أخبار بأن القاتل لا توبة له.

                                                                                                                                                                                  قلت: إن صحت فتأويلها: إذا لم ير القتل ذنبا ولم يستغفر الله تعالى منه، قال صاحب التلويح: ما رواه أبو الدرداء سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ولم يتب" وقال ابن كثير في تفسيره: وأما قول معاوية: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا" فعسى للترجي وانتفاء الترجي في هاتين الصورتين لا ينفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل. انتهى.

                                                                                                                                                                                  فهذا كما رأيت ذكره عن معاوية ولم يذكر لفظ "لم يتب" وأوله بهذا المعنى والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  وأجمع المسلمون على صحة توبة القاتل عمدا، وكيف لا تصح توبته وتصح توبة الكافر وتوبة من ارتد عن الإسلام، ثم قتل المؤمن عمدا، ثم رجع إلى الإسلام؟! وقال عبد الله بن عمر: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل المؤمن وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وقاطع الرحم، يعني لا نشك في الشهادة لهم بالنار حتى نزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك فأمسكنا عن الشهادة لهم.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ما تقول في الرجل الذي سأل أبا هريرة وابن عمر وابن عباس عن قتل العمد، فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا على وجه تعظيم القتل والزجر، وأما مطالبة المقتول [ ص: 184 ] القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين، وهو لا يسقط بالتوبة، فلا بد من أدائه، وإلا فلا بد من المطالبة يوم القيامة، ولكن لا يلزم من وقوع المطالبة المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته، ونحو ذلك. والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية