الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  422 93 - حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل : هذا الحديث لا يطابق الترجمة لأنها في كراهة الصلاة في المقابر ، والمراد من الحديث أن لا تكونوا في بيوتكم كالأموات في القبور حيث انقطعت عنهم الأعمال وارتفعت عنهم التكاليف وهو غير متعرض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر ، ولهذا قال : لا تتخذوها قبورا ، ولم يقل : مقابر . وقال الإسماعيلي : هذا الحديث يدل على النهي عن الصلاة في القبر لا في المقابر . وقال السفاقسي ما ملخصه : إن البخاري تأول هذا الحديث على منع الصلاة في المقابر ولهذا ترجم به ، وليس كذلك ؛ لأن منع الصلاة في المقابر أو جوازها لا يفهم منه . وقال بعضهم في رد ما قال الإسماعيلي ، قلت : قد ورد بلفظ المقابر كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر " ، انتهى . قلت : هذا عجيب ! كيف يقال : حديث يرويه غيره بأنه مطابق لما ترجم به ؟ وقال بعضهم أيضا في رد ما قاله السفاقسي : إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق فمسلم ، وإن أراد نفي ذلك مطلقا فلا ، فقد قدمنا وجه استنباطه ، انتهى . قلت : وجه استنباطه أنه قال : استنبط من قوله في الحديث : " ولا تتخذوها قبورا " أن القبور ليست بمحل للعبادة فتكون الصلاة فيها مكروهة ، وكأنه أشار إلى أن ما رواه أبو داود والترمذي في ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام . انتهى ، [ ص: 187 ] قلت : دعواه بأن البخاري استنبط كذا وأنه أشار إلى حديث أبي سعيد الخدري أعجب وأغرب من الأول ؛ لأن معنى قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " لا تتخذوها قبورا " لا تتخذوها خالية من الصلاة وتلاوة القرآن كالقبور حيث لا يصلى فيها ولا يقرأ القرآن ، ويدل على هذا ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبيه يرفعه : نوروا بيوتكم بذكر الله تعالى وأكثروا فيها تلاوة القرآن ، ولا تتخذوها قبورا كما اتخذها اليهود والنصارى ، فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله ويكثر خيره وتحضره الملائكة وتدحض عنه الشياطين ، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يضيق على أهله ويقل خيره وتنفر منه الملائكة وتحضر فيه الشياطين . انتهى ، وأيضا فإن معنى هذا على التشبيه البليغ ، فحذفت منه أداة التشبيه لأن معناه : لا تجعلوها مثل القبور حيث لا يصلى فيها ، ولا دلالة لهذا أصلا على أنها ليست بمحل للعبادة بنوع من أنواع الدلالات اللفظية .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم خمسة ؛ مسدد بن مسرهد ، ويحيى القطان ، وعبيد الله بن عمر العمري ، ونافع مولى ابن عمر ، وعبد الله بن عمر ، والكل ذكروا غير مرة .

                                                                                                                                                                                  وفيه من لطائف الإسناد : التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد ، وفيه العنعنة في موضعين .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم عن محمد بن المثنى ، وأبو داود عن أحمد بن حنبل ومسدد فرقهما ، وابن ماجه عن زيد بن أخزم وعبد الرحمن بن عمرو مختصرا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( من صلاتكم ) ، قيل : أي بعض صلاتكم . قال الكرماني : هو مفعول الجعل ، وهو متعد إلى واحد كقوله تعالى : وجعل الظلمات والنور وهو إذا كان بمعنى التصيير يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض قلت : معنى قوله : " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم " صلوا فيها ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة ، والمراد صلاة النافلة ؛ أي : صلوا النوافل في بيوتكم . وقال القاضي عياض : قيل : هذا في الفريضة ، ومعناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وعبيد ومريض ونحوهم . قال : وقال الجمهور : بل هو في النافلة لإخفائها وللحديث الآخر " أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " . قلت : فعلى التقدير الأول يكون من في .

                                                                                                                                                                                  قوله ( من صلاتكم ) زائدة ، ويكون التقدير : اجعلوا صلاتكم في بيوتكم ، ويكون المراد منها النوافل ، وعلى التقدير الثاني تكون " من " للتبعيض مطلقا ويكون المراد من الصلاة مطلق الصلاة ويكون المعنى اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم ، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض على أن الأصح منع مجيء من زائدة في الكلام المثبت ، ولا يجوز حمل الكلام على الفريضة لا كلها ولا بعضها لأن الحث على النفل في البيت وذلك لكونه أبعد من الرياء وأصون من المحبطات وليتبرك به البيت وتنزل الرحمة فيه والملائكة وتنفر الشياطين منه على ما دل عليه الحديث الذي أخرجه الطبراني الذي ذكرناه عن قريب .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ولا تتخذوها قبورا ) من التشبيه البليغ البديع بحذف حرف التشبيه للمبالغة ، وهو تشبيه البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه ، وقال الخطابي : يحتمل أن يكون معناه : لا تجعلوا بيوتكم أوطانا للنوم لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت . وقال : وأما من أوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشيء ، وقد دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته . وقال الكرماني : هو شيء فيه نظر ، ودفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه لعله من خصائصه سيما وقد روي " الأنبياء يدفنون حيث يموتون " . قلت : هذه الرواية رواها ابن ماجه من حديث ابن عباس عن أبي بكر مرفوعا " ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض " ، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف ، وروى الترمذي في الشمائل والنسائي في الكبرى من طريق سالم بن عبيد الأشجعي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : وأين يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : في المكان الذي قبض الله فيه روحه ، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب . وهذا الإسناد صحيح ولكنه موقوف ، وحديث ابن ماجه أكثر تصريحا في المقصود .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : وإذا حمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك ، بل هو متجه لأن استمرار الدفن في البيوت ربما يصيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة ، ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب وهو قوله : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر " ، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا . قلت : لا نسلم هذا الاقتضاء من ظاهر اللفظ ، بل المعنى الذي يدل عليه ظاهر اللفظ : لا تجعلوا بيوتكم [ ص: 188 ] خالية عن الصلاة كالمقابر فإنها ليست بمحل للعبادة ، ولهذا احتجت به طائفة على كراهة الصلاة في المقابر .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه ) : قال الخطابي : فيه دليل على أن الصلاة لا تجوز في المقابر . قلت : الحديث لا يدل على هذا ، بل ترجمة الباب تساعده على ذلك وقد حققنا الكلام فيه ، وقد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة تدل على كراهة الصلاة في المقابر ، بل استدلت بها جماعة على عدم الجواز كما ذكرنا فيما مضى وهي ما روي عن أبي سعيد الخدري وعلي وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وجابر وابن عباس وحذيفة وأنس وأبي أمامة وأبي ذر . وقال الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر أبو عمار الحسين بن حريث قال : أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام . ثم قال : وفي الباب عن علي ، وذكر من ذكرناهم إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  وللعلماء قولان في معنى حديث الباب ؛ أحدهما : أنه ورد في صلاة النافلة ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد سن الصلوات في جماعة كما هو مقرر في الشرع . والثاني : أنه ورد في صلاة الفريضة ليقتدي به من لا يستطيع الخروج إلى المسجد ، وقد ذكرناه مفصلا عن قريب ، ومن صلى في بيته جماعة فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها . وقال إبراهيم : إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة ولهما التضعيف خمسا وعشرين درجة ، وروي أن إسحاق وأحمد وعلي بن المديني اجتمعوا في دار أحمد فسمعوا النداء ، فقال أحدهم : اخرج بنا إلى المسجد . فقال أحمد : خروجنا إنما هو للجماعة ، ونحن جماعة . فأقاموا الصلاة وصلوا في البيت . وقد روي عن جماعة أنهم كانوا لا يتطوعون في المسجد ؛ منهم حذيفة والسائب بن يزيد والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة ، ومن هذا أخذ علماؤنا أن الأفضل في غير الفرائض المنزل ، وروى ابن أبي شيبة بسند جيد عن زيد بن خالد الجهني يرفعه : صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا . وروي أيضا من حديث جعفر بن إبراهيم عن ولد ذي الجناحين ، حدثني علي بن عمر ، عن أبيه جعفر الطيار ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده يرفعه : لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا . وقال الطحاوي : حدثنا أبو بكرة قال : حدثنا أبو المطرف بن أبي الوزير قال : حدثنا محمد بن موسى ، عن سعيد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل ، فلما فرغ رأى الناس يسبحون ، فقال : يا أيها الناس ، إنما هذه الصلاة في البيوت .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود وابن ماجه أيضا ، وروى الطحاوي أيضا عن بحر بن نصر بإسناده عن عبد الله بن سعد قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد فقال : قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة . وأخرجه الطبراني أيضا ، ثم قال الطحاوي : باب القيام في شهر رمضان ، هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام ؟ ثم روى حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : صمت مع النبي صلى الله عليه وسلم . . . الحديث ، وفيه : إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة . ثم قال : فذهب قوم إلى أن القيام في شهر رمضان مع الإمام أفضل منه في المنازل ، واحتجوا في ذلك بما ذكرنا ، وأراد بهؤلاء الليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وإسحاق وأحمد فإنهم قالوا : القيام مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل . وقال أبو عمر : قال أحمد بن حنبل : القيام في المسجد مع الإمام أحب إلي وأفضل من صلاة المرء في بيته . وقال به قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي ؛ فمن أصحاب أبي حنيفة عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران ، ومن أصحاب الشافعي إسماعيل بن يحيى المزني ومحمد بن عبد الله بن الحكم . وقال أحمد : كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في جماعة . قلت : ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب ومحمد بن سيرين وطاووس ، وهو مذهب أصحابنا الحنفية . وقال صاحب الهداية : يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات . ثم قال : والسنة فيها الجماعة على وجه الكفاية حتى لو امتنع أهل مسجد عن إقامتها كانوا مسيئين ، ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة لأن أفراد الصحابة يروى عنهم التخلف . ثم قال الطحاوي : وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا : بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام ، وأراد بهؤلاء القوم مالكا والشافعي وربيعة وإبراهيم والحسن البصري والأسود وعلقمة ، فإنهم قالوا : بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام . وقال أبو عمر : اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان ؛ فقال مالك والشافعي : صلاة المنفرد في بيته أفضل . وقال مالك : وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون [ ص: 189 ] ولا يقومون مع الناس . وقال مالك : وأنا أفعل ذلك ، وما قام رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلا في بيته . وروي ذلك عن ابن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس ، وقال الترمذي : واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئا ، ثم احتج الطحاوي بهؤلاء بما رواه زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة . ثم روي عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يصلي خلف الإمام في شهر رمضان ، وروي أيضا عن إبراهيم النخعي ، وذهب إليه الطحاوي أيضا حتى قال في آخر الباب : وذلك هو الصواب . .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية