الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4468 266 - حدثنا إسحاق ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني الزهري ، عن سهل بن سعد ، أن عويمرا أتى عاصم بن عدي - وكان سيد بني عجلان - فقال : كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا ; أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع ؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، فكره رسول الله [ ص: 74 ] صلى الله عليه وسلم المسائل ، فسأله عويمر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها . قال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . فجاء عويمر فقال : يا رسول الله ، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك ، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة ، بما سمى الله في كتابه ، فلاعنها ثم قال : يا رسول الله ، إن حبستها فقد ظلمتها . فطلقها ، فكانت سنة لمن كان بعدهما في المتلاعنين ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظروا ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة ، فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها ، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر ، فكان بعد ينسب إلى أمه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة تؤخذ من ظاهر الحديث .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم سبعة ; الأول : إسحاق ، ذكر غير منسوب ، وقال بعضهم : وعندي أنه ابن منصور . قلت : لا حاجة إلى قوله وعندي ، لأن ابن الغساني قال : إنه منصور . الثاني : محمد بن يوسف ، أبو عبد الله الفريابي ، وهو من مشايخ البخاري ، وروى عنه بالواسطة . الثالث : عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي . الرابع : محمد بن مسلم الزهري . الخامس : سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري رضي الله عنه ، وهؤلاء رواة الحديث . السادس : عويمر ، مصغر عامر ، ابن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجد بن العجلاني ، كذا ذكره صاحب التوضيح ، وقال الذهبي : عويمر بن أبيض ، وقيل : ابن أشقر العجلاني الأنصاري صاحب قصة اللعان . وقيل : هو ابن الحارث . السابع : عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان بن حارثة العجلاني ، وهو أخو معن بن عدي ، ووالد أبي البداح بن عاصم ، وعاش عاصم عشرين ومائة سنة ، ومات في سنة خمس وأربعين ، وذكر موسى بن عقبة أنه وأخاه من شهداء بدر ، ومعن قتل باليمامة رضي الله تعالى عنهما .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الطلاق عن إسماعيل بن عبد الله ، وفي التفسير عن عبد الله بن يوسف ، وفي الاعتصام عن آدم ، وفي الأحكام وفي المحاربين عن علي بن عبد الله ، وفي التفسير أيضا عن أبي الربيع الزهراني ، وفي الطلاق أيضا عن يحيى . وأخرجه مسلم في اللعان عن يحيى وغيره . وأخرجه أبو داود في الطلاق عن القعنبي وغيره . وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن مسلمة . وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي مروان محمد بن عثمان .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معانيه ) : قوله : " أيقتله " ، الهمزة فيه للاستفهام ، على سبيل الاستخبار ، أي : أيقتل الرجل ؟ قوله : " سل " أصله اسأل ، فنقلت حركة الهمزة إلى السين بعد حذفها للتخفيف واستغني عن همزة الوصل فحذفت ، فصار سل ، على وزن فل . قوله : " فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المسائل " إنما كره لأن سؤال عاصم فيه عن قضية لم تقع بعد ولم يحتج إليها ، وفيها إشاعة على المسلمين والمسلمات وتسليط اليهود والمنافقين في الكلام في عرض المسلمين ، وفي رواية مسلم " فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال : يا عاصم ، ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عاصم لعويمر : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها . قال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها . فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال : يا رسول الله ، أرأيت .. " إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة " أي : ملاعنة الرجل امرأته ، وسميت بذلك لقول الزوج : وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين ، واختير لفظ اللعن على لفظ الغضب وإن كانا موجودين [ ص: 75 ] في الآية الكريمة وفي صورة اللعان ، لأن لفظ اللعن متقدم في الآية ، ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها ، لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها ، ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس . وقيل : سمي لعانا من اللعن وهو الطرد والإبعاد ، لأن كلا منهما يبعد عن صاحبه ويحرم النكاح بينهما على التأبيد ، بخلاف المطلق وغيره ، وكانت قصة اللعان في شعبان سنة تسع من الهجرة ، وممن نقله القاضي عن الطبري ، واختلف العلماء في سبب نزول آية اللعان هل هو بسبب عويمر العجلاني ، أم بسبب هلال بن أمية ؟ فقال بعضهم : بسبب عويمر العجلاني ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك " . وقال جمهور العلماء : سبب نزولها قصة هلال ، قال : وكان أول رجل لاعن في الإسلام . وجمع الداودي بينهما باحتمال كونهما في وقت ، فنزل القرآن فيهما أو يكون أحدهما وهما . وقال الماوردي : النقل فيهما مشتبه مختلف ، وقال ابن الصباغ : قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام لعويمر " إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك " ، فمعناه ما نزل في قصة هلال ، لأن ذلك حكم عام لجميع الناس . وقال النووي : لعلهما سألا في وقتين متقاربين ، فنزلت الآية فيهما ، وسبق هلال باللعان فيصدق أنها نزلت في ذا وذاك . قلت : هذا مثل جواب الداودي بالوجه الأول ، وهو الأوجه . فإن قلت : جاء في حديث أنس بن مالك " هلال بن أمية " وفي حديث ابن عباس " لاعن بين العجلاني وامرأته " وفي حديث عبد الله بن مسعود " وكان رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاعن امرأته " . قلت : لا اختلاف في ذلك ، لأن العجلاني هو عويمر ، وكذا في قول ابن مسعود ، وكان رجلا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فتلاعنا " ، فيه حذف ، والتقدير أنه سأل وقذف امرأته وأنكرت الزنا ، وأصر كل واحد منهما على كلامه ، ثم تلاعنا ، والفاء فيه فاء الفصيحة . قوله : " إن حبستها فقد ظلمتها ، فطلقها " يفهم من ذلك أن بمجرد اللعان لا تحصل الفرقة ، على ما نذكره في استنباط الأحكام . قوله : " فكانت " أي : الملاعنة ، كانت سنة بالوجه المذكور لمن يأتي بعدهما من المتلاعنين . قوله : " فإن جاءت به " أي : بالولد ، " أسحم " بالحاء المهملة وهو شديد السواد . قوله : " أدعج العينين " الدعج في العين شدة سوادها ، وفي حديث ابن عباس الآتي " أكحل العينين " . قوله : " عظيم الأليتين " بفتح الهمزة العجز ، يقال : رجل ألي وامرأة عجزاء ، وفي حديث ابن عباس " سابغ الأليتين " . قوله : " خدلج الساقين " الخدلج بفتح الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وفتح اللام المشددة وبالجيم : العظيم ، وساق خدلجة مملوءة . قوله : " أحيمر " تصغير أحمر ، وقال ابن التين : الأحمر الشديد الشقرة . قوله : " وحرة " بفتح الواو وبالحاء المهملة والراء ، وهي دويبة حمراء تلزق بالأرض كالعظاءة . قوله : " فكان بعد " أي : بعد أن جاء الولد ينسب إلى أمه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر استنباط الأحكام ) : وهو على وجوه ، الأول : فيه الاستعداد للوقائع قبل وقوعها ليعلم أحكامها . الثاني : فيه الرجوع إلى من له الأمر . الثالث : فيه أداء الأحكام على الظاهر والله يتولى السرائر . الرابع : فيه كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها ، لا سيما ما كان فيه هتك سيرة مسلم أو مسلمة أو إشاعة فاحشة على مسلم أو مسلمة . الخامس : فيه أن العالم يقصد في منزله للسؤال ، ولا ينتظر به عند تصادفه في المسجد أو الطريق .

                                                                                                                                                                                  السادس : اختلف العلماء فيمن قتل رجلا وزعم أنه وجده قد زنا بامرأته ، فقال جمهورهم : لا يقتل بل يلزمه القصاص ، إلا أن تقوم بذلك بينة أو تعترف به ورثة القتيل ، والبينة أربعة من عدول الرجال يشهدون على نفس الزنا ، ويكون القتيل محصنا ، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان صادقا فلا شيء عليه ، وقال بعض الشافعية : يجب على كل من قتل زانيا محصنا القصاص . السابع : فيه مشروعية اللعان ، وهو مقتبس من قوله تعالى والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين وقال أصحابنا : اللعان شهادة مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن والغضب ، وأنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف ، وفي جانبها قائم مقام حد الزنا ، وقال الشافعي : اللعان إنما كان بلفظ الشهادة مقرونة بالغضب أو اللعن ، فكل من كان من أهل الشهادة واليمين كان من أهل اللعان ، ومن لا فلا عندنا ، وكل من كان من أهل اليمين فهو من أهل اللعان عنده ، سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن ، ومن لم يكن من أهل الشهادة ولا من أهل اليمين لا يكون من أهل اللعان بالإجماع .

                                                                                                                                                                                  الثامن : أن اللعان يكون بحضرة الإمام أو القاضي ، وبمجمع من الناس ، وهو أحد أنواع تغليظ اللعان ، وقال النووي : يغلظ اللعان بالزمان والمكان والمجمع ، فأما الزمان فبعد العصر والمكان في أشرف موضع في ذلك البلد ، والمجمع طائفة من الناس وأقلهم أربعة ، وهل هذه التغليظات واجبة أم مستحبة ؟ فيه خلاف عندنا ، الأصح الاستحباب .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 76 ] التاسع : فيه أن بمجرد اللعان لا تقع الفرقة بل تقع بحكم الحاكم عند أبي حنيفة ، كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم " فطلقها " ، ولما في حديث ابن عمر أخرجه مسلم " ثم فرق بينهما " وبه قال الثوري وأحمد ، وفي مذهب مالك أربعة أقوال ; أحدها : أن الفرقة لا تقع إلا بالتعانهما جميعا ، والثاني : وهو ظاهر قول مالك في الموطأ ، أنها تقع بلعان الزوج ، وهو رواية أصبغ ، والثالث : قول سحنون ، يتم بلعان الزوج مع نكول المرأة ، والرابع : قول ابن القاسم ، يتم بالتعان الزوج إن التعنت ، فحاصل مذهب مالك أنها تقع بينهما بغير حكم حاكم ولا تطليق ، وبه قال الليث والأوزاعي وأبو عبيد وزفر بن هزيل . وعند الشافعي تقع بالتعان الزوج . واتفق أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، أن اللعان حكمه وسنته الفرقة بين المتلاعنين إما باللعان وإما بتفريق الحاكم ، على ما ذكرنا من مذاهبهم ، وهو مذهب أهل المدينة ومكة وكوفة والشام ومصر . وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة : إذا تلاعنا لم ينقص اللعان شيئا من العصمة حتى يطلق الزوج ، قال : وأحب إلي أن يطلق . وقال الإشبيلي : هذا قول لم يتقدمه أحد إليه . قلت : حكى ابن جرير هذا القول أيضا عن أبي الشعثاء جابر بن زيد ، ثم اختلفوا أن الفرقة بين المتلاعنين فسخ أو تطليقة ; فعند أبي حنيفة وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب : هي طلقة واحدة ، وقال مالك والشافعي : هي فسخ .

                                                                                                                                                                                  العاشر : فيه أنهما لا يجتمعان أصلا ، لقوله : " فكانت سنة لمن كان بعدهما " . الحادي عشر : فيه الاعتبار بالشبه لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم اعتبر الشبه ولكن لم يحكم به لأجل ما هو أقوى من الشبه ، فلذلك قال في ولد وليدة زمعة لما رأى الشبه بعينه احتجبي منه يا سودة ، وقضى بالولد للفراش ، لأنه أقوى من الشبه ، وحكم بالشبه في حكم القافة إذ لم يكن هناك شيء أقوى من الشبه . الثاني عشر : فيه إثبات التوارث بينها وبين ولدها ، يفهم ذلك من قوله " فكان بعد ينسب إلى أمه " ، وجاء في حديث يأتي أصرح منه وهو قوله " ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها " وهذا إجماع فيما بينه وبين الأم ، وكذا بينه وبين أصحاب الفروض من جهة أمه ، وبه قال الزهري ومالك وأبو ثور ، وقال أحمد : إذا انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة . وقال أبو حنيفة : إذا انفردت أخذت الجميع ، لكن الثلث فرضا والباقي ردا ، على قاعدته في إثبات الرد .

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر : فيه أن شرط اللعان أن يكون بين الزوجين ، لأن الله خصه بالأزواج بقوله والذين يرمون أزواجهم فعلى هذا إذا تزوج امرأة نكاحا فاسدا ثم قذفها لم يلاعنها لعدم الزوجية . وقال الشافعي : يلاعنها إذا كان القذف ينفي الولد ، وكذا لو طلق امرأته طلاقا بائنا أو ثلاثا ثم قذفها بالزنا لا يجب اللعان ، ولو طلقها طلاقا رجعيا ثم قذفها يجب اللعان ، ولو قذفها بزنا كان قبل الزوجية فعليه اللعان عندنا لعموم الآية ، خلافا للشافعي ، ولو قذف امرأته بعد موتها لم يلاعن عندنا ، وعند الشافعي يلاعن على قبرها .

                                                                                                                                                                                  الرابع عشر : فيه سقوط الحد عن الرجل ، وذلك لأجل أيمانه سقط الحد . الخامس عشر : فيه أن شرط وجوب اللعان عدم إقامة البينة ، لقوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء حتى لو أقامهم الزوج عليها بالزنا لا يجب اللعان ، ويقام عليها الحد . السادس عشر : فيه إشارة إلى أن شرط وجوب اللعان إنكار المرأة وجود الزنا ، حتى لو أقرت بذلك لا يجب اللعان ، ويلزمها حد الزنا ; الجلد إن كانت غير محصنة والرجم إذا كانت محصنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية