الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  450 122 - ( حدثنا عبد الله بن يوسف قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من الترجمة ظاهرة كما في الأثر المذكور .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) ، وهم أربعة : الأول : عبد الله بن يوسف التنيسي . الثاني : الليث بن سعد . الثالث : سعيد بن أبي سعيد المقبري ، والكل تقدموا . الرابع : أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث في ثلاثة مواضع في موضعين بصيغة الجمع ، وفي موضع بصيغة الإفراد ، وفيه السماع والقول ، وفيه أن رواته ما بين بصري ومدني .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الأشخاص عن قتيبة ، وعنه أيضا في الصلاة ، وأخرجه أيضا في الصلاة والأشخاص والمغازي عن عبد الله بن يوسف ، وأخرجه مسلم في المغازي عن قتيبة ، وأخرجه أبو داود في الجهاد ، وعن عيسى بن حماد ، وقتيبة ، وأخرجه النسائي في الطهارة عن قتيبة ببعضه وببعضه في الصلاة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) ؛ قوله ( خيلا ) الخيل الفرسان قاله الجوهري ، والخيل أيضا الخيول ، وقال بعضهم : أي : رجالا على خيل . قلت : هذا تفسير من عنده ، وهو غير صحيح بل المراد ههنا من الخيل هم الفرسان ، ومنه قوله تعالى : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أي : بفرسانك ورجالتك ، والخيالة أصحاب الخيول ، وقال ابن إسحاق : السرية التي أخذت ثمامة كان أميرها محمد بن مسلمة أرسله صلى الله تعالى عليه وسلم في ثلاثين راكبا إلى القرطاء من بني أبي بكر بن كلاب بناحية ضرية بالبكرات لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست ، وعند ابن سعد على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة ، وكانت غيبته بها تسع عشرة ليلة ، وقدم لليلة بقيت من المحرم ؛ قوله ( القرطاء ) بضم القاف وفتح الراء والطاء المهملة ، وهم نفر من بني أبي بكر [ ص: 237 ] ابن كلاب ، وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضرية ، وبين ضرية والمدينة سبع ليال ، وضرية بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف ، وهي أرض كثيرة العشب وإليها ينسب الحمى ، وضرية في الأصل بنت ربيعة بن نذار بن معد بن عدنان ، وسمي الموضع المذكور باسمها ، والبكرات بفتح الباء الموحدة في الأصل جمع بكرة ، وهي ماء بناحية ضرية .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قبل نجد ) بكسر القاف وفتح الباء الموحدة ، وهو الجهة ، ونجد بفتح النون وسكون الجيم ، وهو في جزيرة العرب ؛ قال المدائني : جزيرة العرب خمسة أقسام : تهامة ونجد وحجاز ، وعروض ، ويمن ، أما تهامة فهي الناحية الجنوبية من الحجاز ، وأما نجد فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق ، وأما الحجاز فهو جبل سد من اليمن حتى يتصل بالشام ، وفيه المدينة وعمان ، وأما العروض فهي اليمامة إلى البحرين ، وقال الواقدي : الحجاز من المدينة إلى تبوك ، ومن المدينة إلى طريق الكوفة ، ومن وراء ذلك إلى أن يشارف أرض البصرة فهو نجد ، وما بين العراق وبين وجرة ، وعمرة الطائف نجد ، وما كان وراء وجرة إلى البحر فهو تهامة ، وما كان بين تهامة ونجد فهو حجاز سمي حجازا لأنه يحجز بينهما ؛ قوله ( ثمامة ) بضم الثاء المثلثة ، وتخفيف الميم ، وبعد الألف ميم أخرى مفتوحة ، وأثال بضم الهمزة وتخفيف الثاء المثلثة ، وبعد الألف لام .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فانطلق إلى نجل ) أي : فأطلقوه فانطلق إلى نجل ، ونجل بفتح النون وسكون الجيم ، وفي آخره لام ، وهو الماء النابع من الأرض ، وقال الجوهري : استنجل الموضع أي : كثر به النجل ، وهو الماء يظهر من الأرض ، وهكذا وقع في النسخة المقروءة على أبي الوقت ، وكذا زعم ابن دريد ، وفي أكثر الروايات إلى نخل بالخاء المعجمة ، وكذا في رواية مسلم ، ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) من حديث أبي هريرة " أن ثمامة أسر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إليه فيقول : ما عندك يا ثمامة فيقول : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تمن تمن على شاكر ، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء ، ويقولون : ما نصنع بقتل هذا ؟ فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوما فأسلم فحله ، وبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين فقال صلى الله عليه وسلم : لقد حسن إسلام أخيكم " ، وبهذا اللفظ أخرجه أيضا ابن حبان في ( صحيحه ) ، وأخرجه البزار أيضا بهذه الطريق ، وفيه : " فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يغتسل بماء وسدر " ، وفي بعض الروايات : " أن ثمامة ذهب إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل " ، وفي ( تاريخ البرقي ) فأمره أن يقوم بين أبي بكر وعمر فيعلمانه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه من الفوائد ) الأولى : جواز دخول الكافر المسجد ، قال ابن التين : وعن مجاهد ، وابن محيريز جواز دخول أهل الكتاب فيه ، وقال عمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، ومالك ، والمزني : لا يجوز ؛ وقال أبو حنيفة : يجوز للكتابي دون غيره ، واحتج بما رواه أحمد في ( مسنده ) بسند جيد عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم " ، واحتج مالك بقوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد وبقوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ودخول الكفار فيها مناقض لرفعها ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : " إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر " ، والكافر لا يخلو عن ذلك ، وبقوله عليه السلام : " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ، والكافر جنب ، ومذهب الشافعي أنه يجوز بإذن المسلم سواء كان الكافر كتابيا أو غيره ، واستثنى الشافعي من ذلك مسجد مكة وحرمه ، وحجته حديث ثمامة ، وبأن ذات المشرك ليست بنجسة .

                                                                                                                                                                                  الثانية : فيه أسر الكافر وجواز إطلاقه ، وللإمام في حق الأسير العاقل القتل أو الاسترقاق أو الإطلاق منا عليه أو الفداء ؛ قال الكرماني : يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أطلق ثمامة لما علم أنه آمن بقلبه ، وسيظهره بكلمة الشهادة ، وقال ابن الجوزي : لم يسلم تحت الأسر لعزة نفسه ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بذلك منه فقال : أطلقوه ، فلما أطلق أسلم . قلت : يرد هذا حديث أبي هريرة الذي رواه ابن خزيمة ، وابن حبان الذي ذكرناه الآن ، وفيه : " فمر صلى الله عليه وسلم يوما فأسلم فحله " ، فهذا يصرح بأن إسلامه كان قبل إطلاقه فيعذر الكرماني في هذا لأنه قال بالاحتمال ، ولم يقف على حديث أبي هريرة ، وأما ابن الجوزي ، فكيف غفل عن ذلك مع كثرة اطلاعه في الحديث .

                                                                                                                                                                                  الثالثة : فيه جواز ربط الأسير في المسجد ، وقال القرطبي : يمكن أن يقال : ربطه بالمسجد لينظر حسن صلاة المسلمين ، واجتماعهم عليها فيأنس لذلك . قلت : يوضح هذا ما رواه ابن خزيمة في ( صحيحه ) عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ليكون أرق لقلوبهم [ ص: 238 ] وقال جبير بن مطعم فيما ذكره أحمد رحمه الله : دخلت المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب فقرأ بالطور ، فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن ، وقيل : يمكن أن يكون ربطه بالمسجد لأنه لم يكن لهم موضع يربط فيه إلا المسجد .

                                                                                                                                                                                  الرابعة : فيه اغتسال الكافر إذا أسلم ، وذهب الشافعي إلى وجوبه على الكافر إذا أسلم إن كانت عليه جنابة في الشرك سواء اغتسل منها في الشرك أو لا ، وقال بعض أصحابه : إن كان اغتسل منها أجزأه ، وإلا وجب ، وقال بعض أصحابه وبعض المالكية : لا غسل عليه ، ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب ، وضعفوا هذا بالوضوء ، وأنه يلزم بالإجماع هذا إذا كان أجنب في الكفر ، أما إذا لم يجنب أصلا ثم أسلم فالغسل مستحب ، وكذا قاله مالك ، وقال القرطبي : وهذا الحديث يدل على أن غسل الكافر كان مشروعا عندهم معروفا ، وهذا ظاهر البطلان ، وقال أيضا : والمشهور من قول مالك أنه إنما يغتسل لكونه جنبا ، قال : ومن أصحابنا من قال إنه يغتسل للنظافة واستحبه ابن القاسم ، ولمالك قول : إنه لا يعرف الغسل رواه عنه ابن وهب ، وابن أبي أويس ، وقال ابن بطال : أوجب الإمام أحمد الغسل على من أسلم ، وقال الشافعي : أحب أن يغتسل ، فإن لم يكن جنبا أجزأه أن يتوضأ ، وقال مالك : إذا أسلم النصراني فعليه الغسل لأنهم لا يتطهرون ، فقيل : معناه لا يتطهرون من النجاسة في أبدانهم لأنه يستحيل عليهم التطهر من الجنابة وإن نووها لعدم الشرع ، وقال : وليس في الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمره بالاغتسال ، ولذلك قال مالك : لم يبلغنا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أحدا أسلم بالغسل .

                                                                                                                                                                                  قلت : قد مر في حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والبزار ، وفيه : فأمره أن يغتسل ، وفي ( تاريخ نيسابور ) للحاكم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبيه عن جده قال : لما أسلمت أمرني النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال ، وفي ( الحلية ) لأبي نعيم عن واثلة قال : " لما أسلمت قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اغتسل بماء وسدر ، واحلق عنك شعر الكفر " ، وفي كتاب القرطبي روى عبد الرحيم بن عبيد الله بن عمر عن أبيه عن نافع عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أسلم أن يغتسل " ، وروى مسلم بن سالم عن أبي المغيرة عن البراء بن عازب : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أسلم أن يغتسل بماء وسدر " .

                                                                                                                                                                                  الخامسة : أخذ ابن المنذر من هذا الحديث جواز دخول الجنب المسلم المسجد ، وأنه أولى من المشرك لأنه ليس بنجس بخلاف المشرك .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية