الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  488 [ ص: 293 ] 159 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك ، عن أبي النضر ، مولى عمر بن عبيد الله ، عن بسر بن سعيد ، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله : ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي ؟ فقال أبو جهيم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه ، قال أبو النضر : لا أدري أقال أربعين يوما ، أو شهرا ، أو سنة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم ستة ، قد ذكروا ، وأبو النضر بفتح النون ، وسكون الضاد المعجمة ، اسمه سالم ابن أبي أمية ، وبسر بضم الباء الموحدة ، وسكون السين المهملة ، الحضرمي المدني الزاهد ، مات سنة مائة ، ولم يخلف كفنا ، وزيد بن خالد الجهني الصحابي ، وأبو جهيم بضم الجيم ، وفتح الهاء ، واسمه عبد الله بن جهيم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد ، والإخبار كذلك ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه تابعي وصحابيان ، وفيه أبو جهيم بالتصغير ، مر في باب التيمم في الحضر ، وقال ابن عبد البر : راوي حديث المرور هو غير راوي حديث التيمم ، وقال الكلاباذي : أبو جهيم ، ويقال : أبو جهم بن الحارث ، روى عنه البخاري في الصلاة والتيمم ، وقال النووي : أبو جهيم راوي حديث المرور وحديث التيمم غير أبي الجهم مكبرا المذكور في حديث الخميصة والأنبجانية ؛ لأن اسمه عبد الله ، وهو أنصاري ، واسم ذلك عامر ، وهو عدوي ، وقال الذهبي : أبو الجهيم يقال : أبو الجهم بن الحارث بن الصمة كان أبوه من كبار الصحابة ، ثم قال : أبو جهيم عبد الله بن جهيم جعله وابن الصمة واحدا أبو نعيم ، وابن منده ، وكذا قاله مسلم في بعض كتبه ، وجعلهما ابن عبد البر اثنين ، وهو أشبه ، لكن متن الحديث واحد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر من أخرجه غيره ) أخرجه بقية الستة ، قال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن عيينة عن أبي النضر عن بسر ، قال : ( أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله عن المرور بين يدي المصلي ، فأخبرني عن النبي عليه الصلاة والسلام ، قال : لأن يقوم أربعين خير له من أن يمر بين يديه ، قال سفيان : ولا أدري أربعين سنة ، أو شهرا ، أو صباحا ، أو ساعة ) ، وفي ( مسند البزار ) ، أخبرنا أحمد بن عبدة ، حدثنا سفيان به ، وفيه ( أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد ، فقال : لأن يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه ) ، وقال أبو عمر في ( التمهيد ) رواه ابن عيينة مقلوبا ، والقول عندنا قول مالك ، ومن تابعه ، وقال ابن القطان في حديث البزار خطئ فيه ابن عيينة ، وليس خطؤه بمتعين لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد ، وزيد بعثه إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد ما عند الآخر ، فأخبر كل منهما بمحفوظه ، فشك أحدهما وجزم الآخر ، واجتمع ذلك كله عند أبي النضر ، ( قلت ) : قول مالك في ( الموطأ ) لم يختلف عليه فيه أن المرسل هو زيد ، وأن المرسل إليه هو أبو جهيم ، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم ، وابن ماجه ، وغيرهما ، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر ، فقال : عن بسر بن سعيد ، قال ( أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله ) فذكر هذا الحديث ، ( قلت ) : هذا عكس متن ( الصحيحين ) ؛ لأن المسؤول فيهما هو أبو الجهيم ، وهو الراوي عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وعند البزار : المسؤول زيد بن خالد .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : ( ماذا عليه ) ، أي : من الإثم والخطيئة ، وفي رواية الكشميهني ( ماذا عليه من الإثم ) ، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره ، وكذا في ( الموطأ ) ليست هذه الزيادة ، وكذا في سائر المسندات ، وفي المستخرجات ، غير أنه وقع في ( مصنف ابن أبي شيبة ) ماذا عليه ، يعني من الإثم ، وعيب على المحب الطبري حيث عزا هذه الزيادة في الأحكام للبخاري . قوله : ( بين يدي المصلي ) ، أي : أمامه بالقرب منه ، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما . قوله : ( أن يقف أربعين ) ، وقد ذكرنا أن في رواية ابن ماجه : ( أربعين سنة ، أو شهرا ، أو صباحا ، أو ساعة ) ، وفي رواية البزار : ( أربعين خريفا ) ، وفي ( صحيح ابن حبان ) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضا في الصلاة كان لأن يقيم مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطا ، وفي ( الأوسط ) للطبراني عن عبد الله بن عمرو مرفوعا ( إن [ ص: 294 ] الذي يمر بين يدي المصلي عمدا يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة ) ، وفي المصنف عن عبد الحميد عامل عمر بن عبد العزيز ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه لأحب أن ينكسر فخذه ، ولا يمر بين يديه ) ، وقال ابن مسعود : ( المار بين يدي المصلي أنقص من الممر عليه ، وكان إذا مر أحد بين يديه التزمه حتى يرده ) ، وقال ابن بطال : قال عمر رضي الله عنه : لكان يقوم حولا خير له من مروره ، وقال كعب الأحبار : لكان أن يخسف به خيرا له من أن يمر بين يديه . قوله : ( قال أبو النضر ) ، قال الكرماني : إما من كلام مالك ، فهو مسند ، وإما تعليق من البخاري ، ( قلت ) : هو كلام مالك ، وليس هو من تعليق البخاري ؛ لأنه ثابت في ( الموطأ ) من جميع الطرق ، وكذا ثبت في رواية الثوري ، وابن عيينة . قوله : ( أقال ) الهمزة فيه للاستفهام وفاعله بسر ، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كذا قاله الكرماني ، ( قلت ) : الظاهر أنه بسر بن أبي أمية .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر إعرابه ) : قوله : ( ماذا عليه ) كلمة ما استفهام ، ومحله الرفع على الابتداء ، وكلمة ذا إشارة خبره ، والأولى أن تكون ذا موصولة ، بدليل افتقاره إلى شيء بعده ؛ لأن تقديره : ماذا عليه من الإثم ، ثم إن ماذا عليه في محل النصب على أنه سد مسد المفعولين لقوله : لو يعلم ، وقد علق عمله بالاستفهام . قوله : ( لكان ) جواب لو ، وكلمة أن مصدرية ، والتقدير : لو يعلم المار ما الذي عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي لكان وقوفه أربعين خيرا له من أن يمر ، أي : من مروره بين يديه ، وقال الكرماني : جواب لو ليس هو المذكور ، إذ التقدير : لو يعلم ماذا عليه لوقف أربعين ، ولو وقف أربعين لكان خيرا له ، ( قلت ) : لا ضرورة إلى هذا التقدير ، وهو تصرف فيه تعسف ، وحق التركيب ما ذكرناه . قوله : ( خيرا ) فيه روايتان : النصب والرفع ، أما النصب فظاهر ؛ لأنه خبر لكان ، واسم كان هو قوله : أن يقف ؛ لأنا قلنا : إن كلمة أن مصدرية ، وأن التقدير : لكان وقوفه أربعين خيرا له ، وأما وجه الرفع فقد قال ابن العربي : هو اسم كان ، ولم يذكر خبره ما هو ، وخبره هو قوله : أن يقف ، والتقدير : لو يعلم المار ماذا عليه لكان خير وقوفه أربعين ، وتعسف بعضهم ، فقال : يحتمل أن يقال : اسمها ضمير الشأن ، والجملة خبرها . قوله : ( أقال : أربعين يوما ، أو شهرا ، أو سنة ) ؛ لأنه ذكر العدد ، أعني أربعين ، ولا بد من مميز ؛ لأنه لا يخلو عن هذه الأشياء ، وقد أبهم ذلك هاهنا ، ( ( فإن قلت ) ) : ما الحكمة فيه ، ( قلت ) : قال الكرماني : وأبهم الأمر ليدل على الفخامة ، وأنه مما لا يقادر قدره ، ولا يدخل تحت العبارة . انتهى ، ( قلت ) : الإبهام هاهنا من الراوي ، وفي نفس الأمر العدد معين ، ألا ترى كيف تعين فيما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة ( لكان أن يقف مائة عام ) الحديث . . . كما ذكرنا ، وكذا عين في مسند البزار من طريق سفيان بن عيينة ( لكان أن يقف أربعين خريفا ) ، وقال الكرماني : ( ( فإن قلت ) ) : هل للتخصيص بالأربعين حكمة معلومة ؟ ( قلت ) : أسرار أمثالها لا يعلمها إلا الشارع ، ويحتمل أن يكون ذلك ؛ لأن الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طور بأربعين ، كأطوار النطفة ، فإن كل طور منها بأربعين ، وكمال عدل الإنسان في أربعين سنة ، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد ؛ لأن أجزاءه هي عشرة ، ومن العشرات المئات ، ومنها الألوف ، فلما أريد التكثير ضوعف كل إلى عشرة أمثاله . انتهى ، ( قلت ) : غفل الكرماني عن رواية المائة حيث قصر في بيان الحكمة على الأربعين ، وقال بعضهم في التنكيت على الكرماني : بأن هذه الرواية تشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين ، ( قلت ) : لا ينافي رواية المائة عن بيان وجه الحكمة في الأربعين ، بل ينبغي أن يطلب وجه الحكمة في كل منهما ؛ لأن لقائل أن يقول : لم أطلق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر ، ولم لم يذكر الخمسين ، أو ستين ، أو نحو ذلك ، والجواب الواضح الشافي في ذلك أن تعيين الأربعين للوجه الذي ذكره الكرماني ، وأما وجه ذكر المائة فما ذكره الطحاوي أنه قيد بالمائة بعد التقييد بالأربعين للزيادة في تعظيم الأمر على المار ؛ لأن المقام مقام زجر وتخويف وتشديد ، ( ( فإن قلت ) ) : من أين علم أن التقييد بالمائة بعد التقييد بالأربعين ، ( قلت ) : وقوعهما معا مستبعد ؛ لأن المائة أكثر من الأربعين ، وكذا وقوع الأربعين بعد المائة لعدم الفائدة ، وكلام الشارع كله حكمة وفائدة ، والمناسبة أيضا تقتضي تأخير المائة عن الأربعين ، ( ( فإن قلت ) ) : قد علم فيما مضى وجه الحكمة في الأربعين ، فما وجه الحكمة في تعيين المائة ؟ ( قلت ) : المائة وسط بالنسبة إلى العشرات والألوف ، وخير الأمور أوساطها ، وهذا مما تفردت به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه من الأحكام ) فيه أن المرور بين يدي المصلي مذموم ، وفاعله مرتكب الإثم ، وقال النووي : فيه دليل على تحريم المرور ، فإن في الحديث النهي الأكيد ، والوعيد الشديد ، فيدل على ذلك ، ( قلت ) : فعلى ما ذكره ينبغي أن [ ص: 295 ] المرور بين يدي المصلي من الكبائر ، ويعد من ذلك ، واختلف في تحديد ذلك ، فقيل : إذا مر بينه وبين مقدار سجوده ، وقيل : بينه وبين الساتر ثلاث أذرع ، وقيل : بينهما قدر رمية بحجر ، وقد مر الكلام فيه مستوفى ، وفيه ، قال ابن بطال : يفهم من قوله : لو يعلم أن الإثم يختص بمن يعلم بالمنهي وارتكبه ، قال بعضهم : فيه بعد ، ( قلت ) : ليس فيه بعد ؛ لأن لو للشرط ، فلا يترتب الحكم المذكور إلا عند وجوده ، وفيه عموم النهي لكل مصل وتخصيص بعضهم بالإمام والمنفرد لا دليل عليه ، وفيه طلب العلم ، والإرسال لأجله ، وفيه جواز الاستنابة ، وفيه أخذ العلماء بعضهم من بعض ، وفيه الاقتصار على النزول مع القدرة على العلو لإرسال زيد بن خالد بسر بن سعيد إلى أبي جهيم ، ولو طلب العلو لسعى هو بنفسه إلى أبي جهيم ، وفيه قبول خبر الواحد .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية