الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4741 48 - حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا حماد ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما لي في النساء من حاجة ، فقال رجل : زوجنيها ، قال : أعطها ثوبا ، قال : لا أجد ، قال : أعطها ولو خاتما من حديد ، فاعتل له ، فقال : ما معك من القرآن ، قال : كذا وكذا ، قال : فقد زوجتكها بما معك من القرآن .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قيل : مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم زوج المرأة لحرمة القرآن ، واعترض عليه بأن السياق يدل على أنه زوجها له على أن يعلمها ، قلت : في كل منهما نظر ، أما الأول : فلأن الترجمة ليست في بيان حرمة القرآن ، وأما الثاني : فدلالته على التزويج على تعليم القرآن ، ويمكن أن يوجه المطابقة من قوله : " كذا وكذا " أي : سورة كذا على ما وقع هكذا في الباب الذي يليه ، وهو أن الفضل ظهر على الرجل بحفظه كذا وكذا سورة ، ولم يحصل له هذا الفضل إلا من فضل القرآن فدخل تحت قوله : " خيركم من تعلم القرآن " لأنه تعلم ودخل في المتعلمين ، ودخل أيضا تحت قوله : " وعلمه " لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما زوجه إياها على أن يعلمها القرآن .

                                                                                                                                                                                  وبقي الكلام هنا في فصول .

                                                                                                                                                                                  الأول في رجال الحديث وهم : عمرو بالفتح ابن عون بن أوس الواسطي ، نزل البصرة ، وروى مسلم عنه بواسطة ، وحماد هو ابن زيد ، وأبو حازم بالحاء المهملة والزاي سلمة بن دينار ، وسهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين والعنعنة في موضعين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أنه أخرجه البخاري هنا أيضا عن قتيبة على ما يأتي ، وأخرجه أيضا في النكاح في مواضع في باب النظر إلى المرأة قبل التزويج ، عن قتيبة ، عن يعقوب بأتم من هذا ، وهنا اختصره في باب إذا قال الخاطب للولي [ ص: 45 ] زوجني فلانة ، عن أبي النعمان ، عن حماد بن زيد إلى آخره مختصرا ، وفي باب التزويج على القرآن عن علي بن عبد الله ، وفي باب المهر بالعروض عن يحيى ، عن وكيع مختصرا ، وأخرجه بقية الجماعة ، فمسلم أخرجه في النكاح عن قتيبة بن سعيد ، وأبو داود فيه عن القعنبي ، والترمذي فيه عن الحسن بن علي ، والنسائي فيه وفي فضائل القرآن عن هارون بن عبد الله ، وابن ماجه في النكاح عن حفص بن عمرو .

                                                                                                                                                                                  الثالث في معناه ، قوله : " امرأة " اختلف في اسم هذه المرأة الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل هي خولة بنت حكيم ، وقيل : هي أم شريك الأزدية ، وقيل : ميمونة ، حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو القاسم بن بشكوال في كتاب المبهمات ، وقال شيخنا زين الدين : لا يصح شيء من هذه الأقوال الثلاثة ، أما خولة فإنها لم تتزوج ، وكذلك أم شريك لم تتزوج ، وأما ميمونة فكانت إحدى زوجاته ، فلا يصح أن تكون هذه ; لأن هذه قد زوجها لغيره ، قوله : " ولو خاتما " بالنصب أي : ولو كان الذي يعطيها خاتما ، ويروى بالرفع فوجهه إن صحت الرواية يكون مرفوعا بـ"كان" التامة المقدرة ، أي : ولو كان خاتم ، قوله : " من حديد " كلمة من بيانية ، قوله : " فاعتل له " أي : حزن وتضجر لأجل ذلك ، وقد جاء اعتل بمعنى تشاغل ، قوله : " ما معك من القرآن " أي : أي شيء تحفظ من القرآن ، قوله : " قال كذا وكذا " وقد جاء في رواية أبي داود سورة البقرة والتي تليها .

                                                                                                                                                                                  الرابع في استنباط الأحكام منه : فيه جواز عقد النكاح بلفظ الهبة ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي ، وصورته أن يقول الرجل : قد وهبت لك ابنتي ، فيقول الآخر : قبلت أو تزوجت ، وسواء في ذلك سميا المهر أو لا ، فإن سمياه فلها المسمى وإلا فلها مهر مثلها ، وقال الشافعي : لا ينعقد بلفظ الهبة ، وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد ومالك على اختلاف عنه ، ولا خلاف في جواز هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من خصائصه لقوله عز وجل : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وقال ابن القاسم عن مالك : لا تحل الهبة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه ما يستدل به الشافعي على جواز النكاح بما تراضى عليه الزوجان كالسوط والنعل وإن كانت قيمته أقل من درهم ، وبه قال ربيعة وأبو الزناد وابن أبي ذئب ويحيى بن سعيد والليث بن سعد ومسلم بن خالد الزنجي وأحمد وإسحاق والثوري والأوزاعي وداود وابن وهب من المالكية ، وقال مالك : لا يجوز أقل من ربع دينار قياسا على القطع في السرقة ، وقال ابن حزم : وجائز أن يكون صداقا كل ما له نصف قل أو كثر ولو أنه حبة بر أو حبة شعير أو غير ذلك ، واستدل على ذلك بقوله " ولو خاتما من حديد " وعن إبراهيم النخعي : أكره أن يكون المهر بمثل أجر البغي ولكن العشرة والعشرين ، وعنه السنة في النكاح الرطل من الفضة ، وعن الشعبي كانوا يكرهون أن يتزوج الرجل على أقل من ثلاث أواقي ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز أن يكون الصداق أقل من عشرة دراهم ; لما روى ابن أبي شيبة في مصنفه ، عن شريك ، عن داود الزعافري ، عن الشعبي قال : قال علي رضي الله تعالى عنه : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، والظاهر أنه قال توقيفا ; لأنه باب لا يوصل إليه بالاجتهاد والقياس ، فإن قلت : قال ابن حزم : الرواية عن علي باطلة ; لأنها عن داود الزعافري وهو في غاية السقوط ، ثم هي مرسلة ; لأن الشعبي لم يسمع من علي قط حديثا ، قلت : قال ابن عدي : لم أر له حديثا منكرا جاوز الحد إذا روى عنه ثقة ، وإن كان ليس بقوي في الحديث فإنه يكتب حديثه ويقبل إذا روى عنه ثقة ، وذكر المزي أن الشعبي سمع علي بن أبي طالب ، ولئن سلمنا أن روايته مرسلة فقد قال العجلي : مرسل الشعبي صحيح ولا يكاد يرسل إلا صحيحا ، والجواب عن قوله : " ولو خاتما من حديد " أنه خارج مخرج المبالغة كما في قوله : " تصدقوا ولو بظلف محرق " وفي لفظ : " ولو بفرسن شاة " وليس الظلف والفرسن مما يتصدق بهما ولا مما ينتفع بهما ، ويقال : ولعل الخاتم كان يساوي ربع دينار ، ويقال : لعل التماسه للخاتم لم يكن كل الصداق بل شيء يعجله لها قبل الدخول .

                                                                                                                                                                                  وفيه إجازة اتخاذ خاتم الحديد ، واختلف العلماء في جواز لبسه ، وفيه ما يستدل به الشافعي وأحمد في رواية والظاهرية على جواز التزويج على سورة من القرآن ، وعليه أن يعلمها ، ولم يجوز ذلك أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأحمد في رواية صحيحة والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه ، وقالوا : إذا تزوجها على تعليم سورة فالنكاح صحيح ويجب فيه مهر مثلها ، وهذا كمن تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا فإنه يجب مهر المثل ، وأجاب الطحاوي عنه بأن قوله : " زوجتكها بما معك من القرآن " إن حمل على الظاهر فذلك على السورة لا على تعليمها ، وإذا كان ذلك على السورة فهو على حرمتها ، وليس فيه التعرض للمهر كما في تزوج أم سليم على إسلامه ، [ ص: 46 ] فلم يكن ذلك الإسلام مهرا في الحقيقة ، والسورة من القرآن لا تكون مهرا بالإجماع ، ويكون المعنى زوجتكها بسبب حرمة ما معك من القرآن وبركته ، فتكون الباء للتعليل كما في قوله : فكلا أخذنا بذنبه فإن قلت : في رواية ابن ماجه " زوجتكها على ما معك من القرآن " وفي مسند أسد السنة " ما معك من القرآن " قلت : أما " على " فإنها تجيء للتعليل أيضا كالباء كما في قوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم أي : لهدايته إياكم ، ويكون المعنى زوجتكها لأجل ما معك من القرآن ، ولا ينافي هذا تسمية المال ، وأما مع فإنها للمصاحبة ، والمعنى زوجتكها لمصاحبتك القرآن ، فإن قلت : الأصل في الباء للمقابلة فتكون هاهنا نحو قولك بعتك ثوبي بدينار ، قلت : لا يصح هنا أن تكون للمقابلة ; لأنه يلزم أن تكون المرأة موهوبة ، وذلك لا يجوز إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن قلت : المعنى زوجتكها بأن تعلمها ما معك من القرآن أو مقدار ما منه ويكون ذلك صداقها ، والدليل عليه ما جاء في رواية مسلم " انطلق فقد زوجتكها ، فعلمها من القرآن " وفي رواية عطاء " فعلمها عشرين آية " قلت : قد ذكرنا غير مرة أن هذا لا ينافي تسمية المال فيكون قد زوجها منه مع تحريضه على تعليم القرآن ، ويكون المهر مسكوتا عنه إما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد أصدق عنه كما كفر عن الواطئ في رمضان إذ لم يكن عنده شيء مرفقا بأمته ، وإما أنه أبقى الصداق في ذمته إلى أن ييسر الله عليه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية