الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1- حدثنا محمد بن عرعرة، قال: حدثنا شعبة، عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قد قلنا آنفا: إن حديث عبد الله هذا للترجمة الثانية، وهي قوله: "وما يحذر عن الإصرار" إلى آخره، فإن قلت: كيف مطابقته على الترجمة؟ قلت: لما دل الحديث على إبطال قول المرجئة القائلين بعدم تفسيق مرتكبي الكبائر وعدم جعل السباب فسوقا، وعدم مقاتلة المسلم كفرانا لحقه طابق قوله: "وما يحذر عن الإصرار إلى آخره".

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم خمسة الأول: أبو عبد الله محمد بن عرعرة بالعينين المهملتين والراء المكررة غير منصرف للعلمية والتأنيث ابن البرند بكسر الباء الموحدة والراء المكسورة ويقال بفتحهما وسكون النون وفي آخره دال مهملة، وكأنه [ ص: 278 ] فارسي معرب ابن النعمان القرشي السامي بالسين المهملة نسبة إلى سامة بن لؤي بن غالب البصري مات سنة ثلاث عشرة ومائتين عن خمس وسبعين سنة قال الشيخ قطب الدين: انفرد به البخاري عن مسلم، قلت: ليس كذلك، فإن مسلما روى له معه، وكذا أبو داود روى له نبه عليه الحافظ المزي، واقتصر صاحب الكمال على أبي داود، الثاني شعبة بن الحجاج وقد مر ذكره، الثالث: زبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة ابن الحارث بن عبد الكريم أبو عبد الرحمن، ويقال له: أبو عبد الله اليامي بالياء آخر الحروف جد للقبيلة بطن من همدان ويقال: الإيامي أيضا الكوفي، روى عن أبي وائل، وجمع من التابعين، وعنه الأعمش وغيره من التابعين، وجلالته متفق عليها، وكان من العباد المتنسكين، قال البخاري: مات سنة اثنتين وعشرين ومائة، وليس في الصحيحين زبيد بالضبط المذكور إلا هذا، وأما زبيد بضم الزاي وبالياءين باثنتين من تحت أبي الصلت فمذكور في الموطأ، وليس له ذكر في الكتابين، الرابع: أبو وائل بالهمزة بعد الألف شقيق بن سلمة الأسدي أسد خزيمة كوفي تابعي أدرك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وقال: أدركت سبع سنين من سني الجاهلية، وقال: كنت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين أرعى إبلا لأهلي، وسمع عمر بن الخطاب وعثمان وعليا وابن مسعود وعمارا وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وعنه خلق من التابعين، وغيرهم، وأجمعوا على جلالته وصلاحه وورعه وتوثيقه، وهو من أجل أصحاب ابن مسعود، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يثني عليه، مات سنة اثنتين وثمانين على المحفوظ، وقال أبو سعيد بن صالح: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن مائة وخمسين سنة، روى له الجماعة، الخامس: عبد الله بن مسعود، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث بصورة الجمع وصورة الإفراد والسؤال والعنعنة، ومنها أن رجاله ما بين بصري وواسطي وكوفي ومنها أنهم أئمة أجلاء.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه هنا عن محمد بن عرعرة عن شعبة، وفي الأدب عن سليمان بن حرب، عن شعبة، وأخرجه مسلم في الإيمان أيضا عن محمد بن بكار بن الريان، وعون بن سالم كلاهما عن محمد بن طلحة، وعن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، وعن محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن، عن سفيان ثلاثتهم عنه به، وأخرجه الترمذي في البر عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان به، وقال فيه: قال زبيد: قلت لأبي وائل: أنت سمعته من عبد الله؟ قال: نعم؟ وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي في المحاربة عن محمود بن غيلان به، وعن عمر بن علي، عن ابن أبي عدي، وعن محمود بن غيلان، عن أبي داود كلاهما عن شعبة به، وعن قتيبة، عن جرير به موقوفا.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغة) قوله: "عن المرجئة" أي الفرقة الملقبة بالمرجئة، وقد مر الكلام فيه عن قريب، قوله: "سباب المسلم" بكسر السين وتخفيف الباء بمعنى السب، وهو الشتم وهو التكلم في عرض الإنسان بما يعيبه، وقال بعضهم: هو مصدر يقال: سب يسب سبا وسبابا، قلت: هذا ليس بمصدر سب يسب وإنما هو اسم بمعنى السب كما قلنا، أو مصدر من باب المفاعلة، وفي المطالع السباب المشاتمة، وهي من السب وهو القطع، وقيل: من السبة وهي حلقة الدبر كأنها على القول الأول قطع المسبوب عن الخير والفضل وعلى الثاني كشف العورة وما ينبغي أن يستتر، وفي (العباب) التركيب يدل على القطع ثم اشتق منه الشتم، وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه، قلت: هذا أيضا يصرح بأن السباب ليس بمصدر فافهم، قوله: "فسوق" مصدر، وفي (العباب): الفسق الفجور، يقال: فسق يفسق ويفسق أيضا عن الأخفش فسقا وفسوقا أي فجر، وقوله تعالى: وإنه لفسق أي خروج عن الحق يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ومنه قوله تعالى: ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعة ربه، وقال الليث: الفسق الترك لأمر الله تعالى، وكذلك الميل إلى المعصية، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على الناس، وقال أبو عبيدة: ففسق عن أمر ربه أي جاز عن طاعته، وقال أبو الهيثم: الفسوق يكون الشرك ويكون الإثم، قوله: "وقتاله" أي مقاتلته، ويحتمل أن يكون معناها المخاصمة، والعرب تسمي المخاصمة مقاتلة.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم" أصله بأن النبي إلى آخره، وقوله: "قال" جملة في محل الرفع على أنها خبر "أن"، [ ص: 279 ] قوله: "سباب المسلم" كلام إضافي مبتدأ، وقوله: "فسوق" خبره، فإن قلت: هذا إضافة إلى الفاعل أو المفعول؟ قلت: بل إضافة إلى المفعول، قوله: "وقتاله" كذلك إضافته إلى المفعول، وارتفاعه بالابتداء وخبره "كفر".

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قوله: "عن المرجئة" معناه سألت أبا وائل عن الطائفة المرجئة هل هم مصيبون في مقالتهم، ومخطئون؟ ولهذا قال أبو وائل في جوابه لزبيد بن الحارث: حدثني عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، يعني أنهم مخطئون لأنهم لا يجعلون سباب المسلم فسوقا، ولا قتاله كفرا في حق المسلم، ولا يفسقون مرتكبي الذنوب، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخلاف ما ذهبوا إليه، فدل ذلك على كونهم على خطأ وضلال، وبهذا التقدير الذي قدرناه يطابق جواب أبي وائل سؤال زبيد، وقال بعضهم في التقدير: أي عن مقالة المرجئة، وهذا لا يصح لأن على هذا التقدير لا يطابق الجواب السؤال فإن قلت: في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له فدل هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، قلت: لا نسلم هذه الدلالة بل الذي يدل على أنه وقف على مقالتهم حتى سأل أبا وائل هل هي صحيحة أو باطلة، فإن قلت: هذا الحديث وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، قلت: لا نسلم ذلك لأنه لم يرد بقوله: "وقتاله كفر" حقيقة الكفر التي هي خروج عن الملة، بل إنما أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، والإجماع من أهل السنة منعقد على أن المؤمن لا يكفر بالقتال، ولا بفعل معصية أخرى، وقال ابن بطال ليس المراد بالكفر الخروج عن الملة بل كفران حقوق المسلمين، لأن الله تعالى جعلهم إخوة وأمر بالإصلاح بينهم ونهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن التقاطع والمقاتلة، فأخبر أن من فعل ذلك فقد كفر حق أخيه المسلم، ويقال: أطلق عليه الكفر لشبهه به لأن قتال المسلم من شأن الكافر، ويقال: المراد به الكفر اللغوي، وهو الستر لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كأنه كشف عنه هذا الستر، وقال الكرماني: المراد أنه يؤول إلى الكفر لشؤمه أو أنه كفعل الكفار، وقال الخطابي: المراد به الكفر بالله تعالى، فإن ذلك في حق من فعله مستحلا بلا موجب، ولا تأويل، أما المؤول فلا يكفر ولا يفسق بذلك كالبغاة الخارجين على الإمام بالتأويل، وقال بعضهم فيما قاله الكرماني بعد وما قاله الخطابي أبعد منه ثم قال: لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحلا لعن المسلم بغير تأويل كفر أيضا، قلت: إذا كان اللفظ محتملا لتأويلات كثيرة هل يلزم منه أن يكون جميعها مطابقا للترجمة فمن ادعى هذه الملازمة فعليه البيان، فإذا وافق أحد التأويلات للترجمة فإنه يكفي للتطابق، وقوله: ولو كان مرادا لم يحصل التفريق إلخ غير مسلم، لأنه تخصيص الشق الثاني بالتأويل لكونه مشكلا بحسب الظاهر، والشق الأول لا يحتاج إلى التأويل لكون ظاهره غير مشكل، فإن قلت: جاء في رواية مسلم: "لعن المسلم كقتله"، قلت: التشبيه لا عموم له، ووجه التشبيه هو حصول الأذى بوجهين أحدهما في العرض، والآخر في النفس، فإن قلت: السباب والقتال كلاهما على السواء في أن فاعلهما يفسق ولا يكفر، فلم قال في الأول: فسوق، وفي الثاني: كفر؟ قلنا: لأن الثاني أغلظ أو لأنه بأخلاق الكفار أشبه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية