الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  503 5 - (حدثنا قتيبة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأنزل الله عز وجل وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: إن الحسنات يذهبن السيئات ؛ لأن المراد من الحسنات الصلوات الخمس، فإذا أقامها تكفر عنه الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، كما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول قتيبة بن سعيد. والثاني يزيد - من الزيادة - ابن [ ص: 11 ] زريع بضم الزاي وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره عين مهملة. والثالث سليمان بن طرخان أبو المعتمر، وقد مر في باب من خص بالعلم. والرابع أبو عثمان عبد الرحمن بن مل بكسر الميم وضمها وتشديد اللام النهدي بفتح النون وسكون الهاء وكسر الدال المهملة نسبة إلى نهد بن زيد بن ليث بن أسلم، بضم اللام ابن الحاف بن قضاعة، أسلم على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يلقه، ولكنه أدى إليه الصدقات، عاش نحوا من مائة وثلاثين سنة، ومات سنة خمس وتسعين، وإنه كان ليصلي حتى يغشى عليه. والخامس عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه رواية التابعي عن التابعي، عن الصحابي، وفيه أن رواته بصريون ما خلا قتيبة .

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في التفسير، عن مسدد، عن يزيد بن زريع، وأخرجه مسلم في التوبة، عن قتيبة وأبي كامل، كلاهما عن يزيد بن زريع، وعن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، وعن عثمان بن جرير، وأخرجه الترمذي في التفسير، عن محمد بن بشار، عن يحيى، وأخرجه النسائي فيه، عن قتيبة وابن أبي عدي، وعن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة، عن سفيان بن وكيع، وفي الزهد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن معتمر بن سليمان .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه). قوله: (أن رجلا) هو أبو اليسر بفتح الياء آخر الحروف والسين المهملة، وقد صرح به الترمذي في روايته، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا، فقلت: إن في البيت تمرا أطيب منه، فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - فذكرت ذلك له، فقال: استر على نفسك وتب، فأتيت عمر - رضي الله تعالى عنه - فذكرت له ذلك، فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا، فلم أصبر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟! حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلى تلك الساعة حتى ظن أنه من أهل النار. قال: فأطرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلا حتى أوحى الله تعالى إليه وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين قال: أبو اليسر: فأتيته فقرأها علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أصحابه: يا رسول الله، ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامة . ثم قال هذا حديث حسن غريب، وقيس بن الربيع ضعفه وكيع وغيره.

                                                                                                                                                                                  وقال الذهبي : أبو اليسر كعب بن عمرو السلمي بدري. قوله: (فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما أصابه. قوله: فأنزل الله تعالى أقم الصلاة يشير بهذا إلى أن سبب نزول هذه الآية في أبي اليسر المذكور.

                                                                                                                                                                                  وفي تفسير ابن مردويه، عن أبي أمامة أن رجلا جاء إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا رسول الله، أقم في حد الله مرة أو مرتين، فأعرض عنه، ثم أقيمت الصلاة، فأنزل الله تعالى الآية. وروى أبو علي الطوسي في (كتاب الأحكام) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ - رضي الله تعالى عنه - قال: ولم يسمع منه (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا لقي امرأة وليس بينهما معرفة فليس يأتي الرجل شيئا إلى امرأته إلا قد أتاه إليها إلا أنه لم يجامعها، فأنزل الله تعالى الآية، فأمره أن يتوضأ ويصلي، قال معاذ : فقلت: يا رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة. وروى مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقض في بما شئت، فقال عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ولم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم – شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه رجلا فتلا عليه هذه الآية. واعلم أن في كون الرجل في الحديث المذكور أبا اليسر هو أصح الأقوال الستة.

                                                                                                                                                                                  القول الثاني: أنه عمرو بن غزية بن عمرو الأنصاري أبو حبة - بالباء الموحدة - التمار، رواه أبو صالح، عن ابن عباس : (جاءت امرأة إلى عمرو بن غزية تبتاع تمرا، فقال: إن في بيتي تمرا، فانطلقي أبعك منه، فلما دخلت البيت بطش بها، فصنع بها كل شيء إلا أنه لم يقع عليها، فلما ذهب عنه الشيطان ندم على ما صنع، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، تناولت امرأة فصنعت بها كل شيء يصنع الرجل بامرأته إلا أني لم أقع عليها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: ما أدري، ولم يرد عليه شيئا.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 12 ] فبينما هم كذلك؛ إذ حضرت الصلاة فصلوا، فنزلت الآية أقم الصلاة
                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  القول الثالث: أنه ابن معتب رجل من الأنصار، ذكره ابن أبي خيثمة في (تاريخه) من حديث إبراهيم النخعي قال: " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من الأنصار يقال له: معتب، فذكر الحديث.

                                                                                                                                                                                  القول الرابع: أنه أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاري، ذكره مقاتل في (نوادر التفسير).

                                                                                                                                                                                  وقال: هو الذي نزل فيه أقم الصلاة

                                                                                                                                                                                  القول الخامس: هو نبهان التمار، وزعم الثعلبي أن نبهان لم ينزل فيه إلا قوله تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم الآية.

                                                                                                                                                                                  القول السادس: أنه عباد، ذكره القرطبي في تفسيره.

                                                                                                                                                                                  قوله: طرفي النهار قال الثعلبي : طرفي النهار: الغداة والعشي.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عباس : يعني: صلاة الصبح وصلاة المغرب.

                                                                                                                                                                                  وقال مجاهد : صلاة الفجر وصلاة العشي.

                                                                                                                                                                                  وقال الضحاك: الفجر والعصر.

                                                                                                                                                                                  وقال مقاتل : صلاة الفجر والظهر طرف، وصلاة المغرب والعصر طرف، وانتصاب طرفي النهار على الظرف؛ لأنهما مضافان إلى الوقت كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وهذا على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. قوله: وزلفا من الليل صلاة العتمة.

                                                                                                                                                                                  وقال الحسن : هما المغرب والعشاء.

                                                                                                                                                                                  وقال الأخفش : يعني: صلاة الليل.

                                                                                                                                                                                  وقال الزجاج: معناه الصلاة القريبة من أول الليل، والزلف جمع زلفة، وقرأ الجمهور بضم الزاي وفتح اللام، وقرأ أبو جعفر بضمهما، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زلفى مثل قربى، وفي (المحكم) زلف الليل: ساعات من أوله. وقيل: هي ساعات الليل الأخيرة من النهار وساعات النهار الأخيرة من الليل، وفي (جامع) القزاز: الزلفة القربة من الخير والشر، وانتصاب زلفى على أنه عطف على الصلاة؛ أي: أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفى من الليل. قوله: إن الحسنات قال القرطبي : لم يختلف أحد من أهل التأويل أن الصلاة في هذه الآية يراد بها الفرائض. قوله: (ألي هذا؟) الهمزة للاستفهام، وقوله: (هذا مبتدأ)، وقوله لي مقدما خبره، وفائدة التقديم التخصيص. قوله: (كلهم) ليس في رواية المستملي .

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه عدم وجوب الحد في القبلة وشبهها من المس ونحوه من الصغائر، وهو من اللمم المعفو عنه باجتناب الكبائر بنص القرآن.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب (التوضيح): وقد يستدل به على أنه لا حد ولا أدب على الرجل والمرأة، وإن وجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر . انتهى. (قلت): سلمنا في نفي الحد ولا نسلم في نفي الأدب، سيما في هذا الزمان.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن إقامة الصلوات الخمس تجري مجرى التوبة في ارتكاب الصغائر.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن باب التوبة مفتوح، والتوبة مقبولة، وفي الآية المذكورة دليل على قول أبي حنيفة في أن التنوير بصلاة الفجر أفضل، وأن تأخير العصر أفضل، وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرف النهار، وبينا أن طرفي النهار الزمان الأول بطلوع الشمس والزمان الأول بغروبها، وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروع فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية فوجب حملها على المجاز، وهو أن يكون المراد إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار؛ لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه، فإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ. وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند الغلس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما صار ظل كل شيء مثله، والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى.

                                                                                                                                                                                  وفيها دليل أيضا على وجوب الوتر؛ لأن قوله: وزلفا يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في زلف من الليل، وذلك لأنه عطف على الصلاة في قوله: وأقم الصلاة طرفي النهار فيكون التقدير: وأقم الصلاة في زلف من الليل، والزلف: جمع وأقل الجمع ثلاثة، فالواجب إقامة الصلاة في الأوقات الثلاثة، فالوقتان للمغرب والعشاء. والوقت الثالث للوتر فيجب الحكم بوجوبه.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب (التوضيح): ذكر هذا شيخنا قطب الدين وتبعه شيخنا علاء الدين وهي نزغة ولا نسلم لهما، (قلت): لا نسلم له؛ لأن عدم التسليم بعد إقامة الدليل مكابرة.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية