الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4809 35 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان في بريرة ثلاث سنن عتقت فخيرت وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرمة على النار فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت ، فقال : ألم أر البرمة ، فقيل : لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال : هو عليها صدقة ولنا هدية .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن زوج بريرة كان عبدا ، وفي التلويح : وليس فيه تصريح بكون زوجها عبدا ولا غيره ، وقد تجاذبت فيه الروايات فقائل كان حرا ، وقائل كان عبدا فلا يتمحض للبخاري استدلاله ولم يأت في حديثه بشيء من ذلك ، ولا يقال : ترجح عنده كونه عبدا ; لأن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه في الجانب الآخر يرجح كونه حرا عنده ، وليس قول أحدهما بأولى من الآخر إلا بترجيح نقلي من خارج ، انتهى . قلت : هذا الذي ذكره لا يدفع وجه المطابقة ; لأنه وضع هذه الترجمة وساق لها الحديث المذكور بناء على ما ترجح عنده وأما ترجيح أحد القولين على الآخر بالنقل من خارج فلا دخل له هاهنا في وجه المطابقة فافهم .

                                                                                                                                                                                  وربيعة بن أبي عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي ، واسم أبي عبد الرحمن فروخ مات سنة ست وثلاثين ومائة ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطلاق ، عن إسماعيل بن عبد الله ، وفي الأطعمة عن قتيبة ، وأخرجه مسلم في الزكاة وفي العتق ، عن أبي الطاهر بن السرح ، وأخرجه النسائي في الطلاق ، عن محمد بن سلمة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " في بريرة " بفتح الباء الموحدة وكسر الراء الأولى اسم جارية اشترتها عائشة رضي الله تعالى عنها فأعتقتها وكانت مولاة لبعض بني هلال فكاتبوها ثم باعوها لعائشة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ثلاث سنن " أي ثلاث طرق أحكاما شرعية بعضها مر في كتاب الكتابة ، قوله : " عتقت " على صيغة المجهول أي أعتقتها عائشة رضي الله تعالى عنها ، قوله : " فخيرت " على صيغة المجهول أيضا أي خيرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا أول السنن الثلاث وهو أن الأمة التي تحت العبد إذا أعتقت لها الخيار في فسخ نكاحها وروى ابن سعد في الطبقات أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة لما أعتقت : قد عتق بضعك معك فاختاري ، وهذا مرسل واختلفوا في هذه المسألة فقال الشعبي ، والنخعي والثوري ومحمد بن سيرين ، وطاوس ، ومجاهد وحماد بن أبي سليمان ، والحسن بن مسلم ، وأبو قلابة ، وأيوب السختياني ، والحسن بن صالح ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأبو ثور : الأمة إذا أعتقت لها الخيار في نفسها سواء كان زوجها حرا أو عبدا وهو مذهب أهل الظاهر أيضا ، وقال عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب والحسن البصري ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، والزهري والليث بن سعد ، ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق : إن كان زوجها عبدا فلها الخيار ، وإن كان حرا فلا خيار لها .

                                                                                                                                                                                  واختلفوا في زوج بريرة هل كان حرا أو عبدا ، فروى أبو داود ، والترمذي ، والنسائي وابن ماجه من [ ص: 91 ] حديث الأسود ، عن عائشة أنه كان حرا وكذلك رواه البيهقي ، وروى الطحاوي ومسلم وأبو داود أيضا من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنه كان عبدا ، وروى مسلم أيضا من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أنه كان عبدا وكذلك رواه النسائي وروى البخاري في الطلاق من حديث عكرمة ، عن ابن عباس : إن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته الحديث ، وهذه أحاديث متعارضة قد أكثر الناس في معانيها وتخريج وجوهها ، فلمحمد بن جرير الطبري في ذلك كتاب ، ولمحمد بن خزيمة كتاب ، ولجماعة في ذلك أبواب أكثرها تكلف واستخراجات محتملة وتأويلات ممكنة لا يقطع بصحتها ، والأصل في ذلك أن يحمل على وجه لا يكون فيه تضاد ، والحرية تعقب الرق ولا ينعكس ، فثبت أنه كان حرا عندما خيرت بريرة وعبدا قبله ، ومن أخبر بعبوديته لم يعلم بحريته قبل ذلك ولم يخيرها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان عبدا ولا لأنه كان حرا ، وإنما خيرها لأنها أعتقت فوجب تخيير كل معتقة وروي في بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ملكت نفسك فاختاري ، كذا في التمهيد ، فكل من ملكت نفسها تختار سواء كان زوجها حرا أو عبدا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولاء لمن أعتق " هذا ثاني السنن الثلاث وقد مر في كتاب العتق ، قوله : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره ثالث السنن الثلاث وذكر الثلاث لا ينفي الزائد .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وبرمة على النار " وبرمة مبتدأ وهي نكرة ولكن اعتمادها على واو الحال جوز ذلك وأشار إليه ابن مالك ، والبرمة بضم الباء الموحدة القدر المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن ، والفرق بين الصدقة والهدية أن الصدقة إعطاء لثواب الآخرة ، والهدية إعطاء لإكرام المنقول إليه ، والصدقة تكون ملكا للقابض فلها حكم سائر المملوكات وبطل عنها حكم الصدقة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية