الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  514 16 - حدثنا آدم بن إياس، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا مهاجر أبو الحسن مولى لبني تيم الله، قال: سمعت زيد بن وهب، عن أبي ذر الغفاري، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 25 ] في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث مضى في الباب الذي قبله غير أن هناك أخرجه عن محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، وهاهنا، عن آدم بن أبي إياس، وهو من أفراد البخاري، عن شعبة بن الحجاج، وفي هذا من الزيادة ما ليست هناك فاعتبرها، وهذا مقيد بالسفر، وذلك مطلق، وأشار بذلك إلى أن المطلق محمول على المقيد؛ لأن المراد من الإبراد التسهيل ودفع المشقة، فلا تفاوت بين السفر والحضر. قوله: (فأراد المؤذن)، وهو بلال، وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن شبابة ومسدد، عن أمية بن خالد والترمذي من طريق أبي داود الطيالسي وأبو عوانة من طريق حفص بن عمر ووهب بن جرير والطحاوي والجوزقي من طريق وهب أيضا، كلهم عن شعبة التصريح بأنه بلال. قوله: (ثم أراد أن يؤذن فقال له أبرد) وفي رواية أبي داود، عن أبي الوليد، عن شعبة : مرتين أو ثلاثا، وفي رواية البخاري عن مسلم بن إبراهيم في باب الأذان للمسافرين في هذا الحديث: فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: أبرد حتى ساوى الظل التلول.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : فإن قلت: الإبراد إنما هو في الصلاة لا في الأذان، (قلت): كانت عادتهم أنهم لا يتخلفون عند سماع الأذان عن الحضور إلى الجماعة، فالإبراد بالأذان إنما هو لغرض الإبراد بالصلاة، أو المراد بالتأذين الإقامة، (قلت): يشهد للجواب الثاني رواية الترمذي، حيث قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود، قال: أنبأنا شعبة، عن مهاجر أبي الحسن، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر ومعه بلال، فأراد أن يقيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أبرد، ثم أراد أن يقيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أبرد في الظهر، قال: حتى رأينا فيء التلول، ثم أقام فصلى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوا عن الصلاة ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح، فإن قلت: في (صحيح أبي عوانة ) من طريق حفص بن عمر، عن شعبة، فأراد بلال أن يؤذن بالظهر، وفيه بعد قوله: (فيء التلول)، ثم أمره، فأذن وأقام، (قلت): التوفيق بينهما بأن إقامته ما كانت تتخلف عن الأذان، فرواية الترمذي : فأراد أن يقيم؛ يعني: بعد الأذان، ورواية أبي عوانة، فأراد بلال أن يؤذن؛ يعني: أن يؤذن، ثم يقيم.

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي في (جامعه): وقد اختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق.

                                                                                                                                                                                  وقال الشافعي : إنما الإبراد بصلاة الظهر، إذا كان مسجدا ينتاب أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه، فالذي أحب له أن لا يؤخر الصلاة في شدة الحر، قال أبو عيسى ومعن: من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر فهو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر ما يدل على خلاف ما قاله الشافعي، قال أبو ذر: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: يا بلال أبرد، ثم أبرد، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى لاجتماعهم في السفر، فكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : أقول: لا نسلم اجتماعهم؛ لأن العادة في القوافل سيما في العساكر الكثيرة تفرقهم في أطراف المنزل لمصالح مع التخفيف على الأصحاب وطلب المرعى وغيره خصوصا إذا كان فيه سلطان جليل القدر، فإنهم يتباعدون عنه احتراما وتعظيما له، (قلت): هذا ليس برد موجه لكلام الترمذي، فإن كلامه على الغالب، والغالب في المسافرين اجتماعهم في موضع واحد؛ لأن السفر مظنة الخوف سيما إذا كان عسكر خرجوا لأجل الحرب مع الأعداء.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم عقيب كلام الكرماني : وأيضا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك كن يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي، وغايته أنه استنبط من النص العام معنى يخصه، انتهى، (قلت): هذا أكثر بعدا من كلام الكرماني؛ لأن فيه إسقاط العمل بعموم النصوص الواردة في الإبراد بالظهر بأشياء ملفقة من الخارج، وقوله: فليس في سياق الحديث إلى آخره غير صحيح؛ لأن الخلاف لظاهر الحديث صريح لا يخفى؛ لأن ظاهره عام والتقييد بالمسجد الذي ينتاب أهله [ ص: 26 ] من البعد خلاف ظاهر الحديث، والاستنباط من النص العام معنى يخصصه لا يجوز عند الأكثرين، ولئن سلمنا فلا بد من دليل للتخصيص، ولا دليل لذلك هاهنا.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية