الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  516 18 - (حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي المنهال، عن أبي برزة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح، وأحدنا يعرف جليسه، ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة، وكان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة رجع والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ثم قال: إلى شطر الليل.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وقال معاذ : قال شعبة : ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث الليل.

                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (ويصلي الظهر إذا زالت الشمس).

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم أربعة: حفص بن غياث تكرر ذكره، وكذلك شعبة بن الحجاج وأبو المنهال بكسر الميم وسكون النون، واسمه سيار بن سلامة الرياحي بكسر الراء وتخفيف الياء آخر الحروف وبالحاء المهملة البصري، وأبو برزة بفتح الباء الموحدة وسكون الراء، ثم بالزاي الأسلمي، واسمه نضلة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن عبيد مصغرا، أسلم قديما وشهد فتح مكة، ولم يزل يغزو مع رسول الله - عليه الصلاة والسلام - حتى قبض، فتحول ونزل البصرة، ثم غزا خراسان ومات بمرو أو بالبصرة أو بمفازة سجستان سنة أربع وستين، روى له البخاري أربعة أحاديث.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضعين، وفيه القول، وفي رواية الكشميهني حدثنا أبو المنهال، وفيه أن رواته ما بين بصري وواسطي، ويجوز أن يقال: كلهم بصريون؛ لأن شعبة، وإن كان من واسط فقد سكن البصرة ونسب إليها.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، وعن محمد بن مقاتل، عن عبد الله، وعن مسدد، عن يحيى، كلاهما عن عوف نحوه، وأخرجه مسلم فيه، عن يحيى بن حبيب، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه كلاهما، عن شعبة، وعن أبي كريب، عن سويد بن عمرو الكلبي .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 28 ] وأخرجه أبو داود فيه، عن حفص بن عمر بتمامه، وفي موضع آخر ببعضه، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى، وعن محمد بن بشار، وعن سويد بن نصر، وأخرجه ابن ماجه فيه، عن محمد بن بشار، عن بندار به.

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه. قوله: (وأحدنا) الواو فيه للحال. قوله: (جليسه) الجليس على وزن فعيل بمعنى المجالس، وأراد به الذي إلى جنبه، وفي رواية الجوزقي من طريق وهب، عن شعبة : فينظر الرجل إلى جليسه إلى جنبه، وفي رواية أحمد: فينصرف الرجل فيعرف وجه جليسه، وفي رواية لمسلم : وبعضنا يعرف وجه بعض. قوله: (ما بين الستين إلى المائة)؛ يعني: من آيات القرآن الحكيم، قال الكرماني : فإن قلت: لفظ بين يقتضي دخوله على متعدد، فكان القياس أن يقال: والمائة بدون حرف الانتهاء، (قلت): تقديره ما بين الستين وفوقها إلى المائة، فحذف لفظ فوقها لدلالة الكلام عليه. قوله: (والعصر بالنصب)؛ أي: ويصلي العصر، والواو في وأحدنا للحال. قوله: (إلى أقصى المدينة)؛ أي: إلى آخرها. قوله: (رجع كذا)، وقع بلفظ الماضي بدون الواو في رواية أبي ذر والأصيلي، وفي رواية غيرهما، ويرجع بواو العطف وصيغة المضارع ومحله الرفع على أنه خبر للمبتدإ الذي هو قوله: (وأحدنا)، فعلى هذا يكون لفظ يذهب حالا بمعنى ذاهبا، ويجوز أن يكون يذهب في محل الرفع على أنه خبر لقوله أحدنا، وقوله: (رجع) يكون في محل النصب على الحال، وقد فيه مقدرة؛ لأن الجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا فلا بد فيها من كلمة قد، إما ظاهرة وإما مقدرة، كما في قوله تعالى: أو جاءوكم حصرت صدورهم أي: قد حصرت، ولكن تكون حالا منتظرة مقدرة، والتقدير: وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة حال كونه مقدرا الرجوع إليها والحال أن الشمس حية.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: يحتمل أن تكون الواو في قوله: (وأحدنا)، بمعنى ثم، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: ثم يذهب أحدنا؛ أي: ممن صلى معه، وأما قوله: (رجع) فيحتمل أن يكون بمعنى يرجع، ويكون بيانا لقوله يذهب، (قلت): هذا فيه ارتكاب المحذور من وجوه: الأول كون الواو بمعنى ثم، ولم يقل به أحد، والثاني إثبات التقديم والتأخير من غير احتياج إليه، والثالث قوله: (يرجع) بيان لقوله يذهب فلا يصح ذلك؛ لأن معنى يرجع ليس فيه غموض حتى يبينه بقوله يذهب، ومحذور آخر، وهو أن يكون المعنى وأحدنا يرجع إلى أقصى المدينة، وهو مخل بالمقصود، وزعم الكرماني أن فيه وجها آخر، وفيه تعسف جدا، وهو أن رجع بمعنى يرجع عطف على يذهب، والواو مقدرة، وفيه محذور آخر أقوى من الأول، وهو أن المراد بالرجوع هو الرجوع إلى أقصى المدينة لا الرجوع إلى المسجد، فعلى هذا التقدير يكون الرجوع إلى المسجد، والدليل على أن المراد هو الذهاب إلى أقصى المدينة والرجوع إليها رواية عوف الأعرابي، عن سيار بن سلامة الآتية عن قريب، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، واقتصر هاهنا على ذكر الرجوع لحصول الاكتفاء به؛ لأن المراد بالرجوع الذهاب إلى المنزل، وإنما سمي رجوعا؛ لأن ابتداء المجيء كان من المنزل إلى المسجد، فكان الذهاب منه إلى المنزل رجوعا. قوله: (والشمس حية)، وحياة الشمس عبارة عن بقاء حرها لم يغير، وبقاء لونها لم يتغير، وإنما يدخلها التغير بدنو المغيب كأنه جعل مغيبها موتا لها. قوله: (ونسيت)؛ أي: قال أبو المنهال: نسيت ما قاله أبو برزة في (المغرب). قوله: (ولا يبالي)، عطف على قوله: (يصلي)؛ أي: ولا يبالي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من المبالاة، وهو الاكتراث بالشيء. قوله: (إلى شطر الليل)؛ أي: نصفه، ولا يقال: إن الذي يفهم منه أن وقت العشاء لا يتجاوز النصف؛ لأن الأحاديث الأخر تدل على بقاء وقتها إلى الصبح، وإنما المراد بالنصف هاهنا هو الوقت المختار، وقد اختلف فيه، والأصح الثلث. قوله: (قبلها)؛ أي: قبل العشاء. قوله: (قال معاذ) هو معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري التميمي قاضي البصرة، سمع من شعبة وغيره، مات سنة ست وتسعين ومائة. قال الكرماني : هذا تعليق قطعا؛ لأن البخاري لم يدركه، (قلت): هو مسند في صحيح مسلم، قال: حدثنا عبد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة فذكره. قوله: (ثم لقيته)؛ أي: أبا المنهال مرة أخرى بعد ذلك. قوله: (فقال: أو ثلث الليل) تردد بين الشطر والثلث.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه الحجة للحنفية؛ لأن قوله: (وأحدنا يعرف جليسه) يدل على الإسفار، ولفظ النسائي والطحاوي فيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف من الصبح، فينظر الرجل إلى الجليس الذي يعرفه، فيعرفه، ولكن قوله: (ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة) يدل على أنه كان يشرع في الغلس ويمدها بالقراءة إلى وقت الإسفار، وإليه ذهب [ ص: 29 ] الطحاوي، وفيه أن وقت الظهر من زوال الشمس، عن كبد السماء، وفيه أن الوقت المستحب للعصر أن يصلى ما دامت الشمس حية، وهذا يدل على أن المستحب تعجيلها، كما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد، وفي رواية أبي داود : كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية، ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة، والعوالي أماكن بأعلى أراضي المدينة. قال ابن الأثير: وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية، ولكن في رواية الزهري : أدناها من المدينة على ميلين، كما ذكره أبو داود .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : وأراد بهذا الحديث المبادرة بصلاة العصر في أول وقتها؛ لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس بعد لم تتغير، ثم قال: وفيه دليل لمالك والشافعي وأحمد والجمهور أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو حنيفة: لا يدخل حتى يصير ظل كل شيء مثليه، وهذا حجة للجماعة عليه، قلنا: الجواب من جهة أبي حنيفة أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإبراد الظهر بقوله: (أبردوا بالظهر)؛ يعني: صلوها إذا سكنت شدة الحر، واشتداد الحر في ديارهم يكون في وقت صيرورة ظل كل شيء مثله، ولا يفتر الحر إلا بعد المثلين، فإذا تعارضت الآثار يبقى ما كان على ما كان، ووقت الظهر ثابت بيقين، فلا يزول بالشك، ووقت العصر ما كان ثابتا فلا يدخل بالشك، وفيه أن الوقت المستحب للعشاء تأخيره إلى ثلث الليل أو إلى شطره، وهو حجة على من فضل التقديم.

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي : تأخير العشاء إلى ثلث الليل مستحب، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قاله الترمذي، وإلى النصف مباح، وما بعده مكروه، وحكى ابن المنذر أن المنقول عن ابن مسعود وابن عباس إلى ما قبل ثلث الليل، وهو مذهب إسحاق والليث أيضا، وبه قال الشافعي في كتبه الجديدة، وفي الإملاء والقديم تقديمها.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : وهو الأصح، وفيه كراهة النوم قبل العشاء؛ لأنه تعرض لفواتها باستغراق النوم، وفيه كراهية الحديث بعدها، وذلك لأن السهر في الليل سبب للكسل في النوم عما يتوجه من حقوق النوم والطاعات ومصالح الدين، قالوا: المكروه منه ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم وحكايات الصالحين ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة ومحادثة المسافرين لحفظ متاعهم أو أنفسهم والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك، وكل ذلك لا كراهة فيه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية