الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  527 29 - (حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  رجال هذا الحديث ولطائف إسناده قد مرت غير مرة.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضا من طريق مالك، وأخرجه الكشي من حديث حماد بن سلمة، عن نافع، وزاد في آخره: وهو قاعد، وكذا رواه النسائي، عن نوفل بن معاوية، كرواية ابن عمر، وفي (الأوسط) للطبراني: إن نوفلا رواه عن أبيه معاوية بلفظ: لأن يوتر أحدكم أهله وماله خير له من أن تفوته صلاة العصر.

                                                                                                                                                                                  وقال الذهبي : نوفل بن معاوية الديلي شهد الفتح، وتوفي بالمدينة سنة يزيد، روى عنه جماعة.

                                                                                                                                                                                  وقال في باب الميم: معاوية بن نوفل الديلي صحابي، روى عنه ابنه. قوله: (صلاة العصر) في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: يفوته العصر. قوله: (كأنما) كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: فكأنما، بالفاء والمبتدأ إذا تضمن معنى الشرط جاز في خبره الفاء وتركها. قوله: (وتر أهله وماله) بنصب اللامين في رواية الأكثرين؛ لأنه مفعول ثان، لقوله وتر، وهو على صيغة المجهول، والضمير فيه يرجع إلى قوله: (الذي تفوته صلاة العصر)، وهو المفعول الأول، فإن قلت: الفعل الذي يقتضي المفعولين يكون من أفعال القلوب، ووتر ليس منها، (قلت): إذا كان أحد المفعولين غير صريح يأتي أيضا من غير أفعال القلوب، وهاهنا كذلك، ووتر هاهنا متعد إلى مفعولين بهذا الوجه، وذلك كما في قوله تعالى: ولن يتركم أعمالكم أي: لن ينقصكم أعمالكم، فعلى هذا المعنى في وتر نقص، من وترته: إذا نقصته، فكأنك جعلته وترا بعد أن كان كثيرا. وقيل: معناه هاهنا سلب أهله وماله فبقي وترا ليس له أهل ولا مال.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : روي برفع اللامين، (قلت): هي رواية المستملي، وجهها أنه لا يضمر شيء في وتر، بل يقوم الأهل مقام ما لم يسم فاعله، وماله عطف عليه.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير: من رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما. وقيل: معناه وتر في أهله، فلما حذف الخافض انتصب. وقيل: إنه بدل اشتمال أو بدل بعض، ومعناه: انتزع منه أهله وماله.

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري : الموتر الذي قتل له قتيل، فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وترا ووترا وترة، (قلت): أصل ترة: وتر، فحذفت منها الواو تبعا لفعله المضارع، وهو يتر؛ لأن أصله يوتر، فحذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، فلما حذفت الواو في المصدر عوض عنها التاء، كما في عدة.

                                                                                                                                                                                  وتكلموا في معنى هذا الحديث، فقال الخطابي: نقص هو أهله وماله، وسلبهم فبقي بلا أهل ولا مال، فليحذر من يفوتها كحذره من ذهاب أهله وماله.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر : معناه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترا، وهي الجناية التي يطلب ثأرها، فيجتمع عليه غمان: غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي : يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه على من فقد أهله وماله، فيتوجه عليه الندم والأسف لتفويته الصلاة. وقيل: معناه: فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف، كما يلحق من ذهب أهله وماله، ثم اختلفوا في المراد بفوات العصر في هذا الحديث، فقال ابن وهب وغيره: هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار.

                                                                                                                                                                                  وقال الأصيلي وسحنون: هو أن تفوته بغروب الشمس. وقيل: أن يفوتها إلى أن تصفر الشمس، وقد ورد مفسرا في رواية الأوزاعي في هذا الحديث قال: وفواتها أن تدخل الشمس صفرة، وروى سالم عن أبيه أنه قال: هذا فيمن فاتته ناسيا.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي : هذا في العامد، وكأنه أظهر لما في البخاري : من ترك صلاة العصر حبط عمله، وهذا ظاهر في العمد.

                                                                                                                                                                                  وقال المهلب : هو فواتها في الجماعة؛ لما يفوته من شهود الملائكة الليلية والنهارية، ولو كان فواتها بغيبوبة أو اصفرار لبطل الاختصاص؛ لأن ذهاب الوقت كله موجود في كل صلاة.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو عمر : يحتمل أن يكون تخصيص العصر لكونه جوابا لسائل سأل عن صلاة العصر، وعلى هذا يكون حكم من فاته الصبح بطلوع الشمس والعشاء بطلوع الفجر كذلك، وخصت العصر لفضلها ولكونها مشهودة. وقيل: خصت بذلك تأكيدا وحضا على المثابرة عليها؛ لأنها تأتي في وقت اشتغال الناس. وقيل: يحتمل أنها خصت بذلك؛ لأنها [ ص: 39 ] على الصحيح أنها الصلاة الوسطى، وبها تختم الصلوات، واعترض النووي لابن عبد البر في قوله: (فعلى هذا يكون حكم من فاته الصبح إلى آخره)، فإن غير المنصوص إنما يلحق بالمنصوص إذا عرفت العلة، واشتركا فيها، قال: والعلة في هذا الحكم لم تتحقق، فلا يلحق غير العصر بها، انتهى. قلت: لقائل أن يحتج لابن عبد البر بما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق أبي قلابة، عن أبي الدرداء مرفوعا: من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته ، الحديث. ورد بأن في إسناده انقطاعا؛ لأن أبا قلابة لم يسمع من أبي الدرداء، وقد روى أحمد حديث أبي الدرداء بلفظ: من ترك العصر، فرجع حديث أبي الدرداء إلى تعيين العصر، (قلت): روى ابن حبان وغيره عن نوفل بن معاوية مرفوعا: من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله، وقد ذكرناه عن قريب، وهذا يشمل جميع الصلوات المكتوبات، ولكن روى الطبراني هذا الحديث، أعني: حديث الباب من وجه آخر، وزاد فيه عن الزهري، قلت لأبي بكر: يعني ابن عبد الرحمن، وهو الذي حدثه به: ما هذه الصلاة؟ قال: العصر، ورواه ابن أبي خيثمة من وجه آخر فصرح بكونها العصر في نفس الخبر، ورواه الطحاوي والبيهقي من وجه آخر فصرحا بكونها العصر في نفس الخبر، ورواه الطحاوي من وجه آخر، وفيه أن التفسير من قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، واعترض ابن المنير على قول المهلب المذكور عن قريب بأن الفجر أيضا فيها شهود الملائكة الليلية والنهارية فلا يختص العصر بذلك، قال: والحق أن الله تعالى يخص ما شاء من الصلوات بما شاء من الفضيلة، وبوب الترمذي على حديث الباب ما جاء في السهو عن وقت العصر، فحمله على الساهي، (قلت): لا تطابق بين ترجمته وبين الحديث؛ فإن لفظ الحديث الذي تفوته أعم من أن يكون ساهيا أو عامدا، وتخصيصه بالساهي لا وجه له، بل القرينة دالة على أن المراد بهذا الوعيد في العامد دون الساهي.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية