الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  8 باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أي هذا باب في ذكر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم " بني الإسلام على خمس "، فيكون ارتفاع باب على أنه خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب على خذ، " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي بعض النسخ " باب الإيمان وقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بني الإسلام على خمس "، والأولى أصح لأنه ذكر أولا كتاب الإيمان ولا يناسب بعده إلا الأبواب التي تدل على الأنواع، وذكر باب الإيمان بعد ذكر كتاب الإيمان لا طائل تحته على ما لا يخفى، وليس في رواية الأصيلي ذكر لفظ باب، وقد أخرج قوله عليه السلام بني الإسلام على خمس الحديث هنا مسندا، وفي غيره أيضا على ما نبينه عن قريب إن شاء الله تعالى، وقال بعضهم: واقتصاره على طرفه من تسمية الشيء باسم بعضه، قلت: لا تسمية هنا، ولا إطلاق اسم بعض الشيء على الشيء، وإنما البخاري لما أراد أن يبوب على هذا الحديث بابا ذكر أولا بعضه لأجل التبويب، واكتفى عن ذكر كله عند الباب بذكره إياه مسندا فيما بعد، فافهم.

                                                                                                                                                                                  والكلام في الإيمان على أنواع: الأول في معناه اللغوي، قال الزمخشري رحمه الله: الإيمان إفعال من الأمن، يقال: آمنته وآمنته غيري، ثم يقال: آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة، وأما تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقر وأعترف، وأما ما حكى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فحقيقته صرت ذا أمن به أي ذا سكون وطمأنينة، وقال بعض شراح كلامه: وحقيقة قولهم آمنت صرت ذا أمن وسكون، ثم ينقل إلى الوثوق، ثم إلى التصديق. ولا خفاء أن اللفظ مجاز بالنسبة إلى هذين المعنيين لأن من آمنه التكذيب فقد صدقه، ومن كان ذا أمن فهو في وثوق وطمأنينة، فهو انتقال من الملزوم إلى اللازم.

                                                                                                                                                                                  الثاني في معناه باعتبار عرف الشرع، فقد اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق: فرقة قالوا الإيمان فعل القلب فقط، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين: أحدهما هو مذهب المحققين وإليه ذهب الأشعري وأكثر الأئمة كالقاضي عبد الجبار والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والحسين بن الفضل وغيرهم أنه مجرد التصديق بالقلب أي تصديق الرسول عليه السلام في كل ما علم مجيئه به بالضرورة تصديقا جازما مطلقا أي سواء كان لدليل أو لا، فقولهم مجرد التصديق إشارة إلى أنه لا يعتبر فيه كونه مقرونا بعمل الجوارح والتقييد بالضرورة لإخراج ما لا يعلم بالضرورة أن الرسول عليه السلام جاء به كالاجتهاديات كالتصديق بأن الله تعالى عالم بالعلم أو عالم بذاته، والتصديق بكونه مرئيا أو غير مرئي، فإن هذين التصديقين وأمثالهما غير داخلة في مسمى الإيمان، فلهذا لا يكفر منكر الاجتهاديات بالإجماع والتقييد بالجازم لإخراج التصديق الظني فإنه غير كاف في حصول الإيمان، والتقييد بالإطلاق لدفع وهم خروج اعتقاد المقلد فإن إيمانه صحيح عند الأكثرين وهو الصحيح، فإن قيل: اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم عند سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلم زيد عليه الإيمان بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لاشتمال الإيمان بالكتب عليه لأن من جملة الكتب القرآن، وهو يدل على وجوب أخذ كل ما جاء به عليه السلام باعتقاد حقيته والعمل به; لقوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه والقول الثاني: أن الإيمان معرفة الله تعالى وحده بالقلب والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط، حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صفوان.

                                                                                                                                                                                  وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان، وهذا بعيد من الصواب لمخالفة ظاهر الحديث، والصواب ما حكاه [ ص: 103 ] الكعبي عن جهم أن الإيمان معرفة الله تعالى مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والفرقة الثانية قالوا: إن الإيمان عمل باللسان فقط، وهم أيضا فريقان: الأول أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ولكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا لأنها داخلة في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي والفضل الرقاشي.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة فيثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة، والفرقة الثالثة قالوا: إن الإيمان عمل القلب واللسان معا، أي في الإيمان الاستدلالي دون الذي بين العبد وبين ربه، وقد اختلف هؤلاء على أقوال: الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء وبعض المتكلمين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا، وهو قول بشر المريسي وأبي الحسن الأشعري.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب، فإن قلت: ما حقيقة المعرفة بالقلب على قول أبي حنيفة رضي الله عنه؟ قلت: فسروها بشيئين: الأول بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل وهو الأكثر والأصح، ولهذا حكموا بصحة إيمان المقلد الثاني بالعلم الصادر عن الدليل وهو الأقل، فلذلك زعموا أن إيمان المقلد غير صحيح، ثم اعلم أن لهؤلاء الفرقة اختلافا في موضع آخر أيضا وهو أن الإقرار باللسان هل هو ركن الإيمان أم شرط له في حق إجراء الأحكام؟ قال بعضهم: هو شرط لذلك حتى إن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من عند الله تعالى فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقر بلسانه.

                                                                                                                                                                                  وقال حافظ الدين النسفي، هو المروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإليه ذهب الأشعري في أصح الروايتين وهو قول أبي منصور الماتريدي، وقال بعضهم: هو ركن لكنه ليس بأصلي له كالتصديق، بل هو ركن زائد، ولهذا يسقط حالة الإكراه والعجز.

                                                                                                                                                                                  وقال فخر الإسلام: إن كونه ركنا زائدا مذهب الفقهاء وكونه شرطا لإجراء الأحكام مذهب المتكلمين، والفرقة الرابعة قالوا: إن الإيمان فعل القلب واللسان مع سائر الجوارح، وهم أصحاب الحديث ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي، وقال الإمام: وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية، أما أصحاب الحديث فلهم أقوال ثلاثة: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار، لأن أصل الطاعات الإيمان وأصل المعاصي الكفر، والفرع لا يحصل دون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد.

                                                                                                                                                                                  القول الثاني: أن الإيمان اسم للطاعات كلها فرائضها ونوافلها، وهي بجملتها إيمان واحد وأن من ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينقص إيمانه.

                                                                                                                                                                                  القول الثالث: أن الإيمان اسم للفرائض دون النوافل، وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به في الشرع التصديق، يقال: آمن بالله أي صدق، فإن الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، لا يقال: فلان آمن بكذا إذا صلى أو صام، بل يقال: آمن لله كما يقال صلى لله، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريق اللغة، وأما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول نقلا ثانيا من معنى التصديق إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الاعتقادات أو الأقوال والأفعال، وهو قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار.

                                                                                                                                                                                  والثاني: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وهو قول أبي علي الجبائي وأبي هاشم.

                                                                                                                                                                                  والثالث: أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد، وهو قول النظام ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب كل الكبائر، وأما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى ومعرفة كل ما نصب الله عليه دليلا عقليا أو نقليا ويتناول طاعة الله تعالى في جميع ما أمر به ونهى صغيرا كان أو كبيرا، قالوا: مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ويقرب من مذهب المعتزلة مذهب الخوارج، ويقرب من مذهبهما ما ذهب إليه السلف وأهل الأثر أن الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. إلا أن بين هذه المذاهب فرقا وهو أن من ترك شيئا من الطاعات سواء أكان من الأفعال أو الأقوال خرج من الإيمان عند [ ص: 104 ] المعتزلة، ولم يدخل في الكفر بل وقع في مرتبة بينهما يسمونها منزلة بين المنزلتين، وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كل واحدة من الطاعات كفر عندهم، وعند السلف لم يخرج من الإيمان.

                                                                                                                                                                                  وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وهذه أول مسألة نشأت في الاعتزال، ونقل عن الشافعي أنه قال: الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل. فالمخل بالأول وحده منافق، وبالثاني وحده كافر، وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنة، قال الإمام: هذا في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه، فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة؟ قلت: قد أجيب عن هذا الإشكال بأن الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان، وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث، والإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان.. " الحديث، وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل كما في حديث وفد عبد القيس: " أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس. والإيمان بهذا المعنى هو المراد بالإيمان المنفي في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ".. الحديث.

                                                                                                                                                                                  وهكذا كل موضع جاء بمثله فالخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أي المعنيين منقول شرعي وفي أيهما مجاز، ولا خلاف في المعنى فإن الإيمان المنجي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين، والإيمان المنجي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج، ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق.. " الحديث.

                                                                                                                                                                                  وقوله عليه السلام " يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "، فالحاصل أن السلف والشافعي إنما جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده وإن فات الثاني، فبهذا يندفع الإشكال، فإن قلت: ما ماهية التصديق بالقلب؟ قلت: قال الإمام قولا حاصله أن المراد من التصديق الحكم الذهني، بيان ذلك أن من قال إن العالم محدث ليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث، بل حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا فالحكم بثبوت الحدوث للعالم مغاير لثبوت الحدوث له، فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو الانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص به، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم، والدال غير المدلول.

                                                                                                                                                                                  ثم نقول: هذا الحكم الذهني غير العلم لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم، فيكون المراد من التصديق هو هذا الحكم الذهني، ويعلم من هذا الكلام أن المراد من التصديق هاهنا هو التصديق المقابل للتصور.

                                                                                                                                                                                  واعترض عليه صدر الشريعة بأن ذلك غير كاف، فإن بعض الكفار كانوا عالمين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم; لقوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الآية. وفرعون كان عالما برسالة موسى عليه السلام; لقوله تعالى حكاية عن خطاب موسى عليه السلام له مشيرا إلى المعجزات التي أوتيها: قال لقد علمت ما أنـزل هؤلاء إلا رب السماوات الآية.

                                                                                                                                                                                  ومع ذلك كانوا كافرين، ولو كان ذلك كافيا لكانوا مؤمنين لأن من صدق بقلبه فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام كما هو مروي عن أبي حنيفة، وأصح الروايتين عن الأشعري بل المراد به معناه اللغوي، وهو أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارا، قال: وإنما قيدنا بهذا لأنه إن وقع في القلب صدق المخبر ضرورة كما إذا ادعى النبي النبوة وأظهر المعجزة ووقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب الصدق إلى النبي عليه السلام اختيارا لا يقال في اللغة إنه صدقه، فعلم أن المراد من التصديق إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر اختيارا الذي هو الكلام النفسي، ويسمى عقد الإيمان.

                                                                                                                                                                                  والكفار العالمون برسالة الأنبياء عليهم السلام إنما لم يكونوا مؤمنين لأنهم كذبوا الرسل فهم كافرون لعدم التصديق لهم.

                                                                                                                                                                                  ولقائل أن يقول: التصديق بالمعنى اللغوي عين التصديق المقابل للتصور لأن إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر هو الحكم بثبوت الصدق له، وهو عين هذا التصديق، وإنما لم يكن الكفار العالمون برسالة الرسل مؤمنين مع حصول التصديق لهم لأن من أنكر منهم رسالتهم أبطل تصديقه القلبي تكذيبه اللساني ومن لم ينكرها أبطله بترك الإقرار اختيارا لأن الإقرار شرط إجراء الأحكام [ ص: 105 ] على رأي كما مر، وركن الإيمان حالة الاختيار على رأي كما مر، فلا يدل كفرهم على أن هذا التصديق غير كاف، ولهذا لو حصل التصديق لأحد ومات من ساعته فجأة قبل الإقرار يكون مؤمنا إجماعا.

                                                                                                                                                                                  وبقي هنا شيء آخر وهو أن التصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريا، والتصديق المقابل للتصور ليس باختياري كما بين في موضعه، فينبغي أن يجعل التصديق فعلا من أفعال النفس الاختيارية أو يقيد بأن يكون حصوله اختيارا بمباشرة سببه المعد لحصوله كما قيد المعترض التصديق اللغوي بذلك إلا أنه يلزم على هذا اختصاص التصديق بأن يكون علما صادرا عن الدليل.

                                                                                                                                                                                  إذا عرفت هذا، فنقول: احتج المحققون بوجوه:

                                                                                                                                                                                  منها ما يدل على أن الإيمان هو التصديق، ومنها ما يدل على أن الإيمان بالاجتهاديات كاعتقاد كونه عز وجل مرئيا أو غير مرئي ونحوه غير واجب.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما يدل على صحة إيمان المقلد وعدم اختصاص التصديق بما يكون عن دليل.

                                                                                                                                                                                  القسم الأول: ثلاثة أوجه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن الخطاب الذي توجه علينا بلفظ آمنوا بالله إنما هو بلسان العرب، ولم تكن العرب تعرف من لفظ الإيمان فيه إلا التصديق، والنقل عن التصديق لم يثبت فيه; إذ لو ثبت لنقل إلينا تواترا، واشتهر المعنى المنقول إليه لتوفر الدواعي على نقله ومعرفة ذلك المعنى لأنه من أكثر الألفاظ دورا على ألسنة المسلمين، فلما لم ينقل كذلك عرفنا أنه باق على معنى التصديق.

                                                                                                                                                                                  الثاني: الآيات الدالة على أن محل الإيمان هو القلب; مثل قوله تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقوله تعالى من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة حين قتل: من قال لا إله إلا الله واعتذر بأنه لم يقله عن اعتقاد بل عن خوف القتل " هلا شققت عن قلبه؟ ".

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: لا يلزم من كون محل الإيمان هو القلب كون الإيمان عبارة عن التصديق لجواز كونه عبارة عن المعرفة كما ذهب إليه جهم بن صفوان، قلت: لا سبيل إلى كونه عبارة عن المعرفة لوجهين: الأول أن لفظ الإيمان في خطاب آمنوا بالله مستعمل في لسان العرب في التصديق وأنه غير منقول عنه إلى معنى آخر، فلو كان عبارة عن المعرفة للزم صرفه عما يفهم منه عند العرب إلى غيره من غير قرينة وذلك باطل، وإلا لجاز مثله في سائر الألفاظ، وفيه إبطال اللغات ولزوم تطرق الخلل إلى الدلائل السمعية وارتفاع الوثوق عليها، وهذا خلف.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن أهل الكتاب وفرعون كانوا عارفين بنبوة محمد وموسى عليهما السلام ولم يكونوا مؤمنين لعدم التصديق، فتعين كونه عبارة عن التصديق; إذ لا قائل بثالث.

                                                                                                                                                                                  الوجه الثالث: أن الكفر ضد الإيمان، ولهذا استعمل في مقابلته; قال الله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله والكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب; فكذا ما يضادهما إذ لا تضاد عند تغاير المحلين; فثبت أن الإيمان فعل القلب وأنه عبارة عن التصديق لأن ضد التكذيب التصديق.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: جاز أن يكون حصول التكذيب والتصديق باللسان بدون التصديق القلبي لا وجودا ولا عدما; أما وجودا ففي المنافق وأما عدما ففي المكره بالقتل على إجراء كلمة الكفر على لسانه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان; قال الله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين نفى عن المنافقين الإيمان مع التصديق اللساني لعدم التصديق القلبي، وقال تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان أباح للمكره التكذيب باللسان عند وجود التصديق القلبي.

                                                                                                                                                                                  القسم الثاني: ثمانية أوجه:

                                                                                                                                                                                  الأول: وهو ما يدل على أن الإقرار باللسان غير داخل فيه ما أشرنا أنه لا يدل وجوده على وجود الإيمان ولا عدمه على عدمه; فجعل شرطا لإجراء الأحكام لأن الأصل في الأحكام أن تكون مبنية على الأمور الظاهرة إذا كان أسبابها الحقيقية خفية لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعسر، وأن تقام هي مقامها كما في السفر مع المشقة والتقاء الختانين مع الإنزال; فكذلك هاهنا لما كان التصديق القلبي الذي هو مناط الأحكام الإسلامية أمرا باطنا جعل دليله الظاهر وهو الإقرار بالقلب قائما مقامه لأن الموضوع للدلالة على المعاني الحاصلة في القلب إذا قصد الإعلام بها على ما هو الأصل إنما هي العبارة لا الإشارة والكتابة وأمثالهما; فيحكم بإيمان من تلفظ بكلمتي الشهادة سواء تحقق معه التصديق القلبي أو لا، ويحكم بكفر من لم يتلفظ بهما مع تمكنه سواء كان معه التصديق القلبي أو لا، ومن جعله ركنا فإنما جعله ركنا أيضا لدلالته على التصديق لا لخصوص كونه إقرارا، ألا ترى أن الكافر إذا صلى بجماعة يحكم بإسلامه وتجري عليه أحكام أهل الإيمان عند أبي حنيفة وأصحابه خلافا للشافعي؟ لأن الصلاة بالجماعة أيضا جعلت دليلا على تحقق الإيمان; لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا [ ص: 106 ] فهو منا أي الصلاة المختصة بنا وهي الصلاة بالجماعة بخلاف الصلاة منفردا وسائر العبادات لعدم اختصاصها بملتنا، هذا كله في الإيمان الاستدلالي الذي تجري عليه الأحكام، وأما الإيمان الذي يجري بين العبد وبين ربه فإنه يتحقق بدون الإقرار فيمن عرف الله تعالى وسائر ما يجب الإيمان به بالدليل واعتقد ثبوتها ومات قبل أن يجد من الوقت قدر ما يتلفظ بكلمتي الشهادة أو وجده لكنه لم يتلفظ بهما، فإنه يحكم بأنه مؤمن لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان "، وهذا قلبه مملوء من الإيمان، فكيف لا يكون مؤمنا؟ فإن قيل: يلزم من هذا أن لا يكون الإقرار باللسان معتبرا في الإيمان وهو خلاف الإجماع لأن الإجماع منعقد على أنه معتبر، وإنما الخلاف في كونه ركنا أو شرطا، قلت: منع الغزالي هذا الإجماع وحكم بكونه مؤمنا وأن الامتناع عن النطق يجري مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان، ومن كلامه يفهم جواز ترك الإقرار حالة الاختيار أيضا في الجملة وهو بمعنى ثان لكونه ركنا زائدا.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أنه يدل على أن أعمال سائر الجوارح غير داخلة فيه لأنه عطف العمل الصالح على الإيمان في قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نـزلا وقوله الذين يؤمنون بالغيب الآية، وقوله إنما يعمر مساجد الله الآية. فهذه كلها تدل على خروجه عنه; إذ لو دخل فيه يلزم من عطفه عليه التكرار من غير فائدة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: مقارنته بضد العمل الصالح كما في قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية. ووجه دلالته على المطلوب أنه لا يجوز مقارنة الشيء بضد جزئه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي لم يخلطوه بارتكاب المحرمات، ولو كانت الطاعة داخلة في الإيمان لكان الظلم منفيا عن الإيمان لأن ضد جزء الشيء يكون منفيا عنه، وإلا يلزم اجتماع الضدين فيكون عطف الاجتناب منها عليه تكرارا بلا فائدة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أنه تعالى جعل الإيمان شرطا لصحة العمل، قال الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين وقال الله تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن وشرط الشيء يكون خارجا عن ماهيته.

                                                                                                                                                                                  السادس: أنه تعالى خاطب عباده باسم الإيمان، ثم كلفهم بالأعمال كما في آيات الصوم والصلاة والوضوء، وذلك يدل على خروج العمل من مفهوم الإيمان وإلا يلزم التكليف بتحصيل الحاصل.

                                                                                                                                                                                  السابع: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اقتصر عند سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان بذكر التصديق; حيث قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث، ثم قال في آخره: " هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم "، ولو كان الإيمان اسما للتصديق مع شيء آخر كان النبي صلى الله عليه وسلم مقصرا في الجواب وكان جبريل عليه السلام آتيا ليلبس عليهم أمر دينهم لا ليعلمهم إياه.

                                                                                                                                                                                  الثامن: أنه تعالى أمر المؤمنين بالتوبة في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة وقوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون وهذا يدل على صحة اجتماع الإيمان مع المعصية لأن التوبة لا تكون إلا من المعصية، والشيء لا يجتمع مع ضد جزئه.

                                                                                                                                                                                  القسم الثالث: وجه واحد وهو أنه عليه السلام كان يحكم بإيمان من لم يخطر بباله كونه تعالى عالما بذاته أو بالعلم أو كونه عالما بالجزئيات على الوجه الكلي أو على الوجه الجزئي، ولو كان التصديق بأمثال ذلك معتبرا في تحقق الإيمان لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان مثله.

                                                                                                                                                                                  القسم الرابع: وجهان، وتقريرهما موقوف على تحرير المسألة أولا وهي متفرعة على إطلاق التصديق في تعريف الإيمان، فنقول: قال أهل السنة: من اعتقد أركان الدين من التوحيد والنبوة والصلاة والزكاة والصوم والحج تقليدا، فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها، وقال: لا آمن ورود شبهة يفسدها فهو كافر، وإن لم يعتقد جواز ذلك بل جزم على ذلك الاعتقاد فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: إنه مؤمن وإن كان عاصيا بترك النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة قواعد الدين كسائر فساق المسلمين وهو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، وعاقبة أمره الجنة لا محالة. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والأوزاعي والثوري وأهل الظاهر، وعبد الله بن سعيد القطان والحارث بن أسد وعبد العزيز بن يحيى المكي وأكثر المتكلمين.

                                                                                                                                                                                  وقال عامة المعتزلة: إنه ليس بمؤمن ولا كافر، وقال أبو هاشم: إنه كافر، فعندهم إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب الإيمان به من أصول الدين بالدليل العقلي على وجه يمكنه مجادلة الخصوم وحل جميع ما يورد عليه من الشبه حتى إذا عجز عن شيء [ ص: 107 ] من ذلك لم يحكم بإسلامه.

                                                                                                                                                                                  وقال الأشعري: وقوم من المتكلمين لا يستحق أن يطلق عليه اسم الإيمان إلا بعد أن يعرف كل مسألة من مسائل أصول الدين بدليل عقلي غير أن الشرط أن يعرف ذلك بقلبه سواء أحسن العبارة عنه أو لا; يعني لا يشترط أن يقدر على التعبير عن الدليل بلسانه ويبينه مرتبا موجها، وقالوا: هذا وإن لم يكن مؤمنا عندنا على الإطلاق لكنه ليس بكافر أيضا لوجود ما يضاد الكفر فيه وهو التصديق، وقالوا: وإنما قيدنا الدليل بالعقلي لأنه لا يجوز الاستدلال في إثبات أصول الدين بالدليل السمعي; لأن ثبوت الدليل السمعي موقوف على ثبوت وجود الصانع والنبوة، فلو أثبت وجود الصانع والنبوة به لزم الدور، والمراد من التقليد هو اعتقاد حقية قول الغير على وجه الجزم من غير أن يعرف دليله، وإذا عرف هذا جئنا إلى بيان وجهي المذهب الأصح:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن المقلد مأمور بالإيمان، وقد ثبت أن الإيمان هو التصديق القلبي، وقد أتى به فيكون مؤمنا وإن لم يعرف الدليل، ونظير هذا الاحتجاج ما روي أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لما قيل له: ما بال أقوام يقولون يدخل المؤمن النار؟ فقال: لا يدخل النار إلا المؤمن، فقيل له: والكافر، فقال: كلهم مؤمنون يومئذ. كذا ذكره في الفقه الأكبر، فقد جعل الكفار مؤمنين في الآخرة لوجود التصديق منهم، والكافر أيضا عند الموت يصير مؤمنا لأنه بمعاينة ملك الموت وأمارات عذاب الآخرة يضطر إلى التصديق إلا أن الإيمان في الآخرة وعند معاينة العذاب لا يفيد حصول ثواب الآخرة ولا يندفع به عقوبة الكفر، وهذا هو المعنى من قول العلماء: إن إيمان اليأس لا يصح أي لا ينفع ولا يقبل لا أنه لا يتحقق; إذ حقيقة الإيمان التصديق وهو يتحقق إذ الحقائق لا تتبدل بالأحوال، وإنما يتبدل الاعتبار والأحكام.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد من صدقه في جميع ما جاء به من عند الله مؤمنا، ولا يشتغل بتعليمه من الدلائل العقلية في المسائل الاعتقادية مقدار ما يستدل به مستدل ويناظر به الخصوم ويذب عن حريم الدين ويقدر على حل ما يورد عليه من الشبه، ولا بتعليم كيفية النظر والاستدلال وتأليف القياسات العقلية وطرق المناظرة والإلزام. وكذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل إيمان من آمن من أهل الردة، ولم يعلمهم الدلائل التي يصيرون بها مستبصرين من طرق العقل، وكذا عمر رضي الله عنه لما فتح سواد العراق قبل هو وعماله إيمان من كان بها من الزط والأنباط، وهما صنفان من الناس مع قلة أذهانهم وبلادة أفهامهم وصرفهم أعمارهم في الفلاحة، وضرب المعاول وكري الأنهار والجداول، ولو لم يكن إيمان المقلد معتبرا لفقد شرطه وهو الاستدلال العقلي لاشتغلوا بأحد أمرين إما بالإعراض عن قبول إسلامهم أو بنصب متكلم حاذق بصير بالأدلة عالم بكيفية المحاجة ليعلمهم صناعة الكلام حتى يحكموا بإيمانهم، ولما امتنعوا عن كل واحد من هذين الأمرين وامتنع أيضا كل من قام مقامهم إلى يومنا هذا عن ذلك، ظهر أن ما ذهب إليه الخصم باطل لأنه خلاف صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه العظام وغيرهم من الأئمة الأعلام.

                                                                                                                                                                                  النوع الثالث: في أن الإيمان هل يزيد وينقص؟ وهو أيضا من فروع اختلافهم في حقيقة الإيمان، فقال بعض من ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق: إن حقيقة التصديق شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان، وقال آخرون: إنه لا يقبل النقصان لأنه لو نقص لا يبقى إيمانا ولكن يقبل الزيادة لقوله تعالى وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ونحوها من الآيات.

                                                                                                                                                                                  وقال الداودي: سئل مالك عن نقص الإيمان، وقال: قد ذكر الله تعالى زيادته في القرآن وتوقف عن نقصه، وقال: لو نقص لذهب كله، وقال ابن بطال: مذهب جماعة من أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والحجة على ذلك ما أورده البخاري، قال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، وذكر الحافظ أبو القاسم هبة الله اللكائي في كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، ومعاذ وأبو الدرداء، وابن عباس وابن عمر، وعمار وأبو هريرة، وحذيفة وسلمان، وعبد الله بن رواحة وأبو أمامة وجندب بن عبد الله، وعمير بن حبيب وعائشة رضي الله تعالى عنهم. ومن التابعين: كعب الأحبار وعروة وعطاء، وطاوس ومجاهد وابن أبي مليكة، وميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير، والحسن ويحيى بن أبي كثير والزهري، وقتادة وأيوب ويونس وابن عون، وسليمان التيمي وإبراهيم النخعي وأبو البحتري وعبد الكريم الجريري، وزيد بن الحارث والأعمش ومنصور، والحكم وحمزة الزيات وهشام بن حسان ومعقل بن عبيد الله الجريري، ثم محمد بن أبي ليلى والحسن بن صالح ومالك بن مغول، ومفضل بن مهلهل [ ص: 108 ] وأبو سعيد الفزاري وزائدة وجرير بن عبد الحميد، وأبو هشام عبد ربه وعبثر بن القاسم وعبد الوهاب الثقفي، وابن المبارك وإسحاق بن إبراهيم وأبو عبيد بن سلام، وأبو محمد الدارمي والذهلي ومحمد بن أسلم الطوسي، وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود، وزهير بن معاوية وزائدة وشعيب بن حرب، وإسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم والوليد بن محمد، والنضر بن شميل والنضر بن محمد.

                                                                                                                                                                                  وقال سهل بن متوكل: أدركت ألف أستاذ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقال يعقوب بن سفيان: إن أهل السنة والجماعة على ذلك بمكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام; منهم: عبد الله بن يزيد المقري، وعبد الملك الماجشون، ومطرف، ومحمد بن عبيد الله الأنصاري، والضحاك بن مخلد، وأبو الوليد، وأبو النعمان، والقعنبي، وأبو نعيم، وعبيد الله بن موسى، وقبيصة، وأحمد بن يونس، وعمرو بن عون، وعاصم بن علي، وعبد الله بن صالح كاتب الليث، وسعيد بن أبي مريم، والنضر بن عبد الجبار، وابن بكير، وأحمد بن صالح، وأصبغ بن الفرج، وآدم بن أبي إياس، وعبد الأعلى بن مسهر، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن إبراهيم، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وحيوة بن شريح، ومكي بن إبراهيم، وصدقة بن الفضل، ونظراؤهم من أهل بلادهم.

                                                                                                                                                                                  وذكر أبو الحسن عبد الرحمن ابن عمر في كتاب الإيمان ذلك عن خلق، قال: وأما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان فخشية أن يتناول عليه موافقة الخوارج، وقال رستة: ما ذاكرت أحدا من أصحابنا من أهل العلم مثل علي بن المديني وسليمان يعني ابن حرب والحميدي وغيرهم إلا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.

                                                                                                                                                                                  وكذا روي عن عمير بن حبيب وكان من أصحاب الشجرة، وحكاه اللكائي في كتاب السنن عن وكيع وسعيد بن عبد العزيز، وشريك وأبي بكر بن أبي عياش، وعبد العزيز بن أبي سلمة والحمادين، وأبي ثور والشافعي وأحمد بن حنبل.

                                                                                                                                                                                  وقال الإمام: هذا البحث لفظي لأن المراد بالإيمان إن كان هو التصديق فلا يقبلهما وإن كان الطاعات فيقبلهما، ثم قال: الطاعات مكملة للتصديق; فكل ما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفا إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق، وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو مقرون بالعمل.

                                                                                                                                                                                  وقال بعض المتأخرين: الحق أن الإيمان يقبلهما سواء كان عبارة عن التصديق مع الأعمال وهو ظاهر أو بمعنى التصديق وحده; لأن التصديق بالقلب هو الاعتقاد الجازم وهو قابل للقوة والضعف فإن التصديق بجسمية الشبح الذي بين أيدينا أقوى من التصديق بجسميته إذا كان بعيدا عنا، ولأنه يبتدئ في التنزل من أجلى البديهيات; كقولنا: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ثم ينزل إلى ما دونه كقولنا: الأشياء المتساوية بشيء واحد متساوية، ثم إلى أجلى النظريات كوجود الصانع، ثم إلى ما دونه ككونه مرئيا، ثم إلى أخفاها كاعتقاد أن العرض لا يبقى زمانين.

                                                                                                                                                                                  وقال بعض المحققين: الحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بوجهين:

                                                                                                                                                                                  الأول: القوة والضعف لأنه من الكيفيات النفسانية، وهي تقبل الزيادة والنقصان كالفرح والحزن والغضب ولو لم يكن كذلك يقتضي أن يكون إيمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأفراد الأمة سواء وأنه باطل إجماعا; ولقول إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي

                                                                                                                                                                                  الثاني: التصديق التفصيلي في إفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالآخر، وقال بعضهم في هذا المقام الذي يؤدي إليه نظري: إنه ينبغي أن يكون الحق الحقيق بالقبول أن الإيمان بحسب التصديق يزيد بزيادة الكمية المعظمة وهي العدد قبل تقرر الشرائع بأن يؤمن الإنسان بجملة ما ثبت من الفرائض، ثم يثبت فرض آخر فيؤمن به أيضا، ثم وثم.. فيزداد إيمانه أو يؤمن بحقية كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا قبل أن تبلغ إليه الشرائع تفصيلا، ثم تبلغه فيؤمن بها تفصيلا بعدما آمن به إجمالا فيزداد إيمانه.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: يلزم من هذا تفضيل من آمن بعد تقرير الشرائع على من مات في زمن الرسول عليه السلام من المهاجرين والأنصار لأن إيمان أولئك أزيد من إيمان هؤلاء.

                                                                                                                                                                                  قلت: لا نسلم أن هذه الزيادة سبب التفضيل في الآخرة، وسند المنع أن كل واحد من هذين الفريقين مؤمن بجميع ما يجب الإيمان به بحسب زمانه، وهما متساويان في ذلك، وأيضا إنما يلزم تفضيلهم على الصحابة بسبب زيادة عدد إيمانهم لو لم يكن لإيمانهم ترجيح باعتبار آخر وهو قوة اليقين، وهو ممنوع لأن لإيمانهم ترجيحا، ألا ترى إلى قوله عليه السلام: " لو وزن إيمان أبي بكر مع إيمان جميع الخلق لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه "، ولا ينقص الإيمان بحسب العدد قبل تقرر الشرائع، ولا يلزم ترك الإيمان بنقص ما يجب الإيمان به ويزيد وينقص [ ص: 109 ] بحسب العدد بعد تقرر الشرائع بتكرار التصديق والتلفظ بكلمتي الشهادة مرة بعد أخرى بعد الذهول عنه تكرارا كثيرا أو قليلا، ويزيد وينقص مطلقا أي قبل تقرر الشرائع وبعده بحسب الكيفية أي القوة والضعف، بحسب ظهور أدلة حقية المؤمن به وخفائها وقوتها وضعفها وقوة اعتقاد المقلد في المقلد وضعفه، وروي عن بعض المحققين أنه قال: الأظهر أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين والراسخين في العلم أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبهة ولا يزلزل إيمانهم معارض، ولا تزال قلوبهم منشرحة للإسلام وإن اختلفت عليهم الأحوال.

                                                                                                                                                                                  النوع الرابع: في أن الإسلام مغاير للإيمان أو هما متحدان، فنقول: الإسلام في اللغة الانقياد والإذعان، وفي الشريعة الانقياد لله بقبول رسوله عليه السلام بالتلفظ بكلمتي الشهادة والإتيان بالواجبات والانتهاء عن المنكرات، كما دل عليه جواب النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، حيث قال النبي عليه السلام: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان.

                                                                                                                                                                                  ويطلق الإسلام على دين محمد، يقال: دين الإسلام كما يقال دين اليهودية والنصرانية، قال الله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وقال عليه السلام: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، ثم اختلف العلماء فيهما، فذهب المحققون إلى أنهما متغايران وهو الصحيح، وذهب بعض المحدثين والمتكلمين وجمهور المعتزلة إلى أن الإيمان هو الإسلام، والاسمان مترادفان شرعا، وقال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون في بعض الأحوال دون بعض، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا.

                                                                                                                                                                                  وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها، وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقا بالباطن غير منقاد في الظاهر، قلت: هذه إشارة إلى أن بينهما عموما وخصوصا مطلقا كما صرح به بعض الفضلاء، والحق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه لأن الإيمان أيضا قد يوجد بدون الإسلام كما في شاهق الجبل إذا عرف الله بعقله وصدق بوجوده ووحدته وسائر صفاته قبل أن تبلغه دعوة نبي، وكذا في الكافر إذا اعتقد جميع ما يجب الإيمان به اعتقادا جازما ومات فجأة قبل الإقرار والعمل، والحاصل أن بيان النسبة بين الإيمان والإسلام بالمساواة أو بالعموم والخصوص موقوف على تفسير الإيمان، فقال المتأخرون: هو تصديق الرسول عليه السلام بما علم مجيئه به ضرورة، والحنفية: التصديق والإقرار، والكرامية: الإقرار، وبعض المعتزلة: الأعمال، والسلف: التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان. فهذه أقوال خمسة، الثلاثة منها بسيطة وواحد مركب ثنائي، والخامس مركب ثلاثي.

                                                                                                                                                                                  ووجه الحصر أنه إما بسيط أو لا، والبسيط إما اعتقادي أو قولي أو عملي وغير البسيط إما ثنائي وإما ثلاثي. وهذا كله بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما عندنا فالإيمان هو بالكلمة فإذا قالها حكمنا بإيمانه اتفاقا بلا خلاف، ثم لا تغفل أن النزاع في نفس الإيمان، وأما الكمال فإنه لا بد فيه من الثلاثة إجماعا، ثم إن الذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو الإسلام والإسلام والإيمان مترادفان استدلوا على ذلك بوجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن الإيمان هو التصديق بالله، والإسلام إما أن يكون مأخوذا من التسليم وهو تسليم العبد نفسه لله تعالى أو يكون مأخوذا من الاستسلام وهو الانقياد، وكيف ما كان فهو راجع إلى ما ذكرنا من تصديقه بالقلب واعتقاده أنه تعالى خالقه لا شريك له.

                                                                                                                                                                                  الثاني: قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام بين أن دين الله هو الإسلام، وأن كل دين غير الإسلام غير مقبول، والإيمان دين لا محالة، فلو كان غير الإسلام لما كان مقبولا وليس كذلك.

                                                                                                                                                                                  الثالث: لو كانا متغايرين لتصور أحدهما بدون الآخر ولتصور مسلم ليس بمؤمن، وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أن الإيمان هو التصديق بالله فقط، وإلا لكان كثير من الكفار مؤمنين لتصديقهم بالله بل هو تصديق الرسول بكل ما علم مجيئه به بالضرورة كما مر، ولئن سلمنا لكن لا نسلم أن التسليم هاهنا بمعنى تسليم العبد نفسه، لم لا يجوز أن يكون بمعنى الاستسلام وهو الانقياد؟ ولأن أحد معاني التسليم الانقياد، وحينئذ يلزم تغايرهما لجواز الانقياد ظاهرا بدون تصديق القلب، وعن الثاني بأنا لا نسلم أن الإيمان الذي هو التصديق فقط دين بل الدين، إنما يقال لمجموع الأركان المعتبرة في كل دين كالإسلام [ ص: 110 ] بتفسير النبي عليه السلام، ولهذا يقال: دين الإسلام، ولا يقال: دين الإيمان. وهذا أيضا فرق آخر، ومعنى الآية: ومن يبتغ دينا غير دين محمد فلن يقبل منه، وعن الثالث بأن عدم تغايرهما بمعنى عدم الانفكاك لا يوجب اتحادهما معنى، وأيضا المنافقون كلهم مسلمون بالتفسير المذكور غير مؤمنين، فقد وجد أحدهما بدون الآخر ثم إنهم أولوا الآية بأن المراد بأسلمنا استسلمنا أي انقدنا، والخبر بأن سؤال جبريل عليه السلام ما كان عن الإسلام بل عن شرائع الإسلام، وأسندوا هذا إلى بعض الرواة، وأجيب بأن الاستسلام هاهنا ينبغي أن يكون بالمعنى المذكور في تعريف الإسلام وإلا لما تمكن المنافقون من دعوى الإيمان، وحينئذ لا فائدة في هذا التأويل، والمذكور في الصحيحين وغيرهما ما ذكرنا ولا تعارضه هذه الرواية الغريبة المخالفة للظاهر، قلت: في إثبات وحدة الإيمان والإسلام صعوبة وعسر لأنا لو نظرنا إلى قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه لزم اتحادهما إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لم يقبل قط، فتعين أن يكون عينه لأن الإيمان هو الدين والدين هو الإسلام; لقوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام فينتج أن الإيمان هو الإسلام، ولو نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان والإسلام: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، والإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ". لزم تغايرهما بتصريح تفسيرهما، ولأن قوله تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات يدل على المغايرة بينهما لأن العطف يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه.

                                                                                                                                                                                  النوع الخامس: في أن الإيمان هل هو مخلوق أم لا؟ فذهب جماعة إلى أنه مخلوق، فمنهم الحارث المحاسبي وجعفر بن حرب، وعبد الله بن كلاب وعبد العزيز المكي، وذكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الحديث أنهم قالوا: الإيمان غير مخلوق، وأحسن ما قيل فيه ما روي عن الفقيه أبي الليث السمرقندي أنه قال: إن الإيمان إقرار وهداية، فالإقرار صنع العبد وهو مخلوق والهداية صنع الرب وهو غير مخلوق.

                                                                                                                                                                                  النوع السادس: في قران المشيئة بالإيمان، فقالت طائفة: لا بد من قرانها، وحكي هذا عن أكثر المتكلمين، وقالت طائفة بجوازها، وقال بعض الشافعية: هو المختار، وقول أهل التحقيق، وقالت طائفة بجواز الأمرين، قال بعض الشافعية: هو حسن، وقالت الحنفية: لا يصح ذلك، فمن قارن إيمانه بالمشيئة لم يصح إيمانه، ورووا ما ذكر في كتاب أبي سعيد محمد بن علي بن مهدي النقاش، عن أنس رضي الله تعالى عنه يرفعه: " من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فليس له في الإسلام نصيب ". وفيه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه: " الإيمان ثابت ليس به زيادة ولا نقص، نقصانه وزيادته كفر ".

                                                                                                                                                                                  ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه يرفعه: " من زعم أن الإيمان يزيد وينقص، فزيادته نقص ونقصه كفر ". وفي كل ذلك نظر.

                                                                                                                                                                                  النوع السابع: اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على ما قاله النووي أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ونطق مع ذلك بالشهادتين، قال: فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلا بل يخلد في النار إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنا بالاعتقاد من غير لفظ، وإذا نطق بهما لم يشترط معهما أن يقول: وأنا بريء من كل دين خالف دين الإسلام على الأصح، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب، ولا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ، ومن أصحابنا من اشترط التبرؤ مطلقا وهو غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ". ومنهم من استحبه مطلقا، كالاعتراف بالبعث أما إذا اقتصر الكافر على قوله " لا إله إلا الله " ولم يقل:محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكون مسلما، ومن أصحابنا من قال: يصير مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتدا، وحجة الجمهور الرواية السالفة وهي مقدمة على هذه لأنها زيادة من ثقة وليس فيها نفي للشهادة الثانية، وإنما أن فيها تنبيها على الأخرى، وأغرب القاضي حسين فشرط في ارتفاع السيف عنه أن يقر بأحكامها مع النطق بها، فأما مجرد قولها فلا وهو عجيب منه، وقال النووي: اشترط القاضي أبو الطيب من أصحابنا الترتيب بين كلمتي الشهادة في صحة الإسلام، فيقدم الإقرار بالله على الإقرار برسوله، ولم أر من وافقه ولا من خالفه، وذكر الحليمي [ ص: 111 ] في منهاجه ألفاظا تقوم مقام لا إله إلا الله في بعضها نظر لانتفاء ترادفها حقيقة، فقال: ويحصل الإسلام بقوله لا إله غير الله ولا إله سوى الله أو ما عدا الله، ولا إله إلا الرحمن أو البارئ، أو لا رحمن أو لا بارئ إلا الله، أو لا ملك أو لا رازق إلا الله، وكذا لو قال: لا إله إلا العزيز أو العظيم أو الحكيم أو الكريم وبالعكس، قال: ولو قال أحمد أبو القاسم رسول الله فهو كقوله محمد.

                                                                                                                                                                                  (وهو قول وفعل ويزيد وينقص) أي أن الإيمان قول باللسان وفعل بالجوارح.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: الإيمان عنده قول وفعل واعتقاد، فكيف ذكر القول والفعل ولم يذكر الاعتقاد الذي هو الأصل؟ قلت: لا نزاع في أن الاعتقاد لا بد منه والكلام في القول والفعل هل هما منه أم لا; فلأجل ذلك ذكر ما هو المتنازع فيه، وأجيب أيضا بأن الفعل أعم من فعل الجوارح فيتناول فعل القلب.

                                                                                                                                                                                  وفيه نظر من وجهين: أحدهما هو أن يقال لا حاجة إلى ذكر القول أيضا لأنه فعل اللسان، والآخر أن الاعتقاد من مقولة الانفعال أو الفعل، وفيه تأمل.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ما وجه من أعاد الضمير أعني هو إلى الإسلام. قلت: وجهه أن الإيمان والإسلام واحد عند البخاري، فإذا كان كلاهما واحدا يجوز عود الضمير إلى كل واحد منهما.

                                                                                                                                                                                  قوله " يزيد وينقص " أي الإيمان والإسلام قبل الزيادة والنقصان، هذا على تقدير دخول القول والفعل فيه ظاهر، وأما على تقدير أن يكون نفس التصديق فإنه أيضا يزيد وينقص أي قوة وضعفا أو إجمالا وتفصيلا أو تعدادا بحسب تعدد المؤمن به كما حققناه، فما مضى وهذا الذي قاله البخاري منقول عن سفيان بن عيينة، فإنه قال: الإيمان قول وفعل يزيد وينقص. فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص فغضب، وقال: اسكت يا صبي، بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء.

                                                                                                                                                                                  قال أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن يزيد رستة: حدثنا الحميدي، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي، قال: سألت عشرة من الفقهاء، فكلهم قالوا: الإيمان قول وعمل. الثوري، وهشام بن حسان، وابن جريج، ومحمد بن عمرو بن عثمان، والمثنى بن الصباح، ونافع بن عمر الجمحي، ومحمد بن مسلم الطائفي، ومالك بن أنس، وفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة. قال رستة: وحدثنا بعض أصحابنا عن عبد الرزاق، قال: سمعت معمرا والأوزاعي يقولان: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ".

                                                                                                                                                                                  قال الله تعالى: ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وزدناهم هدى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ويزداد الذين آمنوا إيمانا وقوله أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وقوله جل ذكره فاخشوهم فزادهم إيمانا وقوله تعالى وما زادهم إلا إيمانا وتسليما هذه ثماني آيات ذكرها دليلا على زيادة الإيمان، وقد قلنا: إنه كثيرا ما يستدل لترجمة الباب بالقرآن وبما وقع له من سنة مسندة وغيرها أو أثر من الصحابة أو قول للعلماء ونحو ذلك، ولكن ذكر هذه الآيات ما كان يناسب إلا في باب زيادة الإيمان ونقصانه.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: الآيات دلت على الزيادة فقط، والمقصود بيان الزيادة والنقصان كليهما، قلت: قال الكرماني: كل ما قبل الزيادة لا بد أن يكون قابلا للنقصان ضرورة. ثم الآية الأولى في سورة الفتح وهو قوله تعالى هو الذي أنـزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما قال الزمخشري: أي أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح والأمن ليعرفوا فضل الله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والهدنة غب القتال فيزدادوا يقينا إلى يقينهم، أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع ليزدادوا يقينا إلى يقينهم، أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به محمد عليه السلام من الشرائع ليزدادوا إيمانا بالشرائع مقرونا إلى إيمانهم وهو التوحيد، وعن ابن عباس: أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ثم الحج ثم الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وأنزل فيها الوقار والعظمة لله ولرسوله ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى إيمانهم، وقيل: أنزل الله فيه الرحمة ليتراحموا فيزداد إيمانهم. الآية.

                                                                                                                                                                                  الثانية في سورة الكهف، وهي قوله تعالى نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا الآية نبأهم أي خبرهم، والفتية جمع فتى، والهدى من هداه يهديه أي دلالة موصلة إلى البغية وهو متعد، والاهتداء لازم، قال الزمخشري: وزدناهم هدى [ ص: 112 ] بالتوفيق والتثبت وربطنا على قلوبهم وقوينا بالصبر على هجر الأوطان والنعيم والفرار بالدين إلى بعض الغيران وحشرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام إذ قاموا بين يدي الجبار وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم فقالوا ربنا رب السماوات والأرض الآية.

                                                                                                                                                                                  الثالثة: في سورة مريم، وهي قوله تعالى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا أي يزيد الله المهتدين هداية بتوفيقه، والمراد من الباقيات الصالحات أعمال الآخرة كلها، وقيل: الصلوات، وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أي هي خير ثوابا من مفاخرات الكفار، وخير مردا أي مرجعا وعاقبة.

                                                                                                                                                                                  الآية الرابعة: في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم أي زادهم الله هدى بالتوفيق وآتاهم تقواهم أعانهم عليها، وعن السدي بين لهم ما يتقون، وقرئ وأعطاهم.

                                                                                                                                                                                  الآية الخامسة: في سورة المدثر، وهي قوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا أي عدة الملائكة الذين يلون أمر جهنم لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، ولأنهم أشد الخلق بأسا وأقواهم بطشا، والتقدير: لقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب; لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من عند الله وازداد المؤمنون إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل.

                                                                                                                                                                                  الآية السادسة: في سورة براءة من الله ورسوله، وهي قوله تعالى وإذا ما أنـزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون أي فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيمانا إنكار واستهزاء بالمؤمنين، واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به.

                                                                                                                                                                                  الآية السابعة: في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل المراد من الناس: الأول: نعيم بن مسعود الأشجعي، ومن الثاني: أهل مكة. وروي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله، فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل من الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم، إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ما هذا بالرأي، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد، أفتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم؟ ! فوالله لا يفلت منكم أحد.

                                                                                                                                                                                  وقيل: مر بأبي سفيان ركب عبد القيس يريدون المدينة للميرة، فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم، فكره المسلمون الخروج، فقال عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد "، فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فخرج أبو سفيان إلى مكة، فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.

                                                                                                                                                                                  الآية الثامنة: في سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما هذا إشارة إلى الخطب والبلاء، قوله وما زادهم إلا إيمانا أي بالله وبمواعيده وتسليما لقضاياه وأقداره.

                                                                                                                                                                                  (والحب في الله والبغض في الله من الإيمان) والحب مرفوع بالابتداء، والبغض معطوف عليه، وقوله من الإيمان خبره، وكلمة في أصلها للظرفية ولكنها هاهنا تقال للسببية أي بسبب طاعة الله تعالى ومعصيته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " في النفس المؤمنة مائة من الإبل "، وقوله في التي حبست الهرة فدخلت النار فيها أي بسببها، ومنه قوله فذلكن الذي لمتنني فيه وقوله لمسكم في ما أفضتم ثم هذه الجملة يجوز أن تكون عطفا على ما أضيف إليه الباب فتدخل في ترجمة الباب كأنه قال: والحب في الله من الإيمان والبغض في الله من الإيمان، ويجوز أن يكون ذكرها لبيان إمكان الزيادة والنقصان، كذلك الآيات، وروى أبو داود بإسناده إلى [ ص: 113 ] أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله "، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا زيد بن الحباب، عن الصعق بن حرب، قال: حدثني عقيل بن الجعد، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله "، وروى ابن أبي شيبة أيضا، عن أبي فضيل، عن الليث، عن عمرو بن مرة، عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله ". وأخرج الترمذي من حديث معاذ بن أنس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان ".

                                                                                                                                                                                  وقال: هذا حديث منكر، وأخرج أبو داود من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية