الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  54 فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا من مقول البخاري لا من تتمة ما جاء، والدليل عليه ما صرح به في رواية ابن عساكر فقال: قال أبو عبد الله: فدخل فيه الإيمان إلخ، والمراد بأبي عبد الله هو البخاري نفسه، فإن قلت: ما الفاء في قوله: فدخل، قلت فاء جواب شرط محذوف تقديره: إذا كان الأعمال بالنية، فدخل فيه الإيمان إلخ، والضمير في "فيه" يرجع إلى ما تقدم من قوله: باب ما جاء أن الأعمال بالنية إلخ، والتذكير باعتبار المذكور، ثم اعلم أنه ذكر هنا سبعة أشياء.

                                                                                                                                                                                  الأول: الإيمان، فدخوله في ذلك على ما ذهب إليه البخاري من أن الإيمان عمل، وقد علم أن معنى الإيمان إما التصديق أو معرفة الله تعالى بأنه واحد لا شريك له، وكل ما جاء من عنده حق، فإن كان المراد الأول فلا دخل للنية فيه لأن الشارع قال: الأعمال بالنية، والأعمال حركات البدن، ولا دخل للقلب فيه، وإن كان المراد الثاني فدخول النية فيه محال لأن معرفة الله تعالى لو توقفت على النية مع أن النية قصد المنوي بالقلب لزم أن يكون عارفا بالله قبل معرفته، وهو محال، ولأن المعرفة وكذا الخوف والرجاء متميزة لله تعالى بصورتها، وكذا التسبيح وسائر الأذكار، والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب.

                                                                                                                                                                                  الثاني الوضوء فدخوله في ذلك على مذهبه، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وعامة أصحاب الحديث، وعن أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي: لا يدخل، وقالوا: ليس الوضوء عبادة مستقلة، وإنما هي وسيلة إلى الصلاة، وقال الخصم: ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية النية فيه، قلت: هذا التعليل ينتقض بتطهير الثوب والبدن عن الخبث، فإنه طهارة، ولم يشترط فيها النية، فإن قالوا: الوضوء تطهير حكمي ثبت شرعا غير معقول لأنه لا يعقل في المحل نجاسة تزول بالغسل إذ الأعضاء طاهرة حقيقة وحكما، أما حقيقة فظاهر، وأما حكما فلأنه لو صلى إنسان وهو حامل محدث جازت الصلاة، وإذا ثبت أنه تعبدي، وحكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة كان مثل التيمم حيث جعل الشارع ما ليس بمطهر حقيقة مطهرا حكما فيشترط فيه النية كالتيمم تحقيقا لمعنى التعبد إذ [ ص: 313 ] العبادة لا تتأدى بدون النية بخلاف غسل الخبث فإنه معقول لما فيه من إزالة عين النجاسة عن البدن أو الثوب فلا يتوقف على النية، قلنا: الماء مطهر بطبعه لأنه خلق مطهرا، قال الله تعالى: وأنـزلنا من السماء ماء طهورا كما أنه مزيل للنجاسة ومطهر بطبعه، وإذا كان كذلك تحصل الطهارة باستعماله سواء نوى أو لم ينو كالنار يحصل بها الإحراق، وإن لم يقصد، والحدث يعم البدن لأنه غير متجزئ فيسري إلى الجميع، ولهذا يوصف به كله، فيقال: فلان محدث كسائر الصفات إذ ليس بعض الأعضاء أولى بالسراية من البعض إذ لو خصص بعض الأعضاء بالحدث لخص موضع خروج النجاسة بذلك لأنه أولى المواضع به لخروج النجاسة منه لكنه لم يخص فإنه لا يقال مخرجه محدث، فإذا لم يخص المخرج بذلك فغيره أولى، وإذا ثبت أن البدن كله موصوف بالحدث كان القياس غسل كله إلا أن الشرع اقتصر على غسل الأعضاء الأربعة التي هي الأمهات للأعضاء تيسيرا، وأسقط غسل الباقي فيما يكثر وقوعه كالحدث الأصغر دفعا للحرج، وفيما عداه، وهو الذي لا يكثر وجوده كالحدث الأكبر مثل الجنابة والحيض والنفاس أقر على الأصل حيث أوجب غسل البدن فيها، فثبت بما ذكرنا أن ما لا يعقل معناه وصف كل البدن بالنجاسة مع كونه طاهرا حقيقة، وحكمها دون تخصيص المخرج، وكذا الاقتصار على غسل بعض البدن، وهو الأعضاء الأربعة بعد سراية الحدث إلى جميع البدن غير معقول، وكونهما مما لا يعقل لا يوجب تغيير صفة المطهر فبقي الماء مطهرا كما كان، فيطهر مطلقا، والنية لو اشترطت إنما تشترط للفعل القائم بالماء، وهو التطهير لا الوصف القائم بالمحل، وهو الحدث لأنه ثابت بدون النية، وقد بينا أن الماء فيما يقوم به من صفة التطهير لا يحتاج إلى النية لأنه مطهر طبعا فيكون التطهير به معقولا فلا يحتاج إلى النية كما لا يحتاج في غسل الخبث بخلاف التراب فإنه غير مطهر بطبعه لكونه ملوثا بالطبع، وإنما صار مطهرا شرعا حال إرادة الصلاة بشرط فقد الماء، فإذا وجدت نية إرادة الصلاة صار مطهرا، وبعد إرادة الصلاة وصيرورته مطهرا شرعا مستغن عن النية كما استغنى الماء عنها بلا فرق بينهما.

                                                                                                                                                                                  الثالث: الصلاة ولا خلاف أنها لا تجوز إلا بالنية.

                                                                                                                                                                                  الرابع: الزكاة ففيها تفصيل وهو أن صاحب النصاب الحولي إذا دفع زكاته إلى مستحقيها لا يجوز له ذلك إلا بنيةمقارنة للأداء أو عند عزل ما وجب منها تيسيرا له، وأما إذا كان له دين على فقير فأبرأه عنه سقط زكاته عنه نوى به الزكاة أولا، ولو وهب دينه من فقير ونوى عن زكاة دين آخر على رجل آخر أو نوى زكاة عين له لا يصح، ولو غلب الخوارج على بلدة فأخذوا العشر سقطت عن أرباب الأموال بخلاف الزكاة، فإن للإمام أن يأخذها ثانيا لأن التقصير هاهنا من جهة صاحب المال حيث مر بهم، وهناك التقصير في الإمام حيث قصر فيهم، وقالت الشافعية: السلطان إذا أخذ الزكاة فإنها تسقط، ولو لم ينو صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه، قلت: كان ينبغي على أصلهم أن لا تسقط إلا بالنية منه لأن السلطان قائم مقامه في دفعها إلى المستحقين لا في النية، ولا حرج في اشتراط النية عند أخذ السلطان.

                                                                                                                                                                                  الخامس: الحج ولا خلاف فيه أنه لا يجوز إلا بالنية لأنه داخل في عموم الحديث، فإن قلت: قال الشافعي: إذا نوى الحج عن غيره ينصرف إلى حج نفسه ويجزيه عن فرضه، وقد ترك العمل بعموم الحديث، قلت: قالت الشافعية: أخرجه الشافعي من عموم الحديث بحديث شبرمة، والعمل بالخاص مقدم لأنه جمع بين الدليلين، وحديث شبرمة رواه أبو داود عن إسحاق بن إسماعيل، وهناد بن السري المعنى واحد قال إسحاق: أنبأنا عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عروة، عن سعيد بن جبير: "عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ له أو قريب له، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة " رواته كلهم رجال مسلم إلا إسحاق بن إسماعيل شيخ أبي داود، وقد وثقه بعضهم، وقال البيهقي : هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه، وقد أخرجه ابن ماجه أيضا في سننه، وجاء في رواية البيهقي: "فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، وفي رواية له أيضا: "هذه عنك وحج عن شبرمة"، وقالوا: فهم من هذا الحديث أنه لا بد من تقديم فرض نفسه، وهو قول ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، واحتجت الحنفية بما رواه البخاري ومسلم: " أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الحج، وإنه شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، حجي عن أبيك " من غير استفسار هل حججت أم لا، وهذا أصح من حديث شبرمة على أن الدارقطني قال: الصحيح من الرواية: "اجعلها في نفسك ثم حج عن شبرمة "، قالوا: كيف يأمره بذلك، والإحرام [ ص: 314 ] وقع عن الأول قلنا: يحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين لم يكن الإحرام لازما على ما روي عن بعض الصحابة أنه تحلل في حجة الوداع عن الحج بأفعال العمرة، فكان يمكنه فسخ الأول، وتقديم حج نفسه، والزيادات التي رواها البيهقي لم تثبت.

                                                                                                                                                                                  السادس الصوم ففيه خلاف فمذهب عطاء، ومجاهد، وزفر أن الصحيح المقيم في رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه لا يصح في رمضان النفل فلا معنى للنية، وعند الأئمة الأربعة: لا بد من النية غير أن تعيين الرمضانية ليس بشرط عند الحنفية حتى لو صام رمضان بنية قضاء أو نذر عليه أو تطوع أنه يجزئ عن فرض رمضان، فإن قلت: لم قدم الحج على الصوم؟ قلت: بناء على ما ورد عنده في حديث: "بني الإسلام على خمس"، وقد تقدم.

                                                                                                                                                                                  السابع الأحكام، قال الكرماني: قوله: "الأحكام" أي بتمامها، فيدخل فيه تمام المعاملات والمناكحات والجراحات إذ يشترط في كلها القصد إليه، ولهذا لو سبق لسانه من غير قصد إلى بعت ورهنت وطلقت ونكحت لم يصح شيء منها، قلت: كيف يصح أن يقال: الأحكام بتمامها، وكثير منها لا يحتاج إلى نية بخلاف بين العلماء، فإن قال: هذا بناء على مذهبه فمذهبه ليس كذلك، فإن القاضي أبا الطيب نقل عن البويطي عن الشافعي أن من صرح بلفظ الطلاق، والظهار، والعتق، ولم يكن له نية يلزمه في الحكم، وكذلك أداء الدين، ورد الودائع، والأذان، والتلاوة، والأذكار، والهداية إلى الطريق، وإماطة الأذى عبادات كلها تصح بلا نية إجماعا، وقال بعضهم: والأحكام أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع، والأنكحة، والأقارير، وغيرها، قلت: هذا أيضا مثل ذلك فإن رد الودائع فيما تقع به فيه المحاكمة مع أن النية ليست بشرط فيه إجماعا، وكذلك أداء الدين، فإن قلت: مؤدي الدين أو راد الوديعة يقصد براءة الذمة، وذلك عبادة، قلت: نحن لا ندعي أن النية لا توجد في مثل هذه الأشياء، وإنما ندعي عدم اشتراطها، ومؤدي الدين إذا قصد براءة الذمة برئت ذمته، وحصل به الثواب، وليس لنا فيه نزاع، وإذا أدى من غير نية براءة الذمة هل يقول أحد: إن ذمته لا تبرأ.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنير: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلا بل المقصود به طلب الثواب فالنية شرط فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة، وتقاضته الطبيعة فلا يشترط فيه النية إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب، قال: وإنما اختلفت العلماء في بعض الصور لتحقق مناط التفرقة، قال: وأما ما كان من المعاني المختصة كالخوف، والرجاء، فهذا لا يقال فيه باشتراط النية لأنه لا يمكن إلا منويا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيها شرط عقلي، وكذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل.

                                                                                                                                                                                  قلت: فيه نظر من وجوه; الأول: في قوله كل عمل لا يظهر له فائدة فإنه منقوض بتلاوة القرآن، والأذان، وسائر الأذكار، فإنها أعمال لا تظهر لها فائدة عاجلا بل المقصود منها طلب الثواب مع أن النية ليست بشرط فيها بلا خلاف، الثاني في قوله: وكل عمل ظهرت إلى آخره فإنه منقوض أيضا بالبيع والرهن والطلاق والنكاح بسبق اللسان من غير قصد، فإنه منقوض لم يصح شيء منها على أصلهم لعدم النية، الثالث في قوله: وأما ما كان من المعاني المختصة إلى آخره، فإنه جعل النية فيه حقيقة تلك المعاني ثم قال: فالنية فيها شرط عقلي وبين الكلامين تناقض، الرابع في قوله: وكذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل، فإنه بنى عدم اشتراط النية للنية على الفرار من التسلسل، وليس كذلك لأن الشارع شرط النية للأعمال، وهي حركات البدن، والنية خطرة القلب، وليست من الأعمال، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله"، فإذا كانت النية عملا يكون المعنى: عمل المؤمن خير من عمله، وهذا لا معنى له.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية