الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5559 114 - حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: " فخالفوهم"؛ لأن مخالفتهم بالخضاب. والحميدي قد تكرر ذكره، وهو عبد الله بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد، أحد أجداده. وسفيان هو ابن عيينة، والزهري محمد بن مسلم، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، وسليمان بن يسار، ضد اليمين.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في اللباس، عن يحيى بن يحيى وغيره. وأخرجه أبو داود، عن مسدد. وأخرجه النسائي في الزينة، عن إسحاق بن إبراهيم وغيره. وأخرجه ابن ماجه في اللباس، عن أبي بكر بن أبي شيبة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فخالفوهم" يعني بالصبغ. وفي رواية مسلم فخالفوا عليهم واصبغوا. قيل: ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوافق أهل الكتاب ما لم ينـزل عليه شيء بخلافه؛ ولهذا قيل: شرع من قبلنا يلزمنا ما لم يقض الله بالإنكار.

                                                                                                                                                                                  وأجيب بأنه كان ذلك في أول الإسلام ائتلافا لهم ومخالفة لعبدة الأوثان، فلما أغنى الله عن ذلك وأظهر الإسلام على الدين كله، أحب المخالفة. وقال ابن أبي عاصم: قوله: فخالفوهم إباحة منه أن يغير الشيب بكل ما شاء المغير له؛ إذ لم يتضمن قوله: "فخالفوهم" أن اصبغوا بكذا وكذا دون كذا وكذا. وروي من حديث الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبي الأسود الدؤلي، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء، والكتم. وفي رواية: إنه أفضل. وعن ابن عباس وأنس، وعبد الله بن بريدة، عن أبيه مثله. ومن حديث الضحاك بن حمزة، عن غيلان بن جامع، وإياد بن لقيط، عن أبي رمثة قال: رأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وله شعر مخضوب بالحناء، والكتم. وروى أحمد بسند حسن، عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب . وروى ابن أبي عاصم من حديث هشام، عن أبيه، عن الزبير بن العوام، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود. ورواه الأوزاعي قال: اخضبوا; فإن اليهود والنصارى لا يخضبون.

                                                                                                                                                                                  والكلام في هذا الباب على نوعين؛

                                                                                                                                                                                  الأول: في تغيير الشيب، واختلفوا فيه؛ فروى شعبة عن الركين بن الربيع قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يكره تغيير الشيب. وروى الطبراني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة، إلا أن ينتفها أو يخضبها. وعن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكره خصالا فذكر منها: تغيير الشيب، وقد غير جماعة من الصحابة والتابعين الشيب، فروي عن قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخرج إلينا، وكأن لحيته ضرام العرفج من الحناء والكتم. وأخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر رضي الله تعالى عنه بالحناء بحتا - بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وبالتاء المثناة من فوق – أي: صرفا خالصا، وكان الشعبي، وابن أبي مليكة يختضبان به، وممن كان يصبغ بالصفرة: علي، وابن عمر، والمغيرة، وجرير البجلي، وأبو هريرة، وعطاء، وأبو وائل، والحسن، وطاوس، وسعيد بن المسيب. وقال المحب الطبري: والصواب عندنا أن الآثار التي رويت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتغييره والنهي عنه- صحاح، ولكن بعضها عام، وبعضها خاص، فقوله: خالفوا اليهود وغيروا الشيب، المراد منه الخصوص، أي: غيروا الشيب الذي هو نظير شيبة أبي قحافة. وأما من كان أشمط؛ فهو الذي أمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن لا يغيره، وقال: [ ص: 51 ] من شاب شيبة.. الحديث; لأنه لا يجوز أن يكون من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - قول متضاد، ولا نسخ، فتعين الجمع، فمن غيره من الصحابة فمحمول على الأول، ومن لم يغيره فعلى الثاني، مع أن تغييره ندب لا فرض، أو كان النهي نهي كراهة لا تحريم؛ لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وكذلك الأمر فيما أمر به على وجه الندب، والطحاوي رحمه الله مال إلى النسخ بحديث الباب، وقال ابن العربي: وإنما نهى عن النتف دون الخضب; لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب; فإنه لا يغير الخلقة على الناظر. ونقل عن أحمد أنه يجب، وعنه: يجب ولو مرة، وعنه: لا أحب لأحد أن يترك الخضب ويتشبه بأهل الكتاب.

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني: فيما يصبغ به، واختلف فيه؛ فالجمهور على أن الخضاب بالحمرة والصفرة دون السواد; لما روي فيه من الأخبار المشتملة على الوعيد، فروى عبد الكريم عن ابن جبير، عن ابن عباس يرفعه: يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد، لا يجدون ريح الجنة. وروى المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: من خضب بالسواد؛ لم ينظر الله إليه. وروى الطبراني، عن جنادة، عن أبي الدرداء، يرفعه: من خضب بالسواد؛ سود الله وجهه يوم القيامة. وروى عن أنس، يرفعه: غيروا، ولا تغيروا بالسواد. وذكر ابن أبي العاصم بأسانيد أن حسنا وحسينا رضي الله تعالى عنهما كانا يختضبان به، أي بالسواد، وكذلك ابن شهاب، وقال: أحبه إلينا أحلكه، وكذلك شرحبيل بن السمط، وقال عنبسة بن سعيد: إنما شعرك بمنزلة ثوبك فاصبغه بأي لون شئت، وأحبه إلينا أحلكه، وكان إسماعيل بن أبي عبد الله يخضب بالسواد، وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه كان يأمر بالخضاب بالسواد، ويقول: هو تسكين للزوجة وأهيب للعدو. وعن ابن أبي مليكة، أن عثمان كان يخضب به، وعن عقبة بن عامر والحسن والحسين، أنهم كانوا يختضبون، ومن التابعين: علي بن عبد الله بن عباس، وعروة بن الزبير، وابن سيرين، وأبو بردة. وروى ابن وهب، عن مالك قال: لم أسمع في صبغ الشعر بالسواد نهيا معلوما، وغيره أحب إلي. وعن أحمد فيه روايتان، وعن الشافعية أيضا روايتان، والمشهور: يكره، وقيل: يحرم، ويتأكد المنع لمن دلس به. وذكر الكلبي أن أول من صبغ بالسواد عبد المطلب بن هاشم. قلت: هذا من العرب. وأما أول من صبغ لحيته بالسواد؛ ففرعون موسى عليه السلام، وله حكاية ذكرناها في (تاريخنا).




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية