الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  55 2- حدثنا حجاج بن منهال قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد، عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  قد قلنا: إن الباب معقود على ثلاث تراجم لكل ترجمة حديث يطابقها، وهذا الحديث للترجمة الثانية، وهي قوله: "والحسبة" .

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم خمسة الأول: الحجاج بن منهال بكسر الميم أبو محمد الأنماطي السلمي مولاهم وغيره سمع شعبة من الأعلام، وروى عنه محمد بن يحيى الذهلي، وابن وارة، والبغوي، وإسماعيل القاضي، والبخاري، وآخرون اتفق على توثيقه، وكان رجلا صالحا، وكان سمسارا يأخذ من كل دينار حبة، فجاء خراساني موسر من أصحاب الحديث فاشترى له أنماطا، وأعطاه ثلاثين دينارا فقال: خذ هذه سمسرتك، قال: دنانيرك أهون علي من هذا التراب، هات من كل دينار حبة، وأخذ ذلك، قال أحمد بن عبد الله: هو بصري ثقة مات بالبصرة سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومائتين. قال الشيخ قطب الدين في شرحه: وروى له البخاري، وروى مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن رجل عنه، وقال النووي في شرحه: روى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وقال المزني في تهذيبه: روى له الستة، والصواب أن البخاري، ومسلما، وأبا داود رووا عنه، والثلاثة البقية رووا له، وليس في الكتب الستة حجاج بن منهال سواه، الثاني شعبة بن حجاج، وقد مر ذكره غير مرة، الثالث عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي سمع جده لأمه عبد الله بن زيد الأنصاري، والبراء بن عازب، وغيرهما من الصحابة روى عنه الأعمش، وشعبة، وغيرهما، قال أحمد: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة بالكوفة وقاضيهم مات سنة ست عشرة ومائة، روى له الجماعة، الرابع عبد الله بن يزيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة واسمه عبد الله بن خثيم بن مالك بن أوس أخي الخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء لطول عنقه ابن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد الأنصاري الخطمي الصحابي سكن الكوفة، وكان أميرا عليها شهد [ ص: 317 ] الحديبية، وهو ابن سبع عشرة سنة، وشهد صفين والجمل والنهروان مع علي رضي الله عنه، وكان الشعبي كاتبه، وكان من أفاضل الصحابة، وقيل: إن لأبيه يزيد صحبة، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة وعشرون حديثا، أخرج البخاري منها حديثين أحدهما في الاستسقاء موقوف، وفي المظالم حديث النهي عن النهبى والمثلة، ومسلم أحدهما، وأخرجا له عن البراء، وأبي مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، مات زمن ابن الزبير رضي الله عنهما قال الواقدي: وفي الصحابة عبد الله بن يزيد جماعة هذا أحدهم، والثاني عبد الله بن يزيد القاري له ذكر في حديث عائشة أنه عليه السلام سمع قراءته، والثالث عبد الله بن يزيد النخعي، والرابع عبد الله بن يزيد البجلي له حديث: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" أورده ابن قانع، والخامس غلط فيه ابن المبارك في حديث ابن مربع كانوا على مساجدكم، الخامس أبو مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بفتح الهمزة وكسر السين، وقيل: بضمها، وقيل: يسيرة بضم أوله ابن عسيرة بفتح العين وكسر السين المهملتين ابن عطية بن جدارة بكسر الجيم، وقال ابن عبد البر بضم الخاء المعجمة ابن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي البدري شهد العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم، وشهد أحدا، ثم الجمهور على أنه لم يشهد بدرا، وإنما سكنها، وقال حمدون بن شهاب الزهري، وابن إسحاق صاحب المغازي، والبخاري في صحيحه: شهدها، وكذا الحكم بن عتبة، وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر، وسعد بن إبراهيم وغيرهما: لم يشهد بدرا، وقال الحكم وغيره من أهل الكوفة: شهدها، وأهل المدينة أعلم بذلك، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وحديثان اتفقا منها على تسعة، وللبخاري حديث، ولمسلم سبعة روى عنه عبد الله بن يزيد الخطمي، وابنه بشير، وغيرهما، سكن الكوفة ومات بها، وقيل: بالمدينة قبل الأربعين، قيل: سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين، روى له الجماعة، وفي الصحابة أبو مسعود هذا، وأبو مسعود الغفاري قيل: اسمه عبد الله، وثالث الظاهر أنه الأول.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب) الأنماطي بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى بيع الأنماط، وهو جمع نمط، وهو ضرب من البسط السلمي بضم السين، وفتح اللام نسبة إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان، وهو من شاذ النسب والقياس السليمي، وقال الرشاطي: السلمي في قيس غيلان، وفي الأزد، فالذي في قيس غيلان سليم بن منصور كما ذكرنا، والذي في الأزد سليم بن فهم بن غنم بن دوس، الخطمي بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء نسبة إلى خطمة أحد أجداد عبد الله بن يزيد، وقد ذكرنا أن اسمه عبد الله، وإنما سمي خطمة لأنه ضرب رجلا على خطمه أي أنفه، وقال الجوهري: الخطم من كل طائر منقاره، ومن كل دابة مقدم أنفه، وفيه، والمخاطم الأنوف واحدها مخطم بكسر الطاء، ورجل أخطم طويل الأنف، البدري بفتح الباء الموحدة نسبة إلى بدر، وهو الموضع الذي لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين من قريش فأعز الإسلام وأظهر دينه وهذا الموضع يسمى بدرا باسم الذي احتفر فيه البئر، وهو بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، بينه وبين المدينة ثمانية برد وميلان.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث والإخبار، والسماع، والعنعنة، ومنها أن رواته ما بين بصري، وواسطي، وكوفي، ومنها أن فيه رواية صحابي عن صحابي، ومنها أنه وقع للبخاري غالبا خماسيا، ولمسلم من جميع طرقه سداسيا.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هاهنا عن حجاج بن منهال، وفي المغازي عن مسلم، وفي النفقات عن آدم، وأخرجه مسلم في الزكاة عن ابن معاذ، عن أبيه، وعن محمد بن بشار، وأبي بكر بن رافع، عن غندر، وعن أبي كريب، عن وكيع كلهم عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي مسعود به، وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي في الزكاة، عن ابن بشار، عن غندر، وفي عشرة النساء عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضل كلاهما، عن شعبة.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات) قوله: "أنفق" من إنفاق المال وهو إنفاده وإهلاكه، والنفقة اسم وهي من الدراهم وغيرها، ويجمع على نفاق بالكسر نحو ثمرة وثمار، وقال الزمخشري: أنفق الشيء وأنفده أخوان، وعن يعقوب: نفق الشيء ونفد واحد، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب، ونحو ذلك إذا تأملت قلت معنى قوله: "أخوان" بينهما الاشتقاق الأكبر فإن بينهما تناسبا في التركيب، وفي المعنى لاشتمال كل منهما على معنى الخروج والذهاب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "على أهله" وفي العباب الأهل أهل الرجل وأهل الدار وكذلك الأهلة والجمع أهلات وأهلون والأهالي زادوا فيه الياء على غير قياس [ ص: 318 ] كما جمعوا ليلا على ليال، وقد جاء في الشعر: أهال مثل فرخ وأفراخ

                                                                                                                                                                                  وأنشد الأخفش:


                                                                                                                                                                                  وبلدة ما الأنس من أهالها ترى بها العوهق من وئالها



                                                                                                                                                                                  ومنزل أهل به أهله وقال ابن السكيت: مكان مأهول فيه أهله، ومكان آهل له أهل، وقال ابن عباد يقولون: هو أهلة لكل خير بالهاء، والفرق بين الأهل والآل أن الآل يستعمل في الأشراف وفي العباب: آل الرجل أهله، وعياله، وآله أيضا أتباعه، قال تعالى: كدأب آل فرعون

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عرفة: يعني من آل إليه بدين أو مذهب أو نسب، وآل النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته، وقال أنس رضي الله عنه: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آل محمد؟ قال: كل تقي"، قلت: هو واوي فلذلك ذكره أهل اللغة في باب أول، قوله: "يحتسبها" من الاحتساب، وقد فسرناه عن قريب، قوله: "صدقة" وهي ما تصدقت به على الفقراء.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله: "إذا" كلمة فيها معنى الشرط وأنفق الرجل جملة من الفعل والفاعل فعل الشرط، قوله: "على أهله" يتعلق بأنفق، قوله: "يحتسبها" جملة فعلية مضارعية وقعت حالا من الرجل والمضارع إذا وقع حالا وكان مثبتا لا يجوز فيه الواو على ما عرف، قوله: "فهو له صدقة" جواب الشرط، فلذلك دخلت فيه الفاء قوله: "فهو" مبتدأ والجملة أعني قوله: "له صدقة" خبره، فقوله: "صدقة" مبتدأ، وله "مقدما" خبره، والضمير أعني هو يرجع إلى الإنفاق الذي يدل عليه قوله: "أنفق" كما في قوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى أي العدل أقرب إلى التقوى.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) في قوله: "إذا أنفق" حذف المعمول ليفيد التعميم والمعنى إذا أنفق أي نفقة كانت صغيرة أو كبيرة، وفيه ذكر إذا دون إن لأن أصل إن عدم الجزم بوقوع الشرط وأصل إذا الجزم به وغلب لفظ الماضي مع إذا على المستقبل في الاستعمال، فإن استعمال إذا أكرمتني أكرمتك مثلا أكثر من استعمال إذا تكرمني أكرمك لكون الماضي أقرب إلى القطع بالوقوع من المستقبل نظرا إلى اللفظ لا إلى المعنى، فإنه يدل على الاستقبال لوقوعه في سياق الشرط، وفيه التنبيه بالحال لإفادة زيادة تخصيص له فكلما ازداد الكلام تخصيصا ازداد الحكم بعدا كما أنه كلما ازداد عموما ازداد قربا، ومتى كان احتمال الحكم أبعد كانت الفائدة في إيراده أقوى، قوله: "يحتسبها" أي يريد بها وجه الله والنفقة المطلقة في الأحاديث ترد إلى هذا الحديث وأمثاله المقيد بالنية لحديث امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وامرأة من الأنصار وسؤالهما: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وأيتامهما؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة"، وقول أم سلمة رضي الله عنهما: هل لي أجر في بني أبي سلمة أنفق عليهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم لك أجر ما أنفقت"، وقال القرطبي في قوله: "يحتسبها" أفاد بمنطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة واجبة أو مباحة وأفاد بمفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر لكن تبرأ ذمته من الواجبة لأنها معقولة المعنى.

                                                                                                                                                                                  (بيان البيان) فيه إطلاق النفقة على الصدقة مجازا إذ لو كانت الصدقة حقيقية كانت تحرم على الرجل أن ينفق على زوجته الهاشمية ووجود الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجات الهاشميات وغيرها قام قرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، والعلاقة بين الموضوع له، وبين المعنى المجازي ترتب الثواب عليهما وتشابههما فيه، فإن قلت: كيف يتشابهان؟ وهذا الإنفاق واجب والصدقة في العرف لا تطلق إلا على غير الواجب اللهم إلا أن تقيد بالفرض ونحوه؟ قلت: التشبيه في أصل الثواب لا في كميته، ولا كيفيته، فإن قلت: شرط البيانيون في التشبيه أن يكون المشبه به أقوى وهاهنا بالعكس لأن الواجب أقوى في تحصيل الثواب من النفل، قلت: هذا هو التشابه لا التشبيه والتشبيه لا يشترط فيه ذلك، وتحقيق هذا الكلام أنه إذا أريد مجرد الجمع بين الشيئين في أمر وأنهما متساويان في جهة التشبيه كعمامتين متساويتين في اللون فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه ليكون كل واحد من الطرفين مشبها ومشبها به احترازا من ترجيح أحد المتساويين في جهة التشبيه على الآخر، لأن في التشبيه ترجيحا، وفي التشابه تساويا، ويجوز التشبيه أيضا في موضع التشابه لكن إذا وقع التشبيه في باب التشابه صح فيه العكس بخلافه فيما عداه، وكان حكم المشبه به على خلاف ما ذكر من أن حقه أن يكون أعرف بجهة التشبيه من المشبه وأقوى حالا كتشبيه غرة الفرس بالصبح وعكسه، فيقال: بدا الصبح كغرة الفرس وبدت غرة الفرس كالصبح، متى أريد بوجه الشبه ظهور منير في سواد أكثر منه مظلم.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 319 ] أو حصول بياض فإنه متى كان المراد بوجه الشبه هذا كان من باب التشابه، وينعكس التشبيه لعدم اختصاص وجه الشبه، حينئذ بشيء من الطرفين بخلاف ما لو لم يكن وجه الشبه ذلك كالمبالغة في الضياء، فإنه لا يكون من باب التشابه ولا مما ينعكس فيه التشبيه، قوله: "على أهله" خاص بالولد والزوجة لأنه إذا كان الإنفاق في الأمر الواجب كالصدقة فلا شك أن يكون آكد، ويلزم منه كونه صدقة في غير الواجب بالطريق الأولى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية