الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  596 18 - حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زهير قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعن أحدكم - أو أحدا منكم - أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو ينادي - بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر أو الصبح، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل، حتى يقول هكذا، وقال زهير: بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدهما عن يمينه وعن شماله.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي أن أذان بلال كان قبل الفجر؛ لأنه أخبر أنه كان يؤذن بليل يعني: قبل طلوع الفجر.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أحمد بن يونس المعروف بشيخ الإسلام .

                                                                                                                                                                                  الثاني: زهير بن معاوية الجعفي .

                                                                                                                                                                                  الثالث: سليمان [ ص: 134 ] ابن طرخان التيمي البصري .

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبو عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي بفتح النون، وقد مر الكلام فيه في باب: الصلاة كفارة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عبد الله بن مسعود .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول في موضعين، وفيه أحد الرواة من المخضرمين وهو أبو عثمان، وفيه رواية التابعي عن التابعي وهما سليمان وأبو عثمان، وفيه أن شيخ البخاري منسوب إلى جده وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي، وفيه أن الاثنين الأولين من الرواة كوفيان والاثنان الآخران بصريان، وفيه عن أبي عثمان بالعنعنة، وفي رواية ابن خزيمة من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه، حدثنا أبو عثمان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الطلاق عن القعنبي، عن يزيد بن زريع، وفي خبر الواحد عن مسدد عن يحيى القطان، وأخرجه مسلم في الصوم عن زهير بن حرب، وعن محمد بن نمير، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن إسحاق بن إبراهيم، وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن يونس به، وعن مسدد به، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي عن يحيى به، وفي الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن يحيى بن حكيم .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: " لا يمنعن أحدكم " بنصب أحدكم وفاعله هو قوله: " أذان بلال ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " أو أحدا منكم " شك من الراوي، وقال صاحب (التلويح): يحتمل أن يكون هذا الشك من زهير، فإن جماعة رووه عن سليمان التيمي فقالوا: لا يمنعن أحدكم أذان بلال، وقال الكرماني : أو واحدا منكم، ثم قال: هل فرق بين أحدكم أو واحدا منكم؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): كلاهما عام لكن الأول من جهة أنه اسم جنس مضاف، والثاني لأنه نكرة في سياق النفي. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الفرق بين أحد وواحد من جهة المعنى أن أحدا يرجع إلى الذات وواحدا يرجع إلى الصفات.

                                                                                                                                                                                  قوله: " من سحوره " بفتح السين وهو ما يتسحر به، وبضمها التسحر كالوضوء والوضوء، وفي بعض النسخ من سحره، ولم أعلم صحته.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فإنه " أي: فإن بلالا يؤذن بليل أو ينادي، شك من الراوي، ومعناهما واحد، وقوله: " بليل " أي: في ليل.

                                                                                                                                                                                  قوله:" ليرجع " بفتح الياء وكسر الجيم المخففة يستعمل هذا لازما ومتعديا، تقول: رجع زيد ورجعت زيدا، وهاهنا متعد وفاعله بلال.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قائمكم " بالنصب مفعوله ومعناه يرد القائم أي: المتهجد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا أو يكون له حاجة إلى الصيام فيتسحر، وقال الكرماني : ليرجع إما من الرجوع وإما من الرجع، وقائمكم مرفوع أو منصوب.

                                                                                                                                                                                  (قلت): فهم منه أنه جوز الوجهين هاهنا أحدهما كون ليرجع لازما ويكون قائمكم فاعله مرفوعا، والآخر يكون متعديا ويكون قائمكم منصوبا على أنه مفعول له.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ولينبه " من التنبيه أي: وليوقظ نائمكم، وقال الكرماني : ولينبه من التنبيه وهو الإنباه، وفي بعضها ولينتبه من الانتباه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): جوز الوجهين فيه أيضا ثم قال: معناه أنه إنما يؤذن بالليل ليعلمكم أن الصبح قريب فيرد القائم المتهجد إلى راحته لينام لحظة ليصبح نشيطا، ويوقظ نائمكم ليتأهب للصبح بفعل ما أراده من تهجد قليل أو تسحر أو اغتسال.

                                                                                                                                                                                  (قلت): أو لإيتار إن كان نام عن الوتر، وهذا كما ترى جوز الكرماني الوجهين في كل واحد من قوله: ليرجع ولينبه ولم يبين أنهما رواية أم لا، والظاهر أنه تصرف من جهة المعنى، وقال بعضهم: من روى ليرجع قائمكم من الترجيع يعني بضم الياء وتشديد الجيم فقد أخطأ.

                                                                                                                                                                                  (قلت): إن كان خطؤه من جهة الرواية فيمكن وإلا فمن جهة المعنى، فليس بخطإ، وتعليل هذا القائل الخطأ بقوله: فإنه يصير من الترجيع وهو الترديد وليس بمراد هنا، فيه نظر لأن الذي روى من الترجيع له أن يقول ما أردت به الترديد، وإنما أردت به التعدية، فإن رجع الذي هو لازم يجوز تعديته بالتضعيف كما في سائر الألفاظ اللازمة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وليس أن يقول " بالياء آخر الحروف وهذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أي: قال صلى الله عليه وسلم: ليس الفجر أو الصبح على الشك من الراوي أن يقول الشخص هكذا وأشار بأصبعيه ورفعهما إلى فوق وطأطأ إلى أسفل وأشار به النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفجر الكاذب وهو الضوء المستطيل من العلو إلى السفل وهو من الليل ولا يدخل به وقت الصبح، ويجوز فيه التسحر ونحوه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حتى يقول " هكذا إلى آخره إشارة إلى الصبح الصادق وقد فسر زهير الراوي الصادق بقوله: بسبابتيه إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  واعلم أن قوله: " الفجر " اسم ليس وخبره هو قوله: " أن يقول " ومعنى القول بالأصابع الإشارة بها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بأصابعه " بلفظ الجمع رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني : " بأصبعيه "، وقال الكرماني : ويروى " بأصبعه " بلفظ [ ص: 135 ] المفرد ولم يذكره غيره، وفي الإصبع عشر لغات: فتح الهمزة وضمها وكسرها، وكذلك الباء فهذه تسع لغات، والعاشر الأصبوع، والسبابة من الأصابع التي تلي الإبهام، وسميت بذلك لأن الناس يشيرون بها عند الشتم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إلى فوق " روي مبنيا على الضم على نية الإضافة ومنونا بالجر على عدم نيتها، وهكذا حكم الأسفل لكنه غير منصرف فجره بالفتح، وكذا سائر الظروف التي تقطع عن الإضافة، وقرئ بهما في قوله تعالى: لله الأمر من قبل ومن بعد

                                                                                                                                                                                  قوله: " وطأطأ " على وزن دحرج أي: خفض أصبعيه إلى أسفل، وهذا هو الإشارة إلى كيفية الصبح الصادق، وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس عن سليمان قال: الفجر ليس هكذا، ولكن الفجر هكذا، واختلفت ألفاظ الرواة في هذا فقال بعضهم: وأخصر ما وقع فيها رواية جرير عن سلمان عند مسلم " ليس الفجر المعترض ولكن المستطيل ".

                                                                                                                                                                                  (قلت): رواية مسلم: " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا "، وحكاه حماد بن زيد وقال يعني معترضا: وفي رواية أبي الشيخ من طريق شعبة، عن سوادة، سمعت سمرة يخطب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض حتى يبرق الفجر أو ينفجر الفجر ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه أن الأذان الذي كان يؤذن به بلال رضي الله تعالى عنه كان لرجع القائم وإيقاظ النائم، وبه قال أبو حنيفة قال: ولا بد من أذان آخر كما فعل ابن أم مكتوم وهو قول النووي أيضا، وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيه فيما مضى، وقال أبو الفتح القشيري : الذين قالوا بجواز الأذان للصبح قبل دخول الوقت اختلفوا في وقته، فذكر بعض الشافعية أنه يكون في وقت السحر بين الفجر الصادق والكاذب، ويكره التقديم على ذلك الوقت، وعند البعض يؤذن عند انقضاء صلاة العتمة من نصف الليل. وقيل: عند ثلث الليل. وقيل: عند سدسه الآخر.

                                                                                                                                                                                  وقال أبو يوسف وأحمد ومالك في قول الجواز من نصف الليل وهو الأصح من أقوال أصحاب الشافعي رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                  والقول الثاني: عند طلوع الفجر في السحر، وقال النووي : وبه قطع البغوي وصححه القاضي حسين والمتولي .

                                                                                                                                                                                  والثالث يؤذن لها في الشتاء لسبع يبقى من الليل، وفي الصيف لنصف سبع يبقى.

                                                                                                                                                                                  والرابع: من ثلث الليل آخر الوقت المختار.

                                                                                                                                                                                  والخامس: جميع الليل وقت لأذان الصبح، حكاه إمام الحرمين وقال: لولا حكاية أبي علي له وأنه لم ينقل إلا ما صح عنده لما استجزت نقله، وكيف يحسن الدعاء لصلاة الصبح في وقت الدعاء للمغرب والسرف في كل شيء مطروح، وأما السبع ونصف السبع فحديث باطل عند أهل الحديث، وإنما رواه الشافعي عن بعض أصحابه، عن الأعرج، عن إبراهيم بن محمد، عن عمارة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد القرظي، وهو مخالف لمذهبه، فإنه قال: كان آذاننا في الشتاء لسبع ونصف سبع يبقى من الليل، وفي الصيف لسبع يبقى منه، وقال ابن الأثير في (شرح المسند): وتقديم الأذان على الفجر مستحب، وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأبو يوسف، وقال بعضهم: ادعى بعض الحنفية كما حكاه السروجي عنهم أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرا أو تسحيرا كما يقع للناس اليوم، وهذا مردود لأن الذي يصنعه الناس اليوم محدث قطعا، وقد تظافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعي مقدم.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لفظ الأذان يتناول معناه اللغوي والشرعي، وقد قام دليل من الشارع أن المراد من أذان بلال ليس معناه الشرعي وهو أذان ابن أم مكتوم؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يوجد الفرق بين أذانيهما والحال أن الشارع فرق بينهما وقد قال: إن أذان بلال لإيقاظ النائم ولرجع القائم، وقال لهم: لا يغرنكم أذان بلال وجعل أذان ابن أم مكتوم هو الأصل كما قررناه فيما مضى، وتظافر الطرق لا يصادم ما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  وفيه: بيان الفجر الكاذب والصادق .

                                                                                                                                                                                  وفيه: زيادة الإيضاح بالإشارة تأكيدا للتعليم، وقال المهلب : يؤخذ منه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية