الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  57 1- حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: حدثني قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن المذكور فيه: والنصح لكل مسلم، وفي الترجمة لعامة المسلمين ومراد البخاري من الترجمة وقوع الدين على العمل فإنه سمى النصيحة دينا، وقال ابن بطال: مقصوده الرد على من زعم أن الإسلام القول دون العمل، وهو ظاهر العكس لأنه لما بايعه على الإسلام شرط عليه، والنصح لكل مسلم، فلو دخلت في الإسلام لما استأنف له بيعة.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم خمسة الأول: مسدد بن مسرهد تقدم، الثاني يحيى بن سعيد القطان تقدم، الثالث إسماعيل بن أبي خالد البجلي التابعي تقدم، الرابع قيس بن أبي حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة واسمه عبد عوف، ويقال: عوف بن عبد الحارث بن الحارث بن عوف الأحمسي البجلي الكوفي التابعي المخضرم أدرك الجاهلية، وجاء ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم فقبض وهو في الطريق ووالده صحابي سمع خلقا من الصحابة منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وليس في التابعين من يروي عنهم غيره وقيل: لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف، وعنه جماعة من التابعين وجلالته متفق عليها، وهو أجود الناس إسنادا كما قاله أبو داود، ومن طرف أحواله أنه روى عن جماعة من الصحابة لم يرو عنهم غيره منهم أبوه ودكين بن سعيد والصنابح بن الأعسر ومرداس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم مات سنة أربع، وقيل: سبع وثمانين، وقيل: سنة ثمان [ ص: 323 ] وتسعين روى له الجماعة، الخامس جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نضر بن ثعلبة البجلي الأحمسي أبو عبد الله أو أبو عمر، نزل الكوفة ثم تحول إلى قرقيسيا، وبها توفي سنة إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك، له مائة حديث اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بستة، كذا في شرح قطب الدين، وفي شرح النووي له مائتا حديث انفرد البخاري بحديث، وقيل: بستة، ولعل صوابه: ومسلم بستة بدل وقيل: بستة، وقال الكرماني في شرحه لجرير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث ذكر البخاري منها تسعة، وهذا غلط صريح، وكان قدومه على رسول الله عليه الصلاة والسلام سنة عشر في رمضان فبايعه وأسلم، وقيل: أسلم قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بأربعين يوما، وكان يصلي إلى سنام البعير كانت صنمه ذراعا، واعتزل الفتنة، وكان يدعى يوسف هذه الأمة لحسنه، روى عنه بنوه عبد الله، والمنذر، وإبراهيم، وابن ابنه أبو زرعة هرم، روى له الجماعة، وروى الطبراني في ترجمته أن غلامه اشترى له فرسا بثلاثمائة فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال: إن فرسك خير من ثلاثمائة فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة، وقال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وليس في الصحابة جرير بن عبد الله البجلي إلا هذا، ومنهم جرير بن عبد الله الحميري فقط، وقيل: ابن عبد الحميد، ومنهم جرير بن الأرقط، وجرير بن أوس الطائي، وقيل: جريم، وأبو جرير يروي حديثا عن ابن أبي ليلى عنه.

                                                                                                                                                                                  (بيان الأنساب) البجلي في كهلان بفتح الجيم ينسب إلى بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة بن مالك، وهو مذحج كانت عند أنمار بن أراش بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان فولده منها، وهم عبقر، والغوث، وجهينة ينسبون إليها منهم جرير بن عبد الله المذكور، قال الرشاطي: جرير بن عبد الله بن جابر، وهو الشليل بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم بن عريف بن خزيمة بن علي بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر، وهو مالك بن عبقر وهو ولد بجيلة ذكره أبو عمر، ورفع نسبه غير أنه قال في خزيمة: جزيمة وفي علي: عدي، وكلاهما وهم وتصحيف، وكما ذكرناهما ذكره ابن الكلبي، وابن حبيب، وغيرهما، وقال ابن دريد: اشتقاق البجيلة من الغلظ، يقال: ثوب بجيل أي غليظ، ورجل بجال أيضا إذا كان غليظا سمينا، وكل شيء عظمته وغلظته فقد بجلته، الأحمسي بالحاء المهملة في بجيلة أحمس بن الغوث، والغوث هذا ابن لبجيلة كما ذكرنا من حمس الرجل إذا شجع، وأيضا هاج وغضب، وهو حمس وأحمس كرجل وأرجل وفي ربيعة أيضا أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار منهم المتلمس الشاعر، وهو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوقن بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع، وبصيغة الإفراد، والعنعنة، ولا يخفى الفرق بين الصيغتين، ومنها أن رواته كلهم كوفيون ما خلا مسددا، ومنها أن ثلاثة منهم وهم إسماعيل وقيس وجرير مكنون بأبي عبد الله، ومنها أن هؤلاء الثلاثة كلهم بجليون ومنها أن الاثنين منهم إسماعيل وقيسا تابعيان.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هنا كما ترى وأخرجه أيضا في الصلاة عن أبي موسى، عن يحيى، وفي الزكاة عن محمد بن عبد الله، عن أبيه وفي البيوع عن علي، عن سفيان، وفي الشروط عن مسدد أيضا، عن يحيى، وأخرجه مسلم في الإيمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، وأبي أسامة، عن يحيى به، وأخرجه الترمذي في البيعة عن محمد بن بشار عن يحيى به.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات والإعراب) قوله: "بايعت" من المبايعة وهو عقد العهد وهو فعل وفاعل، ورسول الله كلام إضافي مفعوله، قوله: "على إقام الصلاة" أصله إقامة الصلاة وإنما جاز حذف التاء لأن المضاف إليه عوض عنها وقد مر تفسير إقامة الصلاة، قوله: "وإيتاء الزكاة " أي إعطائها، قوله: "والنصح" بالجر عطف على المجرور قبله.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قوله: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" كانت مبايعته عليه السلام لأصحابه في أوقات بحسب الحاجة إليها من تجديد عهد أو توكيد أمر، فلذا اختلفت ألفاظها كما سيأتي، وأخرجا من رواية الشعبي عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني فيما استطعت والنصح لكل مسلم، ورواه ابن حبان من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جده وزاد فيه: فكان جرير إذا اشترى وباع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه فاختر، قوله: "فيما استطعت" روي بضم التاء وفتحها قاله قطب الدين في (شرحه) ثم قال: فعلى الرفع يحتاج جرير [ ص: 324 ] ينطق بها أي قل فيما استطعت وهو موافق لقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها والمقصود من هذه اللفظة التنبيه على أن المراد فيما استطعت من الأمور المبايع عليها هو ما يطاق كما هو المشترط في أصل التكليف، وفي قوله: "لقنني" دلالة على كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الخطابي: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة للمسلمين شرطا في الذي يبايع عليه كالصلاة والزكاة، فلذلك تراه قرنها بهما، فإن قلت: لم اقتصر عليهما ولم يذكر الصوم وغيره؟ قلت: قال القاضي عياض: لدخول ذلك في السمع والطاعة يعني المذكور في الرواية الأخرى التي ذكرناها الآن، وقال غيره: إنما اقتصر عليهما لأنهما أهم أركان الدين وأظهرها وهما العبادات البدنية والمالية.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية